مع اقتراب نهاية عهد إدارة بايدن، نلاحظ تحركات دبلوماسية نشطة بشكل واضح، وهو ما يُعتبر غير اعتيادي لحكومة تقترب من تسليم رايتها بشكل نهائي. فمنذ إعلان بايدن انسحابه من السباق الرئاسي، ومن ثم إعلان هاريس كالمرشح الجديد للحزب الديمقراطي، كان من المتوقع انخفاض نشاط إدارة بايدن بشكل تدريجي مع اقتراب موعد الانتخابات وتسليم السلطة، أو على الأقل عدم ازدياد هذا النشاط، خاصة وأن من أكثر الانتقادات الموجهة لبايدن وإدارته هو عدم وجود نشاط كافٍ أو فعال على الصعيد الدولي. إلا أن ما حدث كان العكس تمامًا، مما يدفع إلى التساؤل حول أسباب هذا النشاط والنتائج التي ينتظرها بايدن من مثل هذه التحركات.
أبرز التحركات الدبلوماسية الأخيرة
زيارة مستشار الأمن القومي للصين: من أهم وأبرز التحركات الدبلوماسية في الفترة الأخيرة، هي زيارة مستشار الأمن الأمريكي “جيك سوليفان” لبكين في نهاية أغسطس الماضي، وهي خطوة في غاية الأهمية، في ظل احتدام المنافسة الأمريكية الصينية على مختلف الأصعدة. وكانت هذه الزيارة مهمة لعدة أسباب؛ أولاً، هي بمثابة لقاء دبلوماسي رفيع المستوى بين البلدين لم يتكرر كثيرا منذ تولى بايدن منصبه، وكان أحد الأهداف الرئيسية هو إنشاء قناة اتصال لم يتم الاستفادة منها بشكل كافٍ في السنوات السابقة، مع التركيز على أهمية الحوارات المباشرة للتخفيف من المخاطر المرتبطة بالمنافسة الاستراتيجية.
كان أحد الأهداف الحاسمة لرحلة “سوليفان” أيضًا هو مناقشة القضايا الجارية المتعلقة بالتجارة والاستقرار الاقتصادي، فخلال اجتماعاته، دفع “سوليفان” من أجل تجديد التعاون في قضايا التجارة، مؤكدًا على الحاجة إلى نهج متوازن يعالج المخاوف المتبادلة. وعلاوة على ذلك، تناول “سوليفان” المخاوف العسكرية الاستراتيجية، وخاصة فيما يتعلق ببحر الصين الجنوبي وتايوان، حيث أن لكلا البلدين مصالح راسخة في هذه المناطق، والحفاظ على خطوط الاتصال المفتوحة أمر بالغ الأهمية لتجنب الأخطاء العسكرية. وكان تغير المناخ نقطة محورية أخرى في مناقشات “سوليفان”، حيث تمثل كلتا الدولتين جزءًا كبيرًا من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، وأكد “سوليفان” على ضرورة التعاون في القضايا البيئية.
ثانيًا الوساطة لوقف إطلاق النار في غزة: تتصدر الولايات المتحدة مشهد المفاوضات مؤخرًا، حيث سخرت في الفترة الأخيرة جزءًا كبيرًا من طاقتها لإنجاح عملية المفاوضات، سواء عن طريق محاولة إيجاد صيغة ترضي طرفي الصراع، أو عن طريق ممارسة الضغط على إسرائيل بشكل رسمي وغير رسمي لقبول شروط الاتفاقية، مع التواصل المستمر مع مصر وقطر لضمان إقناع حماس أيضًا بالشروط. وبالرغم من أنه لم يتم التوصل لاتفاق واضح إلى الآن، إلا أن الجهد المبذول من الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة لا يمكن إنكاره.
ولكن بالرغم من تصدر الولايات المتحدة المشهد، وهو الأمر الذي حرصت وسائل الإعلام الغربية على إظهاره، لا يجب أن يمحو الفترة السابقة لهذا النشاط، والتي كانت فيها واشنطن في حالة من الخمول والسلبية الشديدة بشأن تهدئة الصراع، بل وفي بعض الأحيان كانت عاملًا أساسيًا في عرقلة محاولات التهدئة، سواء عن طريق التأكيد على حق إسرائيل في الرد والدفاع عن نفسها في بداية الحرب، وترويج الأكاذيب التي تنشرها قوات الاحتلال على المستويين الرسمي وغير الرسمي، والتي كانت تساهم في تأجيج حالة الاحتقان، أو عن طريق تعطيل مقترحات قرارات لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار باستخدام الفيتو الخاص بها، أو عن طريق الضغوطات غير المباشرة على أي طرف حاول تهدئة الوضع أو الضغط على إسرائيل بأي شكل من الأشكال.
إلا أن الموقف الأمريكي بدأ في التحول بالتدريج لمحاولة الضغط على إسرائيل للقبول بوقف إطلاق النار والتوجه لمفاوضات بشأن اليوم التالي، بالإضافة إلى وضع رؤية لليوم التالي تحاول أيضًا دفعها ليتم الاتفاق عليها بعد التوصل لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. بدأ هذا التحول قبل انسحاب بايدن من الانتخابات، ولكن ظهر هذا الاهتمام الذي جعل واشنطن في صدارة مشهد الوساطة في المفاوضات بعد انسحابه.
تفسيرات هذه التحركات
يمكن قراءة هذه التحركات الأخيرة، سواء في الصين أو في الشرق الأوسط، من زاوية كونها تحركات مطلوبة بل وملحة، حيث إن التنافس مع الصين أصبح في كافة المجالات؛ الاقتصادية والبيئية وحتى العسكرية والسياسية، وكل المؤشرات تشير إلى تفوق الصين في هذا التنافس إلى الآن بشكل واضح، حتى في الملفات التي تُعتبر حديثة بالنسبة لها، مثل الريادة السياسية العالمية، فنجاحها الباهر في المجالات الأخرى يُشير إلى قدرتها على التفوق أيضًا، وهو ما يجعل الولايات المتحدة لا تملك أي خيارات سوى التحرك الدبلوماسي لتحويل هذه المنافسة إلى تعاون حقيقي يجعل المنافسة ودية تدفع كليهما إلى الأمام.
هذا الملف لا يختلف كثيرًا عن ملف الحرب في غزة، حيث أن الوضع كان يتطلب تدخلاً سريعًا لمنع الصراع من التفاقم وسقوط الكثير من الضحايا، وهو ما حدث بالفعل، بل تطور الوضع ليصبح يهدد بصراع إقليمي على مجال أوسع. من الممكن أيضًا أن يكون تأخر التدخل الأمريكي القوي سببًا من أسباب عدم قدرتها حاليًا على صنع تأثير حقيقي. لذا تجعل هذه المعطيات السؤال حول أسباب هذا النشاط المفاجئ سؤالاً ملحًا، فسواء ملف التنافس مع الصين، أو الحرب في غزة، فكان كلاهما يحتاج تحركًا مبكرًا وسريعًا، ولكن إدارة بايدن لم تُظهر أي شكل من أشكال هذا التحرك السريع أو الفعال على مدى 4 أعوام، فلماذا حدث هذا التغيير، بالرغم من اقتراب نهاية هذه المدة الرئاسية مع عدم وجود احتمالية لتجديدها.
هناك بعض التفسيرات الواردة لمثل هذه التحركات المتأخرة، فمن الممكن استخدام التفسير الرسمي وهو أن مثل هذه القضايا ملحة وتؤثر على العالم كله بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص مما يدفع الإدارة الأمريكية إلى التحرك بغض النظر عن اقتراب نهاية ولايتها، إلا أن هذا التفسير يمكن انتقاده بما تم تناوله سابقًا وهو أن هذه التحركات جاءت متأخرة بشكل كبير عن التوقيت الذي كان من المفترض أن تبدأ فيه.
يمكن النظر أيضًا إلى الأمر من زاوية أخرى، وهي أنه بالرغم من أن إدارة بايدن لم تظهر نجاحات واضحة، إلا أنه لا يجب نسيان أن بايدن سياسي مخضرم، ومن كبار رجال الحزب الديمقراطي، هذا بالإضافة إلى أنه كان نائبًا للرئيس السابق باراك أوباما الذي يمتلك شعبية كبيرة عند الكثير من الأمريكيين، مما يشير إلى أنه من الممكن أن تكون هذه التحركات هي محاولة لحفظ ماء الوجه بشكل أو بآخر لإدارة ظهرت في حالة من العجز والتراخي، خاصة وأنه حاليًا لن يتمكن بايدن من الحصول على فرصة أخرى لإظهار عكس هذه الصورة.
أيضًا من الاحتمالات الأخرى المرجحة أن تكون هذه التحركات هي نوع من الدعاية بشكل أو بآخر لكامالا هاريس، فبصفتها نائبة الرئيس فهي عامل وجزء أساسي من هذه التحركات، وهو ما سينتقص من الأفضلية التي يمتلكها ترامب عليها، وهي أنه يملك تجربة فعلية في إدارة البلاد، ومن الممكن أن تعتبر ناجحة في بعض الملفات، على الأقل مقارنة ببايدن. أيضًا من الممكن أن تحاول هاريس أن تنسب الفضل لنفسها في هذه التحركات، خاصة في حالة النجاح في إحراز تقدم، مما يجعلها تظهر في صورة أنها حققت تقدم ونجاحات حال ما حصلت على فرصة الترشح للرئاسة. بالإضافة إلى ذلك لا تعتبر هذه التحركات دعاية لشخص هاريس فقط، بل من الممكن اعتبارها دعاية للحزب الديمقراطي ككل، حيث أن النقطة الأساسية التي يبني عليها ترامب والجمهوريون دعايتهم هي أن سياسات الديمقراطيين هي السبب الرئيسي في تدهور الوضع، فمن الممكن أن تكون هذه التحركات هي محاولة لهدم هذه الصورة التي بدأ الكثير من الأمريكيين تبنيها في الفترة الماضية.
وفي الختام، فإن عملية اتخاذ القرارات السياسية، خاصة الدبلوماسية، هي عملية في غاية التعقيد ولا تترتب التحركات على بعد أو هدف واحد بل من اللازم وضع كل الأبعاد في الاعتبار قبل اتخاذ القرار، ومن المهم، خاصة لدولة مثل الولايات المتحدة، أن يكون القرار أو التحرك المتخذ يخدم العديد من المصالح، مما يجعل من المرجح أن تكون كل هذه الاحتمالات هي المسببات الرئيسية لمثل هذه التحركات المتأخرة، ومن الممكن أيضًا أن تكون هناك أسباب وأبعاد أخرى متخذة في الاعتبار، فلا يمكن الجزم بشكل قاطع بالسبب أو الأسباب الرئيسية الكاملة لهذا، لكن ما يمكن أن نجزم به هو أن هذه التحركات تهدف لمكاسب سياسية في ظل اقتراب موعد الانتخابات والتوتر وحالة الانقسام الموجودة في الشارع الأمريكي، وأنها محرك رئيسي للقرار باتخاذ مثل هذه التحركات.