- سابينا هينبرج
- سارة يركس
قد تميل واشنطن إلى التخلي عن تونس بعد تراجع الديمقراطية فيها، إلّا أنه من الضروري أن تتخذ إجراءات هادفة وداعمة كانت قد نجحت سابقاً في حالات أخرى.
تواجه الولايات المتحدة خياراً في تونس: إما تقليص استثماراتها في التحول الديمقراطي المتعثر في البلد أو مضاعفتها. فقد أدّت سياسات الرئيس قيس سعيّد لإبطال عملية التحوّل الديمقراطي في تونس إلى قيام نظام حكم يُركز على السلطة الرئاسية ويفتقر إلى الضوابط والموازين الديمقراطية، وقد بدأ في الأشهر الأخيرة في تضييق الخناق بشدة على الحريات المدنية. وفي حين قد يكون من المغري التخلي عن تونس بعد انهيار عقد من الدعم لبناء الديمقراطية هناك، إلّا أنه بدلاً من ذلك، على الولايات المتحدة الاستمرار في تعزيز القوى المؤيدة للديمقراطية في تونس من خلال اتخاذها إجراءات محددة وهادفة حققت نجاحاً في بلدان أخرى.
ويعكس أحدث مظهر من مظاهر حملة القمع التي شنّها سعيّد، أي اعتقال وسجن راشد الغنوشي – رئيس “حزب النهضة” الإسلامي المعتدل والمعارض الرئيسي لسعيّد بالاضافة إلى منع الاجتماعات في المقر الرئيسي للحزب – معضلة السياسة الأوسع نطاقاً لواشنطن. فقد أصبحت الآن الإدانة العلنية، لما يبدو أنها اعتقالات ذات دوافع سياسية، أمراً ضرورياً لدعم القيم الأمريكية. وفي الوقت نفسه، وافق أنصار سعيّد على خطابه عن “التدخل الأجنبي”. بالإضافة إلى ذلك، تراجعت شعبية الغنوشي وحزبه وقلّت الثقة بهما بشكل كبير منذ عام ٢٠١١، نتيجة عدم الكفاءة والفساد الملحوظ في الحكم. وتعني هذه الحقائق أن أي تصريحات أمريكية قد تأتي بنتائج عكسية.
وتشير الأبحاث الحديثة حول التحوّلات الديمقراطية إلى أنه بإمكان المجتمع الدولي أن يدعم البُلدان التي تكافح من أجل التحوّل الديمقراطي من خلال العمل في اللحظات الحاسمة لدعم المجتمع المدني والمعارضة السياسية بشكل هادئ، لا سيما في صيغ من شأنها أن تساعد في توحيد هذه المجموعات حول استعادة الضوابط والموازين ومعايير الحكم الديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك، نجحت الولايات المتحدة في بعض الدول التي انتعشت فيها الديمقراطية، من خلال المنظمات الإقليمية في التأثير على القادة الذين كانوا يميلون إلى الاستبداد. وفي حالة تونس، سيكون الدعم المستمر من وراء الكواليس للقوى المؤيدة للديمقراطية، إلى جانب الإدانة المستمرة والمنسقة للسلوك المناهض للديمقراطية، أمراً بالغ الأهمية لمنع البلاد من التراجع أكثر فأكثر وخلق مساحة لعودة الديمقراطية في النهاية.
وفي حين أن تونس فريدة من نوعها في بعض النواحي، إلا أنّ الدروس المستفادة من تجارب مماثلة في بلدان أخرى تشير إلى وجود طرق محددة يمكنها أن تعيد تونس إلى المسار الديمقراطي. وتشمل هذه المسارات دعم المجتمع المدني في تقليل الاستقطاب والشعبوية، والعمل مع الأحزاب السياسية للتكيف مع الحقائق الجديدة واستعادة الدعم الشعبي، والدعوة إلى استقلال القضاء والعمل مع قضاة مستقلين رفضوا استيلاء سعيّد على السلطة القضائية، وحثّ الجيش لعدم الإنصياع لمحاولة سعيّد لتسييسه، لكونه لاعب غير سياسي تاريخياً.
لدى الولايات المتحدة شراكات طويلة الأمد مع المؤسسات والجهات الفاعلة الرئيسية في تونس، بما فيها الجيش. وفي حين دعا بعض المشرعين إلى قطع المساعدات عن المؤسسة الأكثر ثقة في البلاد، إلّا أن القيام بذلك سيتعارض مع المصالح الأمريكية والتونسية على حد سواء. وبدلاً من ذلك، على واشنطن أن تستخدم نفوذها للحد من الممارسات المناهضة للديمقراطية كاستخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين. وعلى وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين إجراء تقييم شامل للمساعدة الأمنية لضمان عدم مساهمة الأموال الأمريكية في قمع سعيّد لحقوق الإنسان.
كما موّلت الدولارات الأمريكية تدريب الأحزاب السياسية التونسية لأكثر من عقد من الزمن. وفي حين أن الأحزاب والسياسيين في الوقت الحالي لا يحظون بشعبية كبيرة، إلّا أن البرلمان الذي تم انتخابه حديثاً والانتخابات التشريعية والمحلية الإضافية التي تلوح في الأفق توفر فرصاً لهؤلاء المسؤولين للمساعدة في منع المزيد من التدهور. وقد أصبحت الأحزاب السياسية التونسية في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الدعم في تطوير رسائل واضحة ومتسقة ومنصات اقتصادية قابلة للتنفيذ، وكل ما يمكن للمنظمات الأمريكية مثل “المعهد الديمقراطي الوطني” و”المعهد الجمهوري الدولي” القيام به في تقوية الديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لمثل هذه المنظمات الأمريكية، بالاعتماد على عقود من الخبرة في العمل مع أحزاب وسط بيئات مليئة بالتحديات، أن تكون حلقة وصل بين السياسيين التونسيين المحاصرين وبآخرين في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية الذين تغلبوا على تراجع ديمقراطي مماثل.
وبالمثل، يمكن للدعم المعنوي والتشغيلي من قبل المجتمع الدولي لحقوق الإنسان أن يعزز من نضال القضاة والناشطين التونسيين من أجل تحقيق استقلال القضاء وحرية التعبير. وهذا بدوره سيساعد في كشف الفساد وتسليط الضوء على الاعتقالات والمعاملات غير القانونية وغير الأخلاقية للشخصيات المعارضة. فقد لعبت مثل هذه العلاقات بين النشطاء الدوليين لحقوق الإنسان والتونسيين في الماضي دوراً رئيسياً في محاربة دكتاتورية الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وبالتالي، يمكن للولايات المتحدة أن تدعم هذه الجهود من خلال إدانة التهديدات التي تتعرض لها حقوق الإنسان التونسية بجهارة، ومن خلال دعم العمل المحلي في مجال حقوق الإنسان بشكل هادئ.
وستكون إحدى اللحظات الحاسمة هي الانتخابات الرئيسية في تونس العام المقبل. فقد لمّح سعيّد مؤخراً إلى نيته الترشح لولاية ثانية، مما أتاح فرصة للمعارضة للطعن في حكمه. وفي حالات أخرى شهدت انتكاسات مشابهة، شكّلت الانتخابات عاملاً أساسياً في العودة إلى المسار الديمقراطي. على الولايات المتحدة أن تثني الجهات المعارضة عن مقاطعة الانتخابات، كما فعلت أحزاب المعارضة والجهات الفاعلة في المجتمع المدني خلال الانتخابات الأخيرة في عهد سعيّد. كما عليها تشجيع “الاتحاد الأفريقي” وغيره من المراقبين الدوليين الموثوق بهم على مراقبة العملية الانتخابية وإدانة أي ممارسات غير نزيهة وغير عادلة. إذ ستكون المساعدة في استعادة مصداقية الجهات الفاعلة السياسية قبل الانتخابات الرئاسية ضرورية جداً.
أخيراً، نظراً لأن العداء تجاه “التدخل الأجنبي” المتصور يبدو ملموساً جداً، فقد تحتاج الولايات المتحدة، في بعض الحالات، إلى العمل مع المزيد من المنظمات المقبولة محلياً، مثل “الاتحاد الأفريقي”، الذي كان صريحاً في انتقاداته لخطاب سعيّد العنصري ضد المهاجرين الأفارقة لاسيما التونسيين السود. على واشنطن أيضاً أن تحذو حذو المنظمات المحلية في تحديد نقاط الضعف حيث يمكن أن تكون أكثر فاعلية وتقلّل من الضرر.
ولا شك أن الدعم الشعبي المحلي للديمقراطية ضروري للابتعاد عن الاستبداد. وبدون معارضة موحدة ذات عقلية ديمقراطية يمكنها شن حملة واسعة النطاق ضد المؤسسات القوية القائمة للحماية منها، سيكون الضغط الدولي غير كافٍ لوقف التدهور في تونس. ومع ذلك، يمكن للمشاركة الدولية أن تلعب دوراً محورياً حين تكون التحوّلات الديمقراطية معرضة للخطر، مما يوضح سبب احتمال أن يؤدي التخلي عن البلاد في هذه المرحلة الحرجة الى مزيد من التراجع وعدم الاستقرار – وهو تهديد للمصالح الأمريكية والتونسية على حد سواء.
سابينا هينبرج هي “زميلة سوريف” في معهد واشنطن ومؤلفة دراسته الأخيرة “المجتمع المدني في تونس: إعادة ضبط التوقعات“. سارة يركس هي زميلة أقدم في “برنامج الشرق الأوسط” التابع لـ “مؤسسة كارنيغي”. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع كارنيغي.
.
رابط المصدر: