يجب على نتنياهو أن يترجم الإنجازات العسكرية لإسرائيل في لبنان إلى نتائج سياسية، مع منع القوميين اليمينيين المتطرفين في ائتلافه من تحديد ما هو ممكن مع الفلسطينيين.
في الوقت الذي بدا فيه أن احتمالات السلام في الشرق الأوسط أبعد من أي وقت مضى، أدى المقتل المفاجئ للأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله إلى تغيير كبير في توازن القوى، وتهيئة فرصة جديدة للسلام. ومن الصعب المبالغة في أهمية إزاحة نصرالله من الساحة. فقد كان قائداً فريداً يتمتع بمزيج من الفتنة والمهارات الاستراتيجية. وكما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، “لم يكن إرهابياً آخر، بل كان الإرهابي”. إن تأثيره يذكرنا بأنه حتى في عصر يتحدث فيه الجميع عن فرق العمل الذاتية القيادة، والقيادة الجماعية، والعمل الجماعي، لا يزال للأفراد البارزين تأثير عميق على التاريخ. وكما قال المؤرخ الاسكتلندي توماس كارلايل: “تاريخ العالم ليس سوى سيرة ذاتية لرجال عظماء”، والمقصود بكلمة “عظماء” كل من الفاضلين والأشرار.
عندما تولى نصرالله قيادة “حزب الله” في عام 1992، وهو في سن الثانية والثلاثين، بعد اغتيال المؤسس المشارك عباس الموسوي، كان “حزب الله” لا يزال إلى حد كبير على هامش المجتمع اللبناني. وعلى مدار الثلاثين عاماً التالية، عمل نصرالله وأتباعه بشكل منهجي على تفكيك الحكومة اللبنانية السيادية واحتوائها، مع عدم وجود رئيس للبلاد منذ عام 2022، وأحدث دماراً كبيراً في حياة الشعب اللبناني بدعم ضئيل من السكان. وكما أشار الرئيس بايدن عند وصفه مقتل نصرالله بأنه “تحقيق للعدالة”، كان نصرالله مسؤولاً عن مقتل الآلاف من اللبنانيين والإسرائيليين والأمريكيين والسوريين خلال فترة حكمه الدموية، ولم يحظَ بدعم يُذكر من جيرانه العرب، حيث انضمت جامعة الدول العربية إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تصنيف “حزب الله” كمنظمة إرهابية تحت قيادته.
وفي ظل حكم “حزب الله”، تحولت لبنان من دولة مزدهرة إلى دولة فاشلة، ولكن مع رحيل نصرالله ومعظم قيادات “حزب الله”، هناك فرصة لما تبقى من الحكومة والجيش اللبناني لاستعادة السيطرة وإعادة بناء دولة فعّالة تعمل من أجل مصلحة الشعب اللبناني، وليس إيران.
لكن الفرصة الأوسع نطاقاً تأتي مع ما صاحب مقتل نصرالله – وهو التدهور المنهجي لقدرات “حزب الله” خلال الشهر الماضي. ويُظهر التاريخ الحديث أن الحركات الإجرامية والإرهابية نادراً ما تنهار (بمجرد) إزاحة القائد الأعلى وحده. على سبيل المثال، استمر صعود “بوكو حرام “على الرغم من مقتل زعيمها أبو بكر شيكاو في عام 2021. وبالمثل، استمر صمود “حركة الشباب” بعد أن قتلت الولايات المتحدة أحد قادتها الكبار، معلم أيمن، العام الماضي، وكذلك ازدهار “كارتل سينالوا” في المكسيك رغم سجن زعيمه إل تشابو وابنه. ويُظهر ذلك أن القضاء على شخصية رئيسية واحدة لا يكون له دائماً تأثير خطير.
ولكن الأمر الأكثر فاعلية هو عندما يتم اقتران إزاحة القائد الأعلى بتفريغ القدرات التنظيمية للحركة بشكل منهجي. ومن الأمثلة على ذلك انهيار تنظيم “القاعدة” الذي بلغ ذروته بمقتل زعيميه أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وانهيار “مجموعة فاغنر” الروسية بعد دمجها القسري مع الجيش الروسي والذي انتهى بمقتل قائدها يفغيني بريغوجين ونوابه الرئيسيين، وكذلك انهيار تنظيم “الدولة الإسلامية” بعد سنوات من الهزائم العسكرية التي بلغت ذروتها بمقتل زعيمه الضعيف بالفعل أبو بكر البغدادي.
وهذا ما حدث في لبنان خلال الشهر الماضي. فقد انفجرت أجهزة النداء والاتصالات اللاسلكية الخاصة بـ “حزب الله”، مما جعل الاتصالات بين عناصره مشبوهة. كما أدت الضربات الجوية إلى القضاء على ورثة نصرالله المفترضين وفريق القيادة؛ ومع تركيز مقاتلي “حزب الله” على البقاء على قيد الحياة، أصبحوا أقل قدرة على إطلاق صواريخهم على إسرائيل بالأعداد التي شهدناها سابقاً. وتقدر إسرائيل أنها تعرضت للهجوم بما يتراوح بين 8,000 إلى 11,000 صاروخ أطلقها “حزب الله” منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وقد أدى هذا التدهور المفاجئ وغير المتوقع (في قدرات) “حزب الله” إلى تحطيم الافتراضات القديمة المرهقة بأن وكيل إيران الأكثر شهرة لا يمكن المساس به، مما فاجأ الولايات المتحدة – والعديد من الدول الأخرى – في الوقت الذي كان فيه المجتمع الدول يدعو إلى وقف إطلاق النار. ولكن الأهم من ذلك، أنه كشف بأن إيران ووكلائها هم “نمور من ورق”، مما حوّل ميزان القوى الإقليمي إلى أبعد ما يكون عن إيران وحلفائها في الذاكرة الحديثة. وما هو مؤكد الآن هو أنه يمكن الرهان على أن القادة العرب سيكونون الآن أقل خوفاً من إيران وقدرتها القسرية، وسيعيدون تقييم خياراتهم وفقاً لذلك.
وبالطبع، يبقى التصعيد احتمالاً قائماً، ولكن إيران كانت دائماً حذرة من الدخول في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة. لنفكر في رد إيران على مقتل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني في عام 2020، والضربة على زعيم “حماس” إسماعيل هنية في طهران في وقت سابق من هذا العام. فقد أسفرت العملية الأولى عن رد انتقامي محدود للغاية، بينما لم يحدث شيء حتى الآن رداً على العملية الثانية. والآن، بعد أن حُرمت إيران من أقوى وكلائها، وهو “حزب الله” الذي تم تقدير قوته بشكل مبالغ فيه، تم الكشف عن خدعتها. وقد وجدت إيران نفسها في عزلة أعمق في الشرق الأوسط، مما جعل نظام المرشد الأعلى يعتمد بشكل متزايد على رعاية روسيا والصين. ولا يزال سعي إيران لامتلاك الأسلحة النووية يمثل خطراً يتطلب من قادتها أن يدركوا أنهم قد يغامرون بفقدان كامل بنيتها التحتية النووية إذا استمروا في هذا المسار. لكن الاقتصاد الإيراني يظل ضعيفاً جداً، ويتم دعمه إلى حد كبير من إنتاج النفط غير المتوقع.
ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لاحتمالات السلام الإقليمي؟ على نتنياهو أن يكون قادراً على ترجمة الإنجازات العسكرية الإسرائيلية إلى نتائج سياسية. فلا يمكنه أن يسمح للقوميين في ائتلافه بتحديد ما هو ممكن في غزة والضفة الغربية. ولكن الآن، بعد أن قامت إسرائيل بعملياتها ضد “حزب الله”، فإن الجماعات الوكيلة المدعومة من إيران سوف تشعر بلا شك بالقلق بشأن أمنها الخاص، أو افتقارها إليه، مع تراجع الأسطورة التي كانت تحيط بالدرع الواقي الإيراني. إن الإصرار الإسرائيلي على الأمن الذي ربما كان يبدو في السابق غير قابل للتفاوض قد لا يكون بنفس القدر من عدم الاحتمال عند مقارنته بالإهانة التي لحقت بـ “حزب الله”، وبالتالي إيران.
لقد اتسمت السنوات القليلة الماضية بالطرق المؤدية إلى السلام التي لم يتم اتباعها، ومع أن الفرصة للسلام تلوح في الأفق، فإن تحقيق هذه الفرصة سوف يعتمد إلى حد كبير على المشاركين الإقليميين أنفسهم. وبعد كل هذه الفرص الضائعة، من الصعب أن نكون متفائلين. ومع ذلك، حتى في غياب أي اتفاق رسمي، فإن إزاحة زعيم “حزب الله” حسن نصرالله إلى جانب التدهور الكامل (في قدرات) الحزب يبشران ببزوغ يوم جديد للشرق الأوسط.