بقلم : هاجر عبد النبي – باحث دكتوراه – كلية الاقتصاد والعلوم
بتدقيق النظر في تاريخ الحروب وتداعياتها، يتضح أن الأخيرة تؤثر على النظام الدولي بأسره؛ حيث تنقلب الموازين رأسًا على عقب، وتصعد قوى دولية مُقابل أخرى تتوارى أو يتم طمس دورها، وهكذا تتغير السياسات وقواعد اللعبة على المسرح الدولي؛ حيث تفرض القوى الصاعدة رؤيتها على دول العالم وأقاليمه، وعلى الرغم من وجودِ ملفات دولية مُلحِّة يتفق العالم على مدى أهميتها، فإن الآليات المُتبعة لإدارة تلك الملفات قد تتغيَّر أو يُعاد تأطيرها بما يتناسب والأوضاع السياسية، والاقتصادية، والمالية الجديدة.
في ضوء ذلك، تظهر قضية “التغيُّر المُناخي” باعتبارها إحدى القضايا التي تحظى باهتمام وشراكة عالمية من أجل بحث السياسات، والتكيُّف، والانتقال السلس، ثم المواجهة والاعتماد على الحلول النهائية بما يُحقق عنصر “الاستدامة”، فما هي الأبعاد التي يُمكن للحرب الروسية-الأوكرانية، التي اندلعت في فبراير 2022، أن تؤثر من خلالها على الإدارة العالمية لملف “المُناخ”؟.
يوضِّح المقال في السطور التالية أن ثمّة قناتين رئيستين يؤثر من خلالها الصراع الروسي-الأوكراني على ملف “التغيُّر المُناخي” عالميًا، تُعدُّ الأولى بمثابة تأثيرًا مباشرًا على المناخ، والتلوث البيئي، واستدامة الموارد، وتمثِّل الثانية تأثيرًا غير مباشر؛ نظرًا لارتباطها بالأثر الاقتصادي والأمني للأزمة على الدول النامية والمتقدِّمة على حدٍ سواء، وبمفهوم المصلحة الوطنية.
الآثار المباشرة للأزمة على أجندة المُناخ العالمية (البُعد البيئي للأزمة)
أولًا: تقويض “الاستدامة”
تفضي الحرب، بشكلٍ عام، إلى تدمير البنى التحتية، وكذلك الفوقية التي تستجيب للهياكل السياسية، والقانونية، والعسكرية. وتضر المواجهة العسكرية بالبيئة التمكينية، والموارد الطبيعية، وأهداف التنمية المستدامة؛ حيث تتعارض الحروب مع الاستخدام المستدام للموارد وتكريسها لخدمة الأجيال القادمة، وبدلًا من حماية الأصول وإدارة استخدامها، خاصةً في ظل الندرة التي يشهدها العالم مع النمو السكاني المُتسارِع، تستنزف تلك الحروب رأس المال الطبيعي، وفي كثيرٍ من الأحيان تتعطل النظم المجتمعية للإدارة المستدامة للموارد.
حيث يستهلك بناء القوات العسكرية كميات هائلة من الموارد الطبيعية للدولة، ويقتضي تعزيز الجاهزية العسكرية مزيدًا من التدريب الذي يتطلب بنية تحتية ضخمة يتم تشغيلها بالوقود الأحفوري في أغلب الأحيان ما يؤدي إلى تقليل “كفاءة طاقة”، وبالتالي يتمخَّض عن المستويات المرتفعة من الإنفاق العسكري تحويل الموارد ورؤوس الأموال بعيدًا عن حل المشكلات البيئية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتُقلِّل أيضًا التوترات الدولية التي تذكِّيها المواجهات العسكرية وتكريس الإنفاق من أجل التسليح، من فرص التعاون الدولي بشأن التهديدات البيئية العالمية والتغيُّر المُناخي.
ثانيًا: الإضرار بالبيئة
تستهلك الصراعات التي تنطوي على حروب شديدة الحدة كميات ضخمة من الوقود، ينجُم عنها انبعاثات هائلة من “ثاني أكسيد الكربون” تُفاقِم بدورها من أزمة التغيُّر المُناخي، في هذا الإطار، تُعد انبعاثات “ثاني أكسيد الكربون” المتمخِّضة عن أكبر الجيوش، أكبر من تلك الناجمة عن العديد من دول العالم مُجتمِعة. هذا بالإضافة إلى التلوث الكيميائي والضوضائي من استخدام الأسلحة والطائرات والمركبات، والآثار البيئية المترتبة على تطوير المعدات العسكرية والحفاظ عليها، سواءً بالنسبة للأسلحة التقليدية، أو الأسلحة النووية والكيميائية الأكثر خطورة. ولا تُستثنى من ذلك الأضرار المادية واسعة النطاق للمناظر الطبيعية الخضراء الحسّاسة، والتنوع الجغرافي، وتلوث الهواء الناجم عن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق الحضرية.
اتصالًا، تشهد الحروب أيضًا تدمير البنية التحتية الزراعية؛ مثل القنوات والآبار، والمضخات، وحرق المحاصيل، وهذا ما شهدته أوكرانيا جرّاء الهجوم الروسي عليها؛ حيث تعرضت المزارع في أهم المناطق الزراعة الأوكرانية للتلف بسبب الدبابات، ونيران المدفعية، وتهدد تلك التكتيكات ليس فقط الأمن الغذائي وسبل العيش، ولكنها أيضًا تؤدي إلى حوادث تلوث واسعة النطاق للهواء والتربة والمياه، تتجاوَز آثارها حدود الدولة، ما يؤثر بدوره على المُناخ العالمي.
ليس ذلك فحسب، فغالبًا ما تتم إزالة الغابات أثناء الصراعات المتضمِّنة حروب، الأمر الذي يُفضي إلى ممارسات ضارة بيئيًّا في ظل غياب الرقابة المجتمعية، كما يُمكن أن ينعكس قطع إمدادات الطاقة -أو نقصها وزيادة تكلفتها عالميًا كما يشهد العالم الآن- بشكلٍ سلبي على البيئة؛ حيث يؤدي إغلاق محطات المعالجة أو أنظمة الضخ إلى استخدام أنواع وقود، أو مولدات منزلية أكثر تلويثًا للبيئة، ويؤثر ذلك على الصحة العامة، كما يتطلب تكاليف باهظة للمعالجة البيئية.
ومن المُرجَّح أن تؤثر الحرب الروسية-الأوكرانية على المنظومة البيئية أيضًا من خلال موجة اللاجئين، ومخيمات النازحين والمُشرَّدين داخليًا؛ حيث تنطوي تلك المخيمات على آثار بيئية خطيرة؛ لكونها غير مُخطَّطة أو تفتقر إلى الخدمات الأساسية؛ مثل المياه والصرف الصحي وإدارة النفايات. بالإضافة إلى ذلك يشارك اللاجئين السكان المحليين في استخدام الموارد المحلية، ما يضع الأخيرة تحت ضغط، ويُضيف أعباءً على الخدمات البيئية المحلية. وبذلك، تؤدي تحركات اللاجئين على نطاق واسع إلى آثار اقتصادية وبيئية عابرة للحدود؛ حيث تكافح البلدان المجاورة للتعامل مع تدفُّق هؤلاء الأشخاص، وتلبية احتياجاتهم الأساسية.
تأسيسًا على ما تقدَّم، تنهار الإدارة البيئية أثناء الصراعات، ويتم تجاهُل القوانين واللوائح البيئية المحلية، وتفقد الإدارات المحلية والوطنية قدرتها على مراقبة المشكلات البيئية أو تقييمها أو الاستجابة لها، وتكون الحكومات غير قادرة على الوفاء بتعهُّداتها البيئية الدولية، وتزداد احتمالات تقليص المشروعات والبرامج التي يدعمها المجتمع الدولي. وبذلك، تؤدي الصراعات إلى الإضرار بالبيئة من خلال التأثير على الحوكمة والمشروعات المُستهدَفة.
الآثار غير المباشرة على أجندة المناخ العالمية (البُعد الاقتصادي للأزمة)
ينعكس الصراع الروسي-الأوكراني بتبعاته على مُختلف دول العالم، ويقوِّض بدوره جهود التنمية ومبادرات النمو والرفاهية الاقتصادية في الأخيرة؛ حيث إنه يُلقي بظلاله على الأمن العالمي التقليدي -بمعناه العسكري- وغير التقليدي بأبعاده الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، واتضح ذلك في تأثير الأزمة الماثلة على أمن الطاقة وكذلك الأمن الغذائي العالمي، ما من شأنه أن يقوِّض جهود التعافي الاقتصادي من جائحة “كوفيد-19″، ويطمس المُحرَز منها، ويُجهِد ميزانيات الدول خاصةً النامية منها، الأمر الذي يحمل في طياته تهديدًا جسيمًا لمشروعات ومبادرات الاقتصاد الأخضر، والطاقة المتجددة، والتكيُّف مع التغيُّر المُناخي.
حيث تُعاني تلك الدول بالفعل من نقص التمويل اللازم لمشروعات المناخ، ومع تفاقُم الصراع الروسي الأوكراني سيتم تخصيص الأموال المتاحة لضمان الأمن الغذائي باعتباره الأكثر أولوية وارتباطًا بالأمن القومي والمصلحة الوطنية للدول، التي تنطوي على الجانب الأمني بأبعاده التقليدية وغير التقليدية، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية، والارتقاء بالمستوى المعيشي للمواطنين والقضاء على الفقر، وفي إطار المصلحة الوطنية يُميِّز أحد تصنيفات الأهداف التي تصبو الدول إلى تحقيقها بين “الأهداف الاستراتيجية العليا”، وهي تلك المرتبطة بالأمن الوطني، و”الأهداف الاستراتيجية المتوسطة” ذات الصلة بتحقيق الرفاهية، ويرتبط الأمن الغذائي للدول، بـ “الأهداف الاستراتيجية العليا” للدولة؛ وهو ما يعني أن الدول تُكرس جلّ أدواتها السياسية، والاقتصادية، والعسكرية لحمايته.
وتُعد روسيا وأوكرانيا مصدرًا لنحو ثلث صادرات القمح العالمية، ومنذ أن هاجمت “موسكو” جارتها “كييف”، توقفت الموانئ المُطلة على البحر الأسود تقريبًا؛ الأمر الذي دفع بارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية، تجاوزت المستويات التي شهدها العالم خلال أزمة الغذاء في 2007 و2008. حيث إنه في غضون ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، تعطلت الزراعة في أوكرانيا؛ مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، والتهديد باستمرار النقص العالمي للغذاء.
في هذا الصدد، يُلاحظ أن آثار الأزمة الروسية-الأوكرانية تتوغل إلى الدول الأخرى، وتضرب اقتصادها من خلال ثلاث قنوات رئيسة؛ يتمثَّل أولها في ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية كالغذاء والطاقة وزيادة معدلات التضخم، ما يؤدي إلى تآكُل قيمة الدخول. أما ثانيها فيتمحور حول انقطاع سلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج وتدفُّق اللاجئين الذي يضيف أعباءً اقتصادية على الدول المضيفة. ويكمُن ثالثها في تراجُع الاستثمارات في الدول النامية على وجه التحديد، ومنها الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة والبيئة؛ نظرًا لإقدام الدول على تشديد الأوضاع المالية، وزيادة الشعور بعدم اليقين لدى المستثمرين.
وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر البلدان المنتجة للسلع الأولية، فقد أدت انقطاعات سلاسل الإمداد إلى ارتفاع الأسعار العالمية -بشكلٍ عام- بصورة حادة، ولا سيّما أسعار النفط والغاز الطبيعي.
وفي ضوء ما تقدَّم، يُرجَّح أن يزداد انعدام الأمن الغذائي في بعض المناطق، ولا سيّما إفريقيا جنوب الصحراء، وأمريكا اللاتينية، وآسيا الوسطى، وسيكون الأزمة أكثر تصاعُدًا في بعض مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا، نتيجة لزيادة حدة ارتفاع أسعار الغذاء؛ حيث يعتمد السودان، والجزائر، وكينيا، ونيجيريا، وتنزانيا، وجنوب إفريقيا على واردات الحبوب والسلع الغذائية من روسيا وأوكرانيا. وفي الوقت نفسه، يُتوقَّع أن تشهد أجزاء من أوروبا الشرقية، وألمانيا، وإيطاليا، وتركيا ارتفاعًا مُطردًا في تكاليف المعيشة؛ حيث تعتمد تلك المناطق أكثر من غيرها على صادرات الغاز الروسي، ما يعني أن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل ستكافح لضمان أمنها الغذائي، وتعزيز موثوقيته.
وجدير بالذكر إنه في فبراير 2022، وصل مؤشر “أسعار الغذاء” الذي أعلنته منظمة “الأغذية والزراعة” إلى أعلى مستوى له على الإطلاق؛ حيث مثَّل عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، نحو 800 مليون، وذلك في أعلى مستوياته منذ عقد.
وقد أكَّد أحد كبار المسؤولين، في “جلوبال ماكرو ريسيرش” في جامعة “أكسفورد إيكونوميكس” الرائدة في مجال التنبؤ الاقتصادي العالمي والتحليل الكمي، على إنه من المتوقَّع أن تقلص الحرب في أوكرانيا النمو العالمي بحوالي 0.2% في عام 2022، وذلك مشروط بعدم استمرار الصراع لمدة طويلة، فإذا استمر الأخير لفترة أطول، فستكون الآثار أسوأ بكثير.
ختامًا، يتضح أن الصراع الروسي الأوكراني يُشكِّل تهديدًا مباشرًا وغير مباشر على قضية المُناخ التي باتت أكثر إلحاحًا في الآونة الأخيرة، وعليه، ستحتاج الدول إلى إعادة تأطير استراتيجيتها، وتعبئة أدواتها في إطار من التعاون الدولي المُكثَّف؛ للتصدّي لكافّة التحديات المُنتظرة، والمعوِّقات الاقتصادية، والبيئية، والسياسية لمعالجة “التغيُّر المُناخي”، حيث إنه حتى بعد انتهاء الصراع، ستولي الدول اهتمامها للأولويات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر مساسًا بالأمن القومي، وليس الأولويات البيئية.
.
رابط المصدر: