حنين غدار
بدلاً من استمرار الولايات المتحدة في العمل مع مؤسسات الدولة اللبنانية الفاسدة، عليها أن تسعى وراء الفرص المتوفرة للتعاون مع مجتمع الأعمال اللبناني، الذين يتوق أعضاؤه إلى فصل أنفسهم عن «حزب الله».
في خطاب متلفز الأسبوع الماضي، تحدث أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن خطة مفصلة حول كيفية قيام ميليشيا خاضعة لعقوبات أمريكية بإرسال ناقلات من الوقود الخاضع لعقوبات أمريكية لتوزيعه من قبل شركة خاضعة لعقوبات أمريكية. ويعتزم الحزب اللجوء إلى شركة فرعية لبيع الوقود الإيراني في لبنان وسط نقص حاد في الوقود والديزل. وقد يؤدي هذا الانتهاك للعقوبات الأمريكية إلى فرض عقوبات على لبنان، الذي يتدهور بالفعل في ظل أزمة اقتصادية تاريخية. لكن الحكومة اللبنانية الجديدة لم تقل كلمة واحدة. ولم يعلق أي وزير من الائتلاف الحاكم الجديد – الذي تم تشكيله في وقت سابق من هذا الشهر بعد أكثر من عام بدون حكومة – على الكيفية التي ستتعامل بها البلاد مع الخطة الجريئة لـ «حزب الله» والتي يمكن القول إنها غير قانونية.
إن «حزب الله»، المصنف من قبل الولايات المتحدة على أنه منظمة إرهابية منذ فترة طويلة، يدير لبنان بشكل فعال منذ سنوات. ويحافظ الحزب على زواج المصالح مع الطبقة السياسية في البلاد: فكلا الجانبين يستفيدان من الوضع الراهن الذي يتم فيه حماية النخب السياسية، وبإمكان «حزب الله» مواصلة العنف المنتظم ضد إسرائيل والحرب في المنطقة نيابة عن إيران، بينما يعاني اللبنانيون العاديون.
ولا شيء مفاجئ من ذلك. لكن الأمر المفاجئ أن القبضة الحديدية لـ «حزب الله» على السياسة والاقتصاد في لبنان بدأت تتراخى – الأمر الذي يمنح إدارة بايدن فرصة لتغيير مقاربة فشلت منذ فترة طويلة. وحتى مع بقاء قادة البلاد مدينين بالفضل لـ «حزب الله»، إلا أنه لم يعد يتمتع بالدعم الذي كان يحظى به من قَبِل في أوساط الشيعة. وعلى نحو خاص، يهتم العديد من رجال الأعمال بتأمين الوظائف أكثر من صراعات المقاومة التي يشنها الحزب، بينما نشأ شباب اليوم بعد الحرب الأهلية اللبنانية وفترة الهيمنة السورية اللاحقة التي ساعدت في وصول «حزب الله» إلى السلطة.
وللأسف، لم تتغير السياسة في لبنان كثيراً على مدار العقد أو العقدين الماضيين – كما لا يوجد للولايات المتحدة دليل لمعالجة الأزمات المتقطعة في البلاد. ومع ذلك، أمام إدارة بايدن حالياً فرصة للاستفادة من ضعف «حزب الله» ودعم البديل السياسي القابل للتطبيق لحكم الحزب الذي طالما كانت واشنطن تأمل فيه. ومن خلال التخلي عن تركيزها التقليدي على المؤسسات الفاشلة في لبنان، والاستثمار بدلاً من ذلك في قادة الأعمال والناشطين والشباب الذين يتنامى سخطهم إزاء «حزب الله»، يمكن للولايات المتحدة تمكين جيل جديد من الشيعة اللبنانيين الراغبين في التغيير فعلياً – وقد يكون لديهم أخيراً القدرة على القيام بذلك في النهاية.
ومنذ قيامه، يصوّر «حزب الله» نفسه لأتباعه الشيعة على أنه الحامي والمعيل. وقد استند دعمه الشعبي على ثلاث ركائز: تقديم الخدمات الاجتماعية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وصياغة هوية شيعية مشتركة. واليوم، تقلّصت شبكة الخدمات الاجتماعية لـ «حزب الله» بسبب المشاكل المالية الناجمة جزئياً عن العقوبات الأمريكية. كما فقدت فكرة المقاومة قوتها منذ تدخل «حزب الله» في الحرب السورية لحماية بشار الأسد. ولم تعد الهوية الشيعية تربط الكثير من اللبنانيين بـ «حزب الله» بنفس القوة، حيث بدأ المجتمع يشعر بعزلة أكبر عن المنطقة.
وفي عام 2019، نزل اللبنانيون من كافة الطوائف إلى الشوارع احتجاجاً على الفساد والصعوبات الاقتصادية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت البدائل السياسية لـ «حزب الله» في أوساط المجتمع الشيعي أكثر قوة. وبدأت مجموعات ناشئة في التعبير عن معارضة شديدة لـ «حزب الله»، وتشمل شبكات الأعمال، والطلاب الذين شاركوا في الاحتجاجات (التي عارضها «حزب الله»، بالعنف الجسدي في بعض الحالات)، وناشطين أذكياء على مواقع التواصل الاجتماعي وأخصائيين من الشباب لا يتذكرون سنوات ما بعد الحرب الأهلية التي ساهمت في جلب «حزب الله» إلى الساحة السياسية. إن الاهتمامات الأساسية لهذه المجموعات هي اقتصادية واجتماعية وليست سياسية أو أيديولوجية.
وفي غضون ذلك، ينهار الاقتصاد الموازي لـ «حزب الله». فقد أدت العقوبات الأمريكية على إيران إلى شل تدفق الأموال من الجمهورية الإسلامية إلى «حزب الله»، كما أدى تدخل الحزب في العمليات العسكرية في المنطقة – وبشكل رئيسي في سوريا – إلى استنزاف خزائنه. وقد أثر ذلك على قدرته على تقديم الخدمات الاجتماعية والمساعدات وتوفير فرص العمل غير العسكرية.
كما أن هناك بوادر خلاف بين «حزب الله» ومؤيديه التقليديين. فالحزب في صراع متزايد مع حركة «أمل»، الحزب السياسي المتحالف منذ فترة طويلة مع «حزب الله». وعاقبت الولايات المتحدة حلفاء آخرين وفقدوا شعبيتهم، خاصة بعد أن لفتت احتجاجات 2019 الانتباه إلى فسادهم. ووفقاً لاستطلاع أُجري في وقت سابق من هذا العام، يحظى “التيار الوطني الحر”، الحليف المسيحي الرئيسي لـ «حزب الله»، بدعم 15 في المائة فقط من المسيحيين في لبنان. وضمن صفوف «حزب الله» نفسه، تؤدي الصعوبات المالية إلى توسيع الفجوة بين العناصر العسكرية وغير العسكرية. وما زال «حزب الله» يدفع لجنوده بالدولارات بينما يتقاضى الباقون مدفوعاتهم بالليرة اللبنانية التي فقدت نحو 90 بالمئة من قيمتها.
وفي ضوء هذا التراجع، تبرز مجموعات جديدة يمكن أن تكون حجر أساس في كسر هذه الحلقة المفرغة في لبنان. فالشيعة، الذين يشكّلون أكثر من 30 في المئة من سكان لبنان، هم أهم قاعدة لبناء تحالف مناهض لـ «حزب الله» لأنهم يشكلون الجزء الأكبر من دعم الحزب. ومن المرجح أن تدعم المجموعات الأخرى في لبنان – ولا سيما السنة والمسيحيون والدروز – بديلاً شيعياً قوياً عن «حزب الله»، ويعزى ذلك جزئياً إلى أنهم يشاركون بشكل متزايد في الاستياء من السياسة المتزعزعة في البلاد.
وفي هذا الصدد، أَجرَيْتُ مقابلات مع العديد من رجال الأعمال الشيعة في لبنان وأفريقيا والخليج الذين أعربوا عن استعدادهم للعمل مع المجتمع الدولي – وخارج مدار «حزب الله» – لتوفير الوظائف والقروض. وهم يقدمون الدعم السياسي والمالي للناشطين وجماعات المجتمع المدني في البلدات والمدن الشيعية. إن دافعهم هو ترسيخ جذورهم في مجتمعاتهم، ولكن أيضاً لتجنيب أنفسهم العقوبات أو العزلة المالية عن طريق النأي بأنفسهم عن «حزب الله». [فعلى سبيل المثال]، قبل اغتياله في وقت سابق من هذا العام، كان الناشط السياسي الشيعي ورجل الفكر لقمان سليم منخرطاً بشكل وثيق مع هذه المجموعة غير الرسمية للمجتمع المدني وقادة الأعمال.
ويشير هذا الحماس إلى وجود مسار سياسي مختلف للبنان وفرصة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي لتغيير تركيزهما. فبدلاً من مواصلة العمل مع مؤسسات الدولة اللبنانية الضعيفة والفاسدة والخاضعة لسيطرة «حزب الله»، على الولايات المتحدة تحويل تركيزها بعيداً عن الاستثمار في هذه المجموعة غير الرسمية بل المؤثرة بشكل متزايد. وسيكون الهدف النهائي إنشاء منظمة مجتمع مدني أكثر تنظيماً تتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا والمؤسسات الدولية وتركز على خلق الفرص الاقتصادية وتمكين الأصوات السياسية الجديدة وتقديم بديل حقيقي لـ «حزب الله» للشيعة اللبنانيين المحبطين.
يجب أن تضم المجموعة قادة الأعمال وممثلي المجتمع المدني وأعضاء الشتات اللبناني والناشطين وغيرهم من الشيعة المؤثرين. ويمكن للدول المانحة بما فيها الولايات المتحدة، والمؤسسات الدولية مثل “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” العمل مع مجتمع الأعمال اللبناني لوضع هيكلية المنظمة وتطويرها وتمويلها وإدارتها. والأمر الحاسم أن يحدث ذلك خارج مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية اللبنانية.
ولتجنب المزالق المحتملة للعمل خارج إطار الهيكليات الحكومية الرسمية، ستكون المشاركة الدولية حاسمة. بجدر بالمجتمع الدولي التركيز على الاستثمار في الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وتوسيع الفرص الاقتصادية خارج فلك «حزب الله»، وحماية الصحفيين والنشطاء. وبإمكان تحقيق ذلك من خلال دعم مبادرات القطاع الخاص والمنظمات الشعبية التي تعمل على تقديم الخدمات في المجتمعات الصغيرة والمؤسسات الإعلامية المستقلة. إن خلق فرص اقتصادية يكتسي أهمية خاصة اليوم وسط انهيار القطاع الخاص اللبناني واختفاء الطبقة الوسطى في الغالب. وكان الحزب قد أصبح أكبر جهة للتوظيف بفضل تمتّعه بالنفاذ الأفضل إلى العملة الصعبة. ويواجه العديد من الشيعة – الذين هم قاعدة التوظيف التقليدية لـ «حزب الله» – الخيار بين الاعتماد على «حزب الله» أو التضور جوعاً.
وهذا لا يعني أن على الولايات المتحدة وقف سياساتها القائمة منذ فترة الطويلة والمتمثلة بتوفير المساعدات إلى الجيش اللبناني – لا سيما بالنظر إلى المخاوف الأمنية المتزايدة – والمساعدات الإنسانية. ومع ذلك، بإمكان الولايات المتحدة إعادة توجيه قنوات المساعدة التقليدية تلك لتتلاءم مع تركيزها الجديد على المجتمع المدني بدلاً من المؤسسات الرسمية. يجب تنظيم المساعدة للجيش للتأكد من عدم استفادة العناصر الموالية لـ «حزب الله» داخل الجيش – وهي العناصر التي وفقاً لبعض التقارير استهدفت النشطاء اللبنانيين. بإمكان الولايات المتحدة أن تجعل حماية النشطاء شرطاً لاستمرار المساعدة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تمر المساعدات الإنسانية فقط من خلال منظمات المجتمع المدني، وليس المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالسياسة. وتميل الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة إلى توجيه المساعدات إلى المنظمات والجمعيات الخيرية المرتبطة بالنخب السياسية القوية في لبنان، بدلاً من المنظمات الشعبية الحقيقية. وفي غضون ذلك، تضاءلت المساعدة لبعض مبادرات المجتمع المدني المناهضة لـ «حزب الله» منذ أن بدأت الولايات المتحدة المفاوضات النووية مع إيران.
وفي موازاة ذلك، بإمكان الولايات المتحدة مواصلة فرض عقوبات على القادة السياسيين الفاسدين. وتعتبر العقوبات – مثل “قانون ماغنيتسكي” – أداة نافذة للغاية لاحتواء الفساد حين تشكّل جزءاً من سياسة أوسع نطاقاً، علماً بأن العقوبات المفروضة على حلفاء «حزب الله» قد أثرت بالفعل على الجماعة بشدة. وأخيراً، إذا تم رفع العقوبات عن إيران كجزء من اتفاق نووي جديد، فيجب وضع آليات قوية للحد من وصول «حزب الله» إلى العملة الصعبة من رعاته في طهران.
ولطالما أدرك «حزب الله» وإيران أمراً لم تفهمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، وهو القوة الناعمة. ففي حين قدّم الغرب المساعدة إلى لبنان بالطريقة التقليدية القديمة – دعم المعارضة السياسية، وتقديم المساعدة الأمنية للجيش، وتمويل برامج التنمية – كانت إيران تموّل مجتمع الأعمال الشيعي، والمؤسسات الإعلامية، والتعليم والمبادرات غير التقليدية مثل التدريب على الأمن السيبراني، والموسيقيين وجماعة من الشباب الموالية لإيران تدعى “كشافة المهدي”. وأقام «حزب الله»، بدعم إيراني، دولة بديلة وأسس اقتصاداً موازياً وفّر الخدمات والوظائف. والآن، في الوقت الذي يضعف فيه «حزب الله»، بإمكان الولايات المتحدة استخدام مقاربة مماثلة من القوة الناعمة لمساعدة اللبنانيين في الوصول إلى الفرص الاقتصادية التي يريدونها – وإضعاف «حزب الله» في غضون ذلك.
لقد ثبت مراراً وتكراراً أن الانتظار بأن يتغير «حزب الله» والطبقة السياسية اللبنانية هو مجرد مضيعة للوقت. لكن لبنان بذاته يتغير. أمام واشنطن فرصة للاستفادة من هذه التغييرات من خلال الاستثمار في مجموعات المجتمع المدني الناشئة كبديل مجدي لـ «حزب الله». إن شعب لبنان جاهز لذلك، وحان الوقت لانتهاز الفرصة.
حنين غدار هي “زميلة فريدمان” في ” برنامج غيدولد للسياسة العربية” التابع لمعهد واشنطن وصحفية سابقة في لبنان. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “بوليتيكو” الإلكتروني.
.
رابط المصدر: