على الرغم من أن الاستعمار الأوروبي قد طرق باب القارة الأفريقية مبكرًا، حينما بدأت الدولة الرومانية في غزو شمال أفريقيا، ولكن الفصول الحالية في القارة السمراء تعود إلى مخلفات الاستعمار الغربي الذي بدأ في القرن السادس عشر على وجه التحديد، إذ للمرة الأولى كان الاستعمار الغربي يتدفق إلى وسط وجنوب أفريقيا ولا يكتفى بشمالها كما جرى في سنوات الإمبراطورية الرومانية.
وقد أدى سقوط الأندلس في يد الغرب أواخر القرن الخامس عشر، وبداية الاحتلال العثماني لمصر أوائل القرن السادس عشر إلى فتح الباب أمام الأساطيل الاستعمارية الأوروبية لطرق أبواب الدول الأفريقية، إذ كانت الأندلس عائقًا أمام الدول الأوروبية للتحرك بحرية في غرب البحر المتوسط ومنه عبر مضيق جبل طارق إلى المحيط الهادئ حيث سواحل غرب أفريقيا، ومطاردة الأسطول المصري للحملات الصليبية البحرية في زمن دولة المماليك وصولًا إلى المحيط الهندي، ولكن الدولة العثمانية قامت بحل الأسطول المصري وغاب الأسطول العثماني عن تلك المناطق، ما أدى إلى تدفق الاستعمار الأوروبي إلى أفريقيا.
وتنافس الغرب على تقسيم أفريقيا ونهب ثرواتها البشرية قبل الطبيعية، وبحلول القرن العشرين تم ترسيم نفوذ الاستعمار الغربي في أفريقيا بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وألمانيا وهولندا وإيطاليا.
الاستعمار الجديد ينافس الاستعمار القديم في أفريقيا
مع انتصاف القرن العشرين وحسم الحلفاء للحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، كانت بريطانيا وفرنسا قد حسمتا حرب المستعمرات الأفريقية لصالحهم، ولكن القوى الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، سعتا إلى تفكيك الاستعمار القديم، ليس إيمانًا بالقضايا الوطنية للشعوب الأفريقية، ولكن من أجل رسم خرائط جديدة للنفوذ الأمريكي والسوفيتي في أفريقيا بدلًا من الاستعمار البريطاني والفرنسي، فكان قدر أفريقيا أن تبدأ مرحلة استبدال الاستعمار القديم بالاستعمار الجديد.
في السنوات الأولى من الحرب الباردة، شجعت واشنطن وموسكو حركات التحرير الأفريقية، بل وفي مرات نادرة كان هنالك اتفاق غير مكتوب بين الأمريكان والسوفييت على التحرك بنفس الخطوات لتصفية النفوذ البريطاني والفرنسي.
وكانت فرنسا تخسر نفوذها في أفريقيا، بعد أن خسرته في آسيا وتحديدًا الهند الصينية التي تعرف اليوم بـ لاوس وكمبوديا وفيتنام، حيث مددت فرنسا إمبراطورتيها الاستعمارية في الهند الصينية ما بين عامي 1863 و1953.
وفي الفترة ما بين 13 مارس و7 مايو 1954، جرت معركة ديان بيان فو حيث سحقت المقاومة الفيتنامية الجيش الفرنسي الذي رفع الراية البيضاء في اليوم الأخير من المعركة، مستسلمًا أمام فيتنام المدعومة من كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، لتنتهي إمبراطورية فرنسا الآسيوية وتنتظر الجمهورية الفرنسية الرابعة هزيمة أخرى حاسمة في العدوان الثلاثي عام مصر 1956، لتسقط الإمبراطورية الفرنسية في الشرق الأوسط وتسقط الجمهورية الفرنسية الرابعة نفسها.
شارل ديجول ينقذ النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا
كان يمكن للنفوذ الفرنسي في أفريقيا أن يلحق نظيره في آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لولا الجنرال شارل ديجول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، وهو الجنرال الذي فاوض البريطانيين في أتون الحرب العالمية الثانية، بينما باريس محتلة من ألمانيا النازية على استمرار الهيمنة الفرنسية على مستعمراتها بعد الحرب، وسط ذهول ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الذي ضرب كفًا بكف علنًا أكثر من مرة أمام الجنرال الفرنسي الذي يطالب باستمرار وصاية بلاده على مستعمراتها، بينما فرنسا نفسها تقع تحت الاحتلال الألماني وقتذاك!
ديجول لجأ إلى حيلة ثقافية ألا وهي المظلة الفرانكوفونية، حتى تظل فرنسا مرتبطة بالدول الأفريقية التي قامت بغزوها وتحديدًا غرب ووسط أفريقيا، وعلى وقع تماسك النفوذ الفرنسي في أفريقيا، حدث تقارب في الستينيات بين بريطانيا وأمريكا تحت المظلة الأنجلوسكسونية من أجل ضرب النفوذ الفرنسي، لتشهد أفريقيا وحتى اليوم صراع بين النفوذ الأنجلوساكسوني والنفوذ الفرانكفوني.
ارتدادات الربيع العربي على غرب أفريقيا
بحلول عام 2012 أخذ هذا الصراع منحى آخر مع انهيار السلطة في الجماهيرية الليبية وتدفق السلاح والمرتزقة إلى وسط أفريقيا شرقًا وغربًا، وبدأ الإسلاميون في طرق أبواب مالي وتشاد وبوركينا فاسو، وتحالف الحركات الإسلامية في النيجر ونيجريا والكاميرون خاصة تنظيم بوكو حرام مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مما أدى إلى انفجار الحرب الأهلية في مالي عام 2012 وبدء التدخل العسكري الفرنسي المباشر في غرب أفريقيا.
وبحلول عام 2014، كانت الحركات الإسلامية في غرب أفريقيا تتحرك من أجل مشروع ضخم يتضمن إمارة جهادية كبرى، تضم النيجر ونيجريا والكاميرون ومالي وتشاد وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، وهو مشروع لم ينكسر إلا بنهاية عام 2016، على وقع العملية العسكرية الفرنسية التي تعاونت مع جيوش دول المنطقة، بالإضافة إلى انكسار التمدد الإسلامي في شمال أفريقيا على وقع ثورة 30 يونيو 2013 المصرية وصعود نموذج الدولة الوطنية على يد مصر في عموم القارة الأفريقية، إضافة إلى التعاون المصري مع تشاد ومالي في ملف مكافحة الإرهاب.
ولم تكن واشنطن ولندن بعيدة عن دعم هذا الصعود الإسلامي في وسط وغرب أفريقيا، وكذلك كان الدعم الأنجلوسكسوني حاضرًا في نفس الصعود الذي جرى في دول ما سمى بالربيع العربي، لذا لم يكن غريبًا أن الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط وغرب أفريقيا قد عانت من غياب الدعم الغربي بشكل علني بحلول عام 2017، إذ شهد يناير 2017 استلام اليمين القومي الأمريكي برئاسة دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية حتى يناير 2021، وهي الفترة التي شهدت فك الارتباط بين المشروع الأمريكي والإسلام السياسي.
الحضور الروسي في غرب أفريقيا
مع رحيل باراك حسين أوباما من البيت الأبيض عام 2017 وتغير قواعد اللعبة بين أمريكا وروسيا، بدأت روسيا في تكثيف حضورها في غرب أفريقيا في العام نفسه، ليصبح عام 2017 هو بداية الانتشار الفعلي للنفوذ الروسي عبر عناصر فاجنر وبعض المستشارين العسكريين في أفريقيا الوسطى ثم مالي وأخيرًا بوركينا فاسو.
ولكن تلك الفترة شهدت استراتيجية أخرى، ألا وهي توظيف الحضور الروسي في أفريقيا لطرد الحضور الفرنسي، رغم أن المعسكر الأنجلوسكسوني قد سعى لتوظيف الإسلام السياسي في أفريقيا ضد النفوذ الروسي والصيني، ولكن استمرار النفوذ الروسي جعل لندن وواشنطن تسعى لتوظيفه في تقليص النفوذ الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا.
بحلول عام 2021 مع بداية ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدأت الولايات المتحدة في نهج الانسحاب من مناطق الصراعات الدولية لصالح حركات الإسلام السياسي، مقابل أن تنفجر تلك المناطق بوجه النفوذ الروسي، وجرى ذلك في أفغانستان في سبتمبر 2021، ولاحقًا فرضت الولايات المتحدة الأمر الواقع على فرنسا في غرب أفريقيا، حيث قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفكرة تفكيك التواجد العسكري الفرنسي، وسحب قوات بلاده من مالي وبوركينا فاسو وإنهاء العملية العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل والصحراء. وتحتفظ فرنسا حاليًا بقوات عسكرية في السنغال وكوت دي فوار إضافة إلى الجابون وجيبوتي.
وتنظر الولايات المتحدة إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها وسيلة لإنهاك التمدد الروسي، واعتبار غرب أفريقيا مصيدة جديدة لروسيا على نفس النمط الأفغاني الذي واجه الاتحاد السوفيتي، إذ إن المصالح الروسية في غرب أفريقيا تواجه اليوم تنظيمات الإسلام السياسي التي حققت هدفًا بريطانيًا وأمريكيًا عمره قرابة المئة عام، بتقليم أظافر النفوذ الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا.
ومن النادر أن تشهد أفريقيا هجومًا للحركات الإسلامية ضد المصالح البريطانية أو الأمريكية، إذ كانت المصالح الفرنسية والروسية والصينية هي المستهدف الأول في قواميس تلك الحركات.
وحاليا تنتشر عناصر مجموعة فاجنر الروسية في ثلاث دول أفريقية وهي مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، ومجموعة فاجنر هي شركة عسكرية خاصة أو شركة مرتزقة كما يطلق عليها الإعلام الدولي، يرأسها رجل الأعمال الروسي يفجيني بريجوجين المقرب من الكرملين، وإلى جانب الدول الأفريقية الثلاث فإن فاجنر لها حضور قوي في سوريا وأوكرانيا، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام الغربية أن عناصر فاجنر عملت لبعض الوقت في ليبيا.
الجيوش الوطنية ولعبة الأمم في غرب أفريقيا
على ضوء المؤامرة الأنجلوسكسونية الكبرى الساعية لتوظيف الإسلام السياسي في تفكيك النفوذ الفرنسي، ثم تفكيك النفوذ الروسي وإنهاكه في غرب ووسط أفريقيا، وتفكيك نموذج الدولة الوطنية لصالح نموذج اللا دولة، وتسليم الثروات البشرية والطبيعية في وسط وغرب أفريقيا إلى الحركات الإسلامية، لكي تبيعها ببخس الثمن إلى الغرب عبر وسطاء في السوق السوداء، كما جرى مع ثروات سوريا وليبيا وأفغانستان، فإن الجيوش الوطنية في البلاد الأفريقية المستهدفة سعت مرارًا إلى إنقاذ الدولة الوطنية، عبر حركات تصحيحية عنونها الإعلام الغربي باعتبارها انقلابات عسكرية واتهم روسيا بالتوريط فيها.
إذ تدخل الجيش في مالي لإقالة الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا في أغسطس 2020 وتنصيب باه نداو رئيس للبلاد، ولكن الأخير لم يستطع أن يصمد في منصبه طويلًا، وفي مايو 2021 تحرك الجيش المالي مرة أخرى.
وكان الجيش البوركيني قد تحرك في يناير 2022 ضد الرئيس روك كابوري، حيث تولى بول هنري سانداوجو داميبا السلطة، ثم تحرك مرة أخرى في أكتوبر 2022 بقيادة إبراهيم تراوري، وفي الحالتين كان الغرض هو دعم التحرك الشعبي الرافض لوجود القوات الفرنسية، بل وفي بعض التظاهرات رفعت الأعلام الروسية علنًا.
وفي تشاد جرى تحرك دموي من الجيش في أبريل 2021، مما أسفر عن مصرع الرئيس إدريس ديبي أثناء زيارته قوات تشادية تقاتل المتمردين في الشمال. وبموجب القانون التشادي، كان ينبغي أن يصبح رئيس البرلمان رئيسًا جديدًا للبلاد، ولكن مجلسًا عسكريًا تدخل وحلّ البرلمان بذريعة ضمان الاستقرار، وتم توريث السلطة إلى الجنرال محمد إدريس ديبي نجل الرئيس الراحل.
الدور الإيطالي والدعم الألماني في أفريقيا
مع صعود اليمين القومي للحكم في إيطاليا للمرة الأولى ما بين عامي 2018 و2019، بدأت روما تعود إلى أجواء المنافسة الإقليمية مع باريس، وهو الصراع الذي أصبح جزءًا من الماضي بنهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن تضارب المصالح بين إيطاليا وفرنسا في ليبيا قد أقنع إيطاليا بالتشدد إقليميًا مع فرنسا في سنوات صعود اليمين القومي.
أصبحت إيطاليا موجودة في النيجر منذ عام 2018، وتقوم ببناء قاعدة عسكرية بالاتفاق مع سلطات النيجر، إلى جانب وجود قوات إيطالية خاصة في مالي، ومع خروج اليمين القومي من حكومة إيطاليا عام 2019 خفت حدة اللهجة الإيطالية بحق فرنسا والملف الليبي، ولكن مع عودة اليمين القومي للحكم في روما في أكتوبر 2022 بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، عادت روما مرة أخرى لدائرة وسط وغرب أفريقيا، وانتقدت ميلوني الوجود الفرنسي في أفريقيا واتهمته بالسبب وراء نشر الفقر والسيطرة الاقتصادية عبر فرض عملة الفرنك الفرنسي في دول غرب أفريقيا خاصة بوركينا فاسو.
ورغم العلاقات الحسنة بين ألمانيا وفرنسا، إلا أن برلين ذات التواجد العسكري المحدود في غرب أفريقيا تسعى إلى توسيع الدور الإيطالي ليوازن الدور الفرنسي، وتتواجد قوات عسكرية دولية في غرب أفريقيا لتدريب الجيوش الوطنية على التصدي للحركات الإسلامية، وتعتبر القوات الدولية الموجودة حاليًا هي الدفعة الأخيرة من الحملة العسكرية الدولية الضخمة التي قادتها فرنسا في غرب أفريقيا.
مستقبل الأزمة في غرب أفريقيا
تعاني القارة الأفريقية منذ 500 عام وتحديدًا منذ القرن السادس عشر من المشاريع الاستعمارية الغربية، ثم تطور الأمر إلى أن تحولت أفريقيا إلى حلبة للصراع الدولي خاصة في سنوات الحرب الباردة، وحاليًا تحاول بعض القوى الدولية توطين الإسلام السياسي في أفريقيا ضد فرنسا والصين وروسيا، في تكرار للعبة الجماعات الوظيفية الإسلامية التي استخدمتها بريطانيا والولايات المتحدة في الصراع الدولي منذ زمن، وذلك لاستنزاف الموارد البشرية للقارة ونهب الموارد الطبيعية وفرملة أي صعود محتمل للاقتصاد الأفريقي سواء بشكل جماعي أو دول بعينها.
ويبدو غرب أفريقيا ملعبًا مفتوحًا لصراع بالوكالة بين روسيا والغرب، تلعب فيه الجماعات الإسلامية دور الوكيل الرئيس للقوى الغربية، بينما تسعى فرنسا للحفاظ على نفوذها وتسعى روسيا والصين لتوسيع نفوذهما، وتسعى إيطاليا إلى إيجاد موطئ قدم لها في غرب أفريقيا لدعم قدراتها في الملف الليبي.
وفي هذا السياق، فإن الحل هو استمرار الرفض الشعبي للوجود الأجنبي بكافة أشكاله في وسط وغرب أفريقيا، فلا يعقل أن يتم استبدال النفوذ الفرنسي بنفوذ روسي، وأن تنحاز أفريقيا إلى مبادرة إسكات البنادق المصرية، وتقوية الجيوش الوطنية بعيدًا عن الجيوش الغربية التي تصنع الوصاية الغربية بهذا التواجد العسكري.
.
رابط المصدر: