“لافروف” في أفريقيا: خطوات على طريق صياغة عالم ما بعد الحرب الأوكرانية

 داليا يسري

 

زار وزير الخارجية الروسي، “سيرجي لافروف”، اليوم 24 يوليو، القاهرة في مستهل جولته الأفريقية المقرر انعقادها في الفترة ما بين 24- 28 يوليو، وتضم مصر وإثيوبيا وأوغندا والكونغو. ووفقًا لما نشرته المتحدثة باسم الخارجية الروسية، “ماريا زاخاروفا”، قبيل الزيارة، فإن أجندة عمل “لافروف” في القاهرة تضمنت سلسلة من اللقاءات الثنائية التي تبحث في تعزيز التعاون بين مصر وروسيا لكون القاهرة هي الشريك التجاري الأول لموسكو في القارة.

وقد استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، “لافروف”، بحضور وزير الخارجية سامح شكري، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الرئيسة لدى الخارجية الروسية والمسؤولين ذوي الصلة. ووفقًا لتصريحات، السفير بسام راضي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية. فقد قام “لافروف”، بنقل رسالة من الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، للرئيس المصري. وتضمنت الرسالة التعبير عن التقدير والتحية للرئيس، بالإضافة إلى بعض موضوعات التعاون الثنائي بين البلدين، والتأكيد على الأهمية التي توليها روسيا تجاه ترسيخ العلاقات الثنائية مع مصر في إطار اتفاق الشراكة والتعاون الاستراتيجي بين مصر وروسيا من خلال المشروعات التنموية المشتركة الجاري تنفيذها حاليًا. وتضمنت الرسالة التعبير عن التقدير تجاه مبادرة مصر لتشكيل لجنة الاتصال الوزارية في إطار جامعة الدول العربية سعيًا إلى تسوية الأزمة الأوكرانية وما تم خلالها من زيارة للعاصمة الروسية موسكو من قبل السادة وزراء الخارجية المعنيين.

من جهة أخرى، ليس ثمة شك في أن هذه الزيارة ترتبط بتوقيع روسيا لاتفاقية صادرات الحبوب يوم 23 يوليو. وهو الحدث الذي يتسم بطابع محوري بالنسبة للقارة السمراء ككل، ولمصر بوصفها من كبار مستوردي القمح على وجه خاص. علاوة على ذلك، فإنه ليس من الممكن النظر إلى أبعاد ودلالات هذه الجولة في معزل عن التوقيت المحوري الذي تمر به الأجواء العامة للعلاقات الدولية في العالم، والذي من المؤكد أنه يلقي بظلاله على نوايا موسكو وخططها فيما يخص إرساء نموذج جديد في عالم ما بعد الحرب.

قطار النظام العالمي الجديد: موسكو في محطات سبقت الجولة

ثمة ارتباط وثيق بين التحركات الأخيرة لموسكو على الساحة العالمية خاصة خلال الفترة الأخيرة وبما يتصل مع القمة الثلاثية التي انعقدت في طهران بـ 19 يوليو، وبين إجمالي ما تلى تلك القمة، بدءً من توقيع موسكو على اتفاقية صادرات الحبوب 23 يوليو، وصولًا إلى القمة الأفريقية التي يستهلها الوزير الروسي اليوم. وكانت تحركات موسكو قد اتخذت أشكالًا عدة؛ تصبو في نهاية المطاف إلى الهدف الأكبر نفسه، وهو تشكيل النظام العالمي الجديد.

فبتاريخ 21 يوليو، أعلن الكرملين أن محادثة هاتفية جرت بين الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، وولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان آل سعود. وخلال المكالمة، قدم الجانبان تقييمًا إيجابيًا للمستوى الذي تحقق من العلاقات الودية بين روسيا والسعودية. حيث تمت مناقشة قضايا التعاون الثنائي مع التركيز على توسيع العلاقات التجارية والاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة. وأكد الطرفين على أهمية مواصلة التنسيق في إطار “أوبك”. ولوحظ بوضوح أن الدول المشاركة في هذه الصيغة تفي باستمرار بالتزاماتها من أجل الحفاظ على التوازن والاستقرار اللازمين في سوق الطاقة العالمية. كما جرى تبادل للآراء بشأن الوضع في سوريا، آخذين بعين الاعتبار نتائج اجتماع، 19 يوليو، في طهران.

وفي التاريخ نفسه، قدمت “زاخاروفا”، إحاطة رسمية بشأن المحاولات الفاشلة للغرب الجماعي بهدف إلغاء الثقافة الروسية. واختصت في إحاطتها الحديث عن مصر تحديدًا. حيث قالت إن روسيا مستعدة للتعاون البناء على المسار الإنساني مع الدول الأجنبية. وجرى في القاهرة، بدعم من وزارتي الثقافة والخارجية الروسية خلال الفترة من 16 -17 يوليو، تنظيم منتدى ثقافي في إطار التلاقي للتعاون الإنساني بين روسيا ومصر. ولفتت إلى أن هذا العام اشتمل على العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية المتبادلة.

وعشية بدء الجولة، نشر “لافروف”، مقالًا لدى صحيفة “الأهرام”، و”ديبيش برازافيل” الكونغولية، و”نيو فيجن” الأوغندية، و”هارولد” الإثيوبية. أوضح من خلاله المعالم الرئيسة لاستراتيجية روسيا تجاه الدول الأفريقية. فقال، “تدعو روسيا دائمًا إلى ترسيخ موقف إفريقيا في نظام متعدد الأقطاب يستند إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والحضاري في العالم.” وأكد على ترحيب بلاده بتطوير تعاون ناجح مع الهيئات التكاملية مثل الاتحاد الأفريقي ومجموعة شرق إفريقيا والهيئات المشابهة. وأوضح “نعتبر إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية خطوة مهمة نحو الاستقلال الاقتصادي الأصيل للقارة وتحريرها النهائي من جميع ظواهر التمييز والقيود”.

وأكد “لافروف” في مقاله إن بلاده منفتحة على التعاون مع دول القارة في ضوء الاتفاقيات الاستراتيجية المتخذة أثناء القمة الأولى لمنتدى روسيا –إفريقيا في نهاية 2019 بمدينة سوتشي. ودعا إلى عقد القمة الروسية الإفريقية الثانية التي أشار إلى أنها ستسهم في تحقيق مهام التعاون بين كافة الأطراف. وقال، “بدأنا الآن مع الأصدقاء الأفارقة في تطوير محتوياتها الموضوعية”.

ولم يغفل “لافروف” التأكيد على الفروقات بين روسيا وسياساتها تجاه القارة والغرب؛ فقال “في الوقت نفسه، أؤكد أن بلدنا لا تفرض أي شيء ولا تعلم الآخرين. نحترم سيادة الدول الإفريقية وحقها ـغير القابل للتصرف- في تقرير مصيرها. نتمسك بمبدأ ينص على الحلول الإفريقية للقضايا الإفريقية. يختلف هذا النهج لتنمية العلاقات الدولية قطعًا عن المنطق المفروض من قبل دول ممتلكة للمستعمرات الذي يمكن وصفه بالسيد – التابع ما يكرر النظام الاستعماري البائد.”

نظرة تحليلية

إن المُتابع الدولي لا يحتاج إلى عين خبير كي يتوصل إلى استنتاج مفاده أن حقبة جديدة من العلاقات الدولية تتشكل في الوقت الحالي؛ فعلى الرغم من أن الاتحاد الروسي دفع الثمن غاليًا نظير بلوغ النظام الدولي هذه المرحلة الحرجة، إلا أنه من الأجدر القول إننا اليوم نشهد أول ملامح عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية. والأمثلة على ذلك كثيرة ولا لبس فيها؛ فقد باءت قمة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، 16 يوليو في الخليج العربي بالفشل. وعاد إلى بلاده دون أن يحصل على مبتغاه من حيث رفع إنتاج المملكة العربية السعودية من إنتاج النفط، أو حتى إقناع الدول العربية بتشكيل ناتو عربي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلم تلبث أيام أن تمر، دون انعقاد القمة التركية الروسية الإيرانية المشتركة، التي لم ينتج عنها فقط توحيد الصفوف بشكل كفيل بكسر العزلة التي تسعى واشنطن إلى فرضها على روسيا وإيران فحسب، بل امتد الأمر إلى أن وقفت الدول الثلاث صاحبة النفوذ الأكبر في سوريا وأعلنت عدم رغبتها بقاء القوات الأمريكية في الأراضي الغنية بالنفط السوري، وعبرت روسيا عن رغبتها في وقف سرقة النفط السوري على أيادي الأمريكيين.

حتى سيل العقوبات الغربية التي ما لبث الغرب أن قام بتوقيعها على روسيا، بدأ يتراجع عنها بمجرد أن أدرك أنه يؤذي نفسه بالتدريج. فقد أعلن الاتحاد الأوروبي، أمس 23 يوليو، عن تعديل العقوبات المفروضة على روسيا بشكل يسمح لشركة روسنفت بتزويد دول أخرى بالنفط. ووفقًا لبيان الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد، فإنه يحدث “من أجل تجنب أي عواقب سلبية محتملة على الغذاء وأمن الطاقة في جميع أنحاء العالم. قرر الاتحاد الأوروبي تمديد الإعفاء من الحظر المفروض على تنفيذ الاتفاقيات مع بعض الهياكل الحكومية فيما يتعلق بالعمليات مع المنتجات الزراعية ونقل النفط إلى بلدان ثالثة.”

وهنالك أيضًا، الفارق الشاسع، ما بين المواقف الفعلية والتصريحات الهلامية. فمن ناحية، نجد تصريحات الغرب العنترية حول التأكيد على عدم التراجع عن هزيمة روسيا في أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، نجد تراجع غربي من حيث المواقف على الأرض نزولًا عند رغبة روسيا. ولنا في أزمة حصار كالينيجراد مثال بالغ؛ وبعد أن حظرت ليتوانيا تصدير البضائع إلى مدينة كالينيجراد الروسية بتاريخ 17 يونيو، اعترضت روسيا وأطلقت تهديدات عنيفة إذا لم يتم التراجع عن هذا الأمر. فترتب على ذلك أن أصدر الاتحاد الأوروبي قرارًا بإلغاء الحظر على البضائع بدءً من 13 يوليو الجاري.

وبالأمس 23 يوليو، دعا رئيس الوزراء المجري، “فيكتور أوربان”، الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة ابتكار استراتيجية جديدة لمواجهة الحرب في أوكرانيا لأن العقوبات الموقعة على موسكو لم تنجح. وأضاف “أوربان” في كلمة ألقاها في رومانيا، “أي استراتيجية جديدة يجب أن تركز على محادثات سلام صياغة اقتراح سلام جديد.. بدلًا من كسب الحرب”.

نخلص من كل ما سبق؛ إلى أننا بصدد تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وتحرص موسكو من جهتها على التأكيد بأن هذا النظام لن ينطوي على إجبار الدول على إلغاء إرادتها وتبني وقيم وأفكار الغرب بشكل أعمى. لذلك، نستنتج من المعالم الرئيسية للمشهد الدولي الراهن أن أسباب هذه الجولة تتمحور حول عدة أركان رئيسة؛ نسردها كالتالي:

 كانت الدول الأفريقية هي أكثر من يقلق على صادرات الحبوب. وبما إن الاتفاقية الخاصة بالصادرات تم التوقيع عليها، فإن موسكو ستكون أول من يحرص على التأكيد لهذه الدول بأن موسكو -وموسكو وحدها- كانت هي السبب الرئيس وراء الانفراجة. وهذا الجزء كان جليًا في مقال “لافروف”، تحديدا عندما قال؛ “يجب على جميع أصدقائنا الأفارقة أن يفهموا أن روسيا ستواصل بضمير الوفاء بالتزاماتها في إطار العقود الدولية المبرمة في مجال واردات الغذاء والسماد والطاقة والسلع الأخرى المهمة للغاية لإفريقيا”.

 التوقيت مناسب لتوحيد الصفوف مع دول القارة الأفريقية التي ترفض القيم الغربية. وهذا البند كان واضحًا في مقال “لافروف”، عندما قال، “نعرف أن الزملاء الإفريقيين لا يوافقون على الجهود العلنية من طرف الولايات المتحدة والأتباع الأوروبيين لإملاء إرادتها وفرضها على المجتمع الدولي ونظام أحادية القطبية.”

 التوقيت ملائم لتنفيذ وتفعيل اتفاقيات التعاون القديمة، وتوقيع اتفاقيات جديدة، لاسيما مع الدول الأفريقية التي لم تعلن حتى الآن موافقتها للتبادل التجاري والعسكري اعتمادًا على العملة الوطنية للدولتين.

– تفعيل المبدأ الروسي في السياسة الخارجية، القائم في الأساس، على الظهور حيثما تركت الولايات المتحدة فراغ. لاسيما وأن وسائل الإعلام الغربية استغلت فرصة انخراط روسيا في الحرب الأوكرانية للترويج لفكرة أنها من المؤكد غابت عن المشهد في أفريقيا، وأن نفوذها هناك من المحتم أن يكون قد تأثر.

– ربما تستغل موسكو الفرصة لإعادة تقديم نفسها للقاهرة كوسيط في حل أزمة سد النهضة.

 توجيه ضربة جديدة وحاسمة للغرب من خلال تنظيم القمة الروسية الأفريقية المزمع انطلاقها في منتصف العام القادم، والتي ستحدد طبيعة الدول المشاركة بها شكل العلاقات المستقبلية بين روسيا والقارة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71621/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M