بسنت جمال
تتوقع منظمة العمل الدولية انخفاض عدد ساعات العمل بحلول عام 2022 بنسبة 2% مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة، وهو ما يُعادل عجزًا قدره حوالي 52 مليون عامل بدوام كامل، كما تشير التنبؤات إلى ارتفاع معدل البطالة العالمي إلى 207 ملايين فرد بحلول نهاية العام الجاري متجاوزة مستويات عام 2019 بنحو 21 مليون شخص.
وتأتي تلك التوقعات في الوقت الذي يتزامن فيه ارتفاع معدلات البطالة مع تراجع في معروض العمالة، حيث تعاني فيه الشركات على مستوى العالم من أزمة يُمكن إطلاق مصطلح “موجة الاستقالات الكبرى” عليها حيث تكافح المؤسسات من أجل العثور على موظفين مؤهلين للعمل لديها؛ إذ تشير الدراسات إلى احتمالية وجود نقص بنحو 85 مليون عامل حول العالم بحلول عام 2030.
أسباب ومُحركات
أظهر أحد استطلاعات الرأي الصادرة عن شركة “PWC” أن 41% من القوى العاملة العالمية تعتزم مغادرة وظائفها الحالية، حيث يجد البعض وظائف ذات رواتب أعلى أو بيئة عمل أفضل، والبعض الآخر يتجه لبدء عمله الخاص، فضلًا عن العديد من الأسباب التي سيتم شرحها تفصيليًا تاليًا، وفي الوقت نفسه تشير نتائج الاستطلاع إلى أن حوالي 87% تواجه عقبات أمام عملية التوظيف.
وبين شهري أبريل وأغسطس 2021، استقال نحو 20 مليون عامل من وظائفهم في الولايات المتحدة، كما أعرب حوالي 40% من الموظفين في أستراليا عن رغبتهم في البحث عن وظيفة جديدة في غضون الأشهر الستة المقبلة، كما قرر عامل من كل ستة عمال تتراوح أعمارهم بين 18 عامًا و29 عامًا ترك وظائفهم في أمريكا اللاتينية. ورغم تباين تلك البيانات بين كل منطقة والأخرى، إلا أنها تشترك في أسباب تلك الأزمة، كما يتبين من النقاط الآتية:
• العامل الديموغرافي: يُعتبر التوزيع الديموغرافي للسكان من أكبر التحديات التي تواجه سوق العمل خلال القرن الحالي، حيث إنه من المتوقع أن يتضاعف عدد كبار السن الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا أو أكثر بين عامي 2030 و2050، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد كبار السن الذين تبلغ أعمارهم 80 عامًا وأكثر ثلاث مرات خلال نفس الفترة. ويعني هذا أن المزيد من كبار السن سيتجهون إلى التقاعد في السنوات المقبلة، وستحتاج هذه الوظائف الشاغرة لمن يشغلها.
وتبدو تلك البيانات مقلقة بالنسبة لأصحاب الأعمال لاسيما في ظل تزامن أزمة الشيخوخة مع انخفاض معدلات المواليد، حيث ستزيد الصعوبات الماثلة أمامهم فيما يتعلق بتعيين الشباب وحديثي التخرج ذوي المهارات المرتفعة أو ذوي القدرة على تحمل ظروف العمل غير المواتية. كما تشير بيانات معدل الخصوبة إلى الاتجاه ذاته، حيث تتجه العائلات في الاقتصادات المتقدمة إلى تبني خيار عدم إنجاب الأطفال، ويوضح الشكل الآتي معدل الخصوبة في عدد من الدول حول العالم:
Source: World Bank, Fertility rate, total (births per woman).
يتبين من الرسم السابق أن معدلات الخصوبة في كلٍ من أوروبا وآسيا الوسطى ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا والولايات المتحدة تتسم بكونها ذات اتجاه سالب متناقص منذ عام 2010 وحتى عام 2020، لتبلغ أدناها في كندا عند 1.4 طفل مولود لكل امرأه. وتشير التقديرات إلى أن معدلات الخصوبة في أكثر من 70 دولة حول العالم تعتبر بالفعل أقل من المعدل الطبيعي البالغ 2.1 طفل لكل امرأة.
• تداعيات جائحة كورونا: بدأ العالم يلتفت إلى أزمة الشيخوخة على أنها تهديد مباشر لسوق العمل العالمي عقب انتشار جائحة كورونا التي أجبرت العديد من كبار السن إلى التقاعد مبكرًا بسبب المخاوف الصحية، حيث فضل الكثير منهم قضاء المزيد من الوقت مع أسرهم بدلًا من العمل. بالإضافة إلى ذلك، أسفر وباء كورونا عن حالة تسريح جماعي للموظفين في معظم الشركات والصناعات خاصة تلك المتضررة من تداعيات الوباء مثل قطاع السياحة والفنادق والمطاعم، ولهذا قرر بعض العمال التوجه للقطاعات الأخرى أو العمل عن بُعد. ولكن عقب انحسار موجات الوباء بشكل نسبي ومع إعادة افتتاح الاقتصاد العالمي وازدهار النشاط الاقتصادي نظرًا لارتفاع الطلب، بدأت الشركات تعلن عن حاجتها التوظيفية من جديد، ولكنها لم تجد إقبالًا من قبل المواطنين الذين أبدوا رغبتهم في عدم العودة للعمل من جديد، فعلى سبيل المثال، قرر واحد من كل ثلاثة عمال بقطاع الضيافة الأمريكي عدم العودة إلى العمل. وعلاوة على ذلك، ساهمت الجائحة في تغيير تفضيلات العمل لدى الموظفين حيث بدأوا في الابتعاد عن الوظائف التي تتطلب اتصالًا مكثفًا ومباشرًا مع العملاء، أو تتطلب عملًا شاقًا بدنيًا، أو لا توفر قدرًا كبيرًا من المرونة، مثل النقل والتخزين، وتجارة الجملة والتجزئة، أو الفنادق والمطاعم.
• التكنولوجيا والتعليم: يعتبر زيادة المكون التكنولوجي في الصناعات التقليدية من أسباب أزمة العمالة الحالية، حيث أصبحت الآلات والمعدات أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية في الوقت الحالي، وتم دمج التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والأتمتة في أماكن العمل. ولكن لم يتم تدريب إعادة تدريب العمال على التعامل مع هذه التكنولوجيا، حيث أعرب ثلاثة أرباع أصحاب العمل في الولايات المتحدة عن أنهم لا يستطيعون توظيف أشخاص لديهم المهارات المطلوبة. ويعني هذا أن هناك فجوة متزايدة بين متطلبات سوق العمل والمنتج التعليمي، وهو ما يعبر عن عدم قدرة منظومة التعليم على توفير احتياجات سوق العمل من المؤهلات والمهارات المطلوبة، وانفصال سياسة التعليم عن خطط التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، فلا بد أن يتم توجيه الأفراد إلى المجالات التعليمية والتخصصات المختلفة وفقًا لاحتياجات سوق العمل.
• اضطرابات الهجرة: أسفرت جائحة كورونا عن عودة الكثير من العمالة الوافدة إلى بلدانهم الأصلية بسبب قيود السفر، وشكلت اضطرابات الهجرة تلك أزمة أمام الدول التي تعتمد بشكل كبير على العمال المهاجرين مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا وكندا والمملكة العربية السعودية، حيث يشكل العمال المهاجرون 5% من القوة العاملة العالمية. فعلى سبيل المثال، غادر نحو 1.3 مليون عامل مهاجر المملكة المتحدة بسبب الوباء وإجراءات البريكست، وشهدت كندا انخفاضًا قدره 400 ألف عامل مهاجر في الربع الأول من عام 2021 مقارنة بالسنوات السابقة. وبناء على ذلك، فإن تحديات الهجرة تزيد من حدة النقص في اليد العاملة، ومن غير المرجح أن تعود إلى مستويات ما قبل الجائحة في العديد من المناطق حول العالم قبل سنوات عديدة.
• تراجع الأجور: يُمثل ارتفاع معدل التضخم أحد التحديات الصعبة التي تواجه الاقتصاد العالمي في الآونة الأخيرة، ولا سيما عقب اندلاع الحرب الأوكرانية مما ساهم في تراجع القيمة الحقيقة للأجور، وهو ما شجع العمال على المطالبة برفع الأجور، حيث إنه في بعض مناطق العالم قد لا تكون الزيادات في أجور العمال كافية لتغطية تكلفة ارتفاع التضخم، وقد يدفع هذا السبب بعض الموظفين للبحث عن وظيفة أخرى باعتبار الراتب حافزًا قويًا لتغيير الوظائف. ومن ناحية أخرى، ستواجه العديد من الشركات صعوبات جمة في رفع الأجور بسبب معاناتها من زيادة تكاليف الإنتاج والتشغيل، حيث تعاني تلك الشركات من تداعيات ارتفاع أسعار المواد الخام والطاقة والشحن، فضلًا عن تراجع سعر الصرف في العديد من الدول حول العالم مما يجعل تكلفة استيراد السلع أكثر تكلفة بالنسبة لأصحاب الأعمال.
• رفع أسعار الفائدة: يُنظر إلى “السياسة النقدية التشددية” كأحد الأسباب غير المباشرة لأزمة العمالة التي يشهدها العالم حاليًا، ويرجع ذلك إلى ارتفاع الودائع البنكية لمستويات قياسية خلال أزمة كورونا التي اتسمت بانخفاض ثقة المستهلكين في الاقتصاد، وإطلاق حزم التحفيز الاقتصادي وتقديم إعانات البطالة في بعض الدول حول العالم، فضلًا عن تشدد الإجراءات الاحترازية التي شجعت الأفراد على زيادة مدخراتهم. وعقب انحسار موجات كورونا وبدء أزمة عالمية جديدة تتمثل في الحرب الأوكرانية والتي أجبرت البنوك المركزية العالمية على رفع أسعار الفائدة لاحتواء معدلات التضخم. وقد ساهم كلٌ من زيادة الودائع وارتفاع الفائدة في تشجيع المواطنين على ترك وظائفهم أو التمهل في قبول وظيفة جديدة.
ارتدادات مؤثرة
من المرجح أن تلقي أزمة العمالة بظلالها على الاقتصاد العالمي، خاصة في ظل مواجهته العديد من التحديات التي قد تعيق بمرحلة التعافي الاقتصادي التي بدأت خلال عام 2021، ويُمكن استعراض أهم تداعيات أزمة نقص العمالة على النحو الآتي:
• الإضرار بالتعافي الاقتصادي: يُمكن أن يؤدي النقص المستمر في العمالة إلى إعاقة قدرة العالم على التعافي الاقتصادي بالكامل في عالم ما بعد الجائحة، وذلك عن طريق الإضرار بإنتاجية الشركات والمؤسسات التي قد تضطر إلى توظيف أشخاص غير مؤهلين للعمل لديهم وهو ما قد يؤدي إلى الإضرار بجودة الإنتاج، أو إلى زيادة الأجور مما يضر مستوى ربحيتها. وعلاوة على ذلك، قد يؤدي نقص العمالة إلى اضطرابات في سلاسل التوريد ونقص في إمدادات السلع الأساسية، وفي بعض الدول، أسفر نقص عدد العمال عن إغلاق بعض المتاجر والمطاعم أو تقليل ساعات العمل. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أزمة الوقود التي شهدتها بريطانيا سبتمبر الماضي، حيث تركز أهم أسبابها في نقص أعداد سائقي الشاحنات.
• ارتفاع تكلفة العمالة: يُساهم انخفاض العرض في سوق العمل في ارتفاع تكاليف العمالة والأجور وزيادة حدة الموجة التضخمية، حيث قدر تحليل حديث لصندوق النقد الدولي أن نقص العمالة أدى إلى ارتفاع فاتورة الأجور الإجمالية في الولايات المتحدة بنسبة 1.7% خلال الفترة التي تتراوح بين الربع الثاني من عام 2020 ونهاية عام 2021. ومن ناحية أخرى، قد تضطر الشركات إلى رفع أسعار منتجاتها المُباعة في الأسواق من أجل تعويض زيادة تكاليف الأجور عن طريق نقل تلك الزيادة إلى المستخدمين النهائيين مما يعني أيضًا ارتفاع جديد في معدلات التضخم العالمية.
• إجراءات استثنائية: اضطرت بعض الشركات العالمية اتخاذ إجراءات غير تقليدية للتخفيف من حدة آثار أزمة العمالة، حيث قرر بعضها الاتجاه لتعيين الأشخاص ذوي الخلفيات الجنائية. فعلى سبيل المثال، أعلن بنك “جي بي مورجان” أنه بدأ في تعيين الأشخاص الذين واجهوا تاريخًا صعبًا خلال عملية البحث عن وظيفة مثل الأشخاص ذوي السجلات الجنائية وذوي الاحتياجات الخاصة، فيما أعلنت “ماكدونالدز” أنها مستعدة لتقديم هاتف “آيفون” مجاني للموظفين القادرين على الاستمرار بالعمل لديها لمدة ستة أشهر، وهي إجراءات تدلل على حاجة المؤسسات الشديدة للموظفين.
استخلاصًا ما سبق، يتبين أن أزمة نقص العمالة لم تظهر حدتها إلا مع انحسار فيروس كورونا ومع إعادة فتح الاقتصادات العالمية وعودة الطلب إلى مستويات ما قبل الجائحة، وذلك على الرغم من ارتفاع معدل البطالة مما يدلل على الخلل الحادث في سوق العمل العالمي خلال الفترة الحالية.
.
رابط المصدر: