تتمتع الولايات المتحدة بفرصة قصيرة لتحقيق أهداف حاسمة في غزة ولبنان، بما في ذلك الجهود المبذولة لجذب دعم دول الخليج، وإقامة كيان شرعي بعد “حماس”، وحث بيروت على البدء في إعادة تأكيد سيادتها.
بدأ وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، زيارته الهامة لعواصم الشرق الأوسط هذا الأسبوع، بدءاً برحلة إلى إسرائيل، حيث من المرجح أن محادثته مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التي استمرت ساعتين ونصف الساعة كانت قد شملت أفكاراً حول الاستفادة من مقتل القائد العسكري لـ “حماس“ يحيى السنوار وتعزيز التهدئة. إن مسار هذه الرحلة (التي ستشمل المملكة العربية السعودية يوم الأربعاء) أكثر مرونة من المعتاد للسماح لبلينكن باغتنام أي فرصة تتاح في محادثاته بالمنطقة. وفي غضون ذلك، يواصل المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين إجراء محادثات في بيروت.
إن ما يلوح في الأفق بشأن هذه التطورات هو التوقع بأن إسرائيل سترد قريباً على الهجوم الصاروخي الضخم الذي شنته إيران في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، وربما هذا الأسبوع. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه العملية ستُشن بينما لا يزال بلينكن في المنطقة، لكن الرئيس بايدن ذكر أنه يعرف متى ستضرب إسرائيل إيران وما ستستهدفه. وفي هذا السياق، ما هي الأولويات التي يجب أن يركز عليها بلينكن فيما يتعلق بغزة ولبنان؟
التغيير في مركز ثقل“حماس”
ربما يكون الأمر الأكثر أهمية هو أن زيارة بلينكن يجب أن تركز على الاستفادة من وفاة السنوار لإتمام محادثات الرهائن مقابل وقف إطلاق النار التي كانت خاملة فعلياً منذ تموز/يوليو. فقد أدى الفقدان المفاجئ لقائد “حماس“ الأعلى في غزة إلى إرباك مركز الثقل السياسي داخل عملية صنع القرار في الحركة، مما يوفر فرصة للولايات المتحدة لمعرفة ما يمكن فعله لملء هذا الفراغ (المؤقت). وعلى وجه التحديد، يبدو أن عملية صنع القرار تتحول بعيداً عن القادة العسكريين المتبقين في غزة ونحو القيادة السياسية المقيمة في قطر. إن اثنين من اللاعبين الرئيسيين هما الرئيس السابق للمكتب السياسي لـ “حماس“ خالد مشعل والمفاوض الرئيسي في صفقة الرهائن مقابل وقف إطلاق النار خليل الحية. وإذا ثبت أن هذا التحوّل مستدام، فقد يمنح بلينكن فرصة للضغط بقوة على قطر، التي تقوم بدور الوسيط، لتستخدم نفوذها على شخصيات “حماس“ المقيمة في الدوحة.
وبدلاً من ذلك، قد ينتهي الأمر بانقسام السلطة بين الدوحة وغزة، مع ادعاء كل فصيل أنه يتحدث باسم “حماس“. وفي هذا السيناريو، من المرجح أن يطالب الشقيق الأصغر للسنوار، محمد، بأن يكون له وللقادة العسكريين الآخرين في غزة الكلمة النهائية في أي محادثات.
مرحلة واحدة أم مراحل متعددة؟
على افتراض أن المحادثات ستستمر، فهناك سؤالان مترابطان سوف يلوحان في الأفق. أولاً، هل ستلتزم واشنطن بصيغتها المتمثلة بتنسيق صفقة رهائن مكونة من ثلاث مراحل مقابل ستة أسابيع من الهدوء يمكن تمديدها، أم أنها ستختار صفقة من مرحلة واحدة تتطلب انسحاب إسرائيل من غزة؟ ثانياً، هل ستُبقي القوات الإسرائيلية على انتشارها على طول “ممر فيلادلفيا” الموازي لحدود غزة مع مصر؟
ومن شأن الاتفاق على مرحلة واحدة أن يتخذ مقاربة أكثر إنسانية، تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن دفعة واحدة بعد عام من الأسر والمعاناة، في حين أن مقاربة الثلاث مراحل من شأنها أن تؤدي إلى إطلاق سراح حوالي ثلث الرهائن في البداية. ومن الجدير بالذكر أنه بعد وفاة السنوار، عرض نتنياهو مروراً آمناً من غزة لأي شخص يطلق سراح رهينة.
ومن وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، تكمن سلبية الاتفاق على مرحلة واحدة في أنها ستفرض انسحاباً فورياً من غزة. وفي المقابل، من شأن الاتفاق على ثلاث مراحل أن يؤجل مفاوضات الانسحاب حتى المرحلة الثانية، بعد إطلاق سراح جزئي للرهائن في المرحلة الأولى.
وتثير هذه الخيارات معضلة سياسية لنتنياهو. فوفقاً لاستطلاع جديد أجرته “قناة 13” الإسرائيلية، فإن 52 بالمائة من المشاركين يريدون من الحكومة إعطاء الأولوية للرهائن حتى لو كان ذلك يعني وقف القتال. ومع ذلك، فبين ناخبي “حزب الليكود” الذي يتزعمه نتنياهو، يقول 78 بالمائة أنه يجب على إسرائيل إعطاء الأولوية للقتال على حساب الرهائن. كما أن نهج المرحلة الواحدة من الصفقة من شأنه أن يلغي “الاقتراح الجسري” السابق الذي قدمه بلينكن، والذي تمثل بقيام إسرائيل بتخفيف انتشار قواتها بدلاً من سحبها بالكامل كخطوة أولى. وبصرف النظر عن الضرورة الأخلاقية لإخراج جميع الرهائن في أسرع وقت ممكن، فمن غير المرجح أن يتحدى نتنياهو قاعدته الانتخابية بالانسحاب من غزة و”ممر فيلادلفيا” كما هو مطلوب في صفقة المرحلة الواحدة. وبدلاً من ذلك، من المفترض أنه سيحاول تأجيل هذا الملف الشائك من خلال اتباع نهج متعدد المراحل.
اليوم التالي في غزة
لقد تعرقلت المناقشات حول “اليوم التالي” بعد حكم “حماس“ منذ شهور، مع إصرار نتنياهو على أن هذه المحادثات سابقة لأوانها طالما استمر القتال العنيف في غزة. وقد ساهمت الديناميكيات السياسية الداخلية أيضاً في تشكيل موقف نتنياهو، حيث هدد وزيرا الحكومة من أقصى اليمين، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، مراراً بإسقاط حكومته إذا وافق على عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد أن طردتها “حماس“ بعنف في 2007. علاوة على ذلك، قد يعتقد نتنياهو أن واشنطن ليست في وضع جيد يسمح لها بالضغط على إسرائيل عشية الانتخابات الوطنية الأمريكية.
وعلى الرغم من هذه العقبات، يجب أن يرى بلينكن ما يمكنه فعله لمعالجة هذه المشكلة حتى لو لم يتمكن من حلها بالكامل. على سبيل المثال، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يُقنع نتنياهو بقبول السلطة الفلسطينية كشريك في الوقت الحالي، فإنه قد يصر على أن يكون لأي كيان يُمنح حق إدارة غزة علاقة فضفاضة على الأقل مع السلطة الفلسطينية.
ومن خلال قيامه بذلك، بإمكان بلينكن تذكير إسرائيل بأن الجهود الأمريكية أساسية لجذب التمويل لإعادة الإعمار والمساعدة من دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. (لقد كانت المحادثات الأمريكية مع أبو ظبي واسعة النطاق بشكل خاص). ومن دون هذا الدعم، قد تترسخ الفوضى في غزة، وقد يصطف الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني إلى جانب بقايا “حماس“، وقد تُجبَر إسرائيل حتى على إعادة احتلال القطاع، مما يعيد سياستها تجاه غزة إلى الوراء بعقدين من الزمن. ومع ذلك، تصر دول الخليج على أنها لن تدخل غزة إلا بشرطين: إذا تمت دعوتها من قبل منظمة فلسطينية شرعية، وإذا كانت المفاوضات جارية ومن شأنها أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف.
وقبل عدة أشهر، كانت واشنطن في أفضل الأحوال فاترة تجاه قبول دور خليجي كبير، لكن المصادر تقول الآن إن إدارة بايدن مستعدة لتبني الفكرة. وقد شارك مسؤولون إسرائيليون وخليجيون بالفعل في محادثات هادئة حول إنشاء هيئة لإعادة إعمار غزة تكون حاكمة في القطاع، إلى جانب قوات أمن متعددة الجنسيات. ومن المفترض أن يكون لهذا الكيان علاقة بالسلطة الفلسطينية، مما يشير إلى أن غزة والضفة الغربية ستتوحدان في النهاية. يجب على المسؤولين الأمريكيين متابعة هذا الخيار لمعرفة أين يؤدي. ومن شأن تعيين تكنوقراطي فلسطيني يتمتع بسجل حافل من الخبرة لقيادة الهيئة الجديدة لإعادة إعمار غزة أن يمنح دول الخليج الثقة بأن أموالهم لن تُهدر في مشاريع فاسدة.
ومن الأولويات الأخرى لبلينكن هي وضع معايير متفق عليها مع إسرائيل لضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل سليم. وقد أقر المسؤولون الأمريكيون بأن المشاكل المستمرة المتعلقة بتوصيل المساعدات إلى غزة ليست خطأ إسرائيل وحدها – فبعد أن تقوم السلطات الإسرائيلية بتفتيش المساعدات عند المعبر الرئيسي “كرم أبو سالم”، يتم نهب جزء كبير منها بشكل ممنهج من قبل “حماس“، وفقاً لمصادر رسمية أمريكية. ومع ذلك، حذر بلينكن إسرائيل الأسبوع الماضي من أن الدعم العسكري الأمريكي قد يكون في خطر إذا لم تتخذ خطوات لتسريع تسليم المساعدات إلى شمال غزة في غضون ثلاثين يوماً. ورداً على ذلك، اتخذت إسرائيل خطوات مثل إلغاء الرسوم الجمركية على المساعدات وتوسيع نطاق وصول الشاحنات، الذي كان مقيداً في الأسابيع الأخيرة. وتكهن بعض المراقبين بأن الهدف من رسالة بلينكن كان استباق منتقدي إسرائيل في الكونغرس الأمريكي الذين يعتقدون أن الإدارة الأمريكية لا تنفذ بشكل كافٍ قانوناً أمريكياً ذا صلة، والذي يتطلب من الدول التي تتلقى أسلحة أمريكية التعاون الكامل مع حملات المساعدة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة. ومهما كان الحال، يحتاج المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون الآن إلى الاتفاق على معايير لتقييم إمكانية وصول المساعدات الإنسانية.
المحادثات حول لبنان
في إفادات غير رسمية، أشار قادة عسكريون إسرائيليون إلى أن عملية البحث عبر الحدود عن أسلحة “حزب الله” ينبغي أن تنتهي في غضون الأيام السبعة إلى العشرة المقبلة. ومن بين الأهداف الأخرى، تريد إسرائيل التأكد من عدم وجود المزيد من الصواريخ المضادة للدبابات أو غيرها من القذائف قصيرة المدى التي يمكن أن تصيب بلدات حدودية شمالية – وهو شرط أساسي لعودة السكان إلى منازلهم التي غادروها تحت النيران العام الماضي.
وعلى نحو مماثل، تتطلع إسرائيل إلى سماع تقرير هوكشتاين حول المحادثات الحالية في بيروت. وحتى الآن، لا تضغط إسرائيل من أجل إقامة منطقة أمنية في لبنان، بعد أن علمت من تجربتها بين 1982 و2000 أن هذه ليست حلاً شافياً نظراً لمدى الصواريخ الذي كان يتزايد حتى في ذلك الوقت. وكان هوكشتاين محقاً في تقييمه الأخير لـ “قرار مجلس الأمن رقم 1701″، الذي اعتُمد لمعالجة حرب لبنان عام 2006 وما بعدها، حيث قال: “لا يمكن لأحد أن ينظر إلى السنوات الثماني عشرة الماضية ويقول إن أي جهة قامت بتطبيق «القرار 1701». إن عدم التنفيذ على مدى تلك السنوات ساهم في الصراع الذي نخوضه اليوم. يجب أن يتغير ذلك، لأن التزام الطرفين بـ «القرار 1701» وحده ليس كافياً.”
يجب أن يكون المبدأ المنظم لتطبيق “القرار 1701” هو تعزيز الدولة اللبنانية بحيث تتمكن من استعادة سيادتها من الجهة الفاعلة غير الحكومية، “حزب الله”. ولتحقيق هذا الهدف، يحتاج الجيش اللبناني إلى قدرات كافية، وموارد، وإرادة سياسية لفرض تنفيذ القرار، حتى وإن كان ذلك يعني مواجهة مع القوات الهائلة لـ “حزب الله”. وفي النهاية، يجب أن تتمتع الدولة اللبنانية باحتكار استخدام القوة العسكرية داخل حدودها ومن خلالها، بما يتماشى مع “قرار مجلس الأمن رقم 1559” الذي دعا منذ فترة طويلة إلى نزع سلاح الميليشيات اللبنانية.
لحظة أمريكية
في الشرق الأوسط، تنفتح أحياناً لحظات من التغيير قبل أن تتصلب الأوضاع من جديد. وقد أدى مقتل الزعيمين الإرهابيين حسن نصر الله ويحيى السنوار إلى خلق مثل هذه اللحظة. وإذا لم تغتنم واشنطن هذه الفرصة بسرعة، فسوف تضيع.