تركّز هذا الحوار مع الباحث الإيراني الدكتور محمّد فتح علي خاني على التأسيسات النظريّة لعلم الاستغراب. فقد تمحورت إجاباته حول ماهيّة هذا العلم، وجذوره ورؤية المفكّرين في العالم الإسلامي لحقيقة الغرب وتحوّلاته الفكريّة والمعرفيّة. المعروف أنّ الدكتور خاني حائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من كلية الأدبيات والعلوم الإنسانية من جامعة طهران. وهو يشتغل حالياً في مركز تحقيقات «الحوزة العلمية والجامعة»، بالبحث والتحقيق والتأليف والتدريس. وقد صدرت له أعمال متنوّعة في موضوع الدّراسات النّقديّة لآراء العلماء والمفكرين الغربيين. وله في الوقت نفسه دراسات حول الموضوعات المقارنة والفكر الإسلامي أيضاً، أبرزها: (العقل والدين من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين والغربيين)، (الآراء التربوية للعلماء المسلمين)، (آراء المفكرين المسلمين في حقل التربية والتعليم ومبانيهما)، (العقل والوحي في الإطار الزمني)، (المنشأ التاريخي والمنهجي لفلسفة هيوم الدينية)، وما إلى ذلك من الكتب الأخرى. وفي ما يلي نص الحوار:
«المحرّر»
* ما هو الاستغراب، وما هي جذوره التاريخيّة؟
لقد بدأ الاستغراب في إيران قبل عقدين من الزمن؛ بمعنى أنّ هناك كتبًا تمّ تأليفها في هذا الموضوع، وتمّ تشكيل مختلف المجموعات في هذا الشأن. وبطبيعة الحال فإنّ الاستغراب نفسه ظاهرةٌ غربيّةٌ. وفي الحقيقة ما أن نعمل على موضعة ثقافة أو حضارة ما ونخضعها للدراسة والبحث -بالشكل الذي تجلّى في اللحظة الراهنة- حتى تكون ظاهرة غربيّة. إنّ الاستشراق الذي استعملوه يمثّل ضلعًا من أضلاع هذا الرأي، وهو أنّ جميع الأشياء -ومن بينها الإنسان، والحضارة، والثقافة- يمكن موضعتها أو تشييئها والتحقيق بشأنها. إنّ لهذا الاتّجاه هويّةً غربيّةً، فهو ينتمي إلى الغرب الحديث. منذ القرن التاسع عشر حيث بدأ النّشاط الديموغرافي في الغرب، حتى انهمك أشخاص من مختلف الجماعات بالتعرّف على الثقافات غير الأوروبية، ومن هذه الزاوية ازدهر علم الاستشراق[1]. وبطبيعة الحال فإنّ اسم المؤسّسات الغربية التي تنشط في حقل الاستشراق، هو في العادة «الدراسات الشرقية»؛ بيد أنّ زاوية الرؤية فيها زاوية غربية، حيث تعمل على دراسة الشرق من زاوية الغرب. إنّ دراسة الشرق من زاوية الغرب تعني أنّ جميع المفاهيم والعناصر المكوّنة للثقافة الشرقية يجب أن تكون بحيث يمكن التعرّف عليها بالمقولات الحاكمة في الذهن الغربي. من ذلك على سبيل المثال أنّ الحريّة في الغرب ـ بالنظر إلى جذورها التاريخية ـ تمثّل مفهومًا في غاية الأهميّة، ولكن ربّما كان مفهوم «العدالة» يحظى في الشرق بأهميّة أكبر. إن الغربيين يدرسون حكومات الشرق على مختلف المراحل التاريخية، ويعملون على تقسيمها إلى مختلف المراحل من قبيل: الاستبدادية وغيرها؛ بيد أنّ هذا التقسيم والتسمية تنشأ من أولويّة مفهوم الحرية في أذهانهم؛ ومن هنا فإنّي أذهب إلى الاعتقاد بأنّ الاستغراب نفسه بمنزلة المقولة الغربية. وبطبيعة الحال يمكن العمل على تغييره وتبديله، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّنا إذا كنّا بصدد معرفة الغرب، يجب أن لا نقوم به بطريقة غربية. يجب أن نتخذ من أصولنا وأركاننا الفكريّة معيارًا لمعرفة الغرب، وأن نسعى إلى وضع كلّ ما نعتزم معرفته في أطره المعرفيّة؛ كي نحصل على معرفة واقعية بالنسبة له. وإلا فإنّنا في غير هذه الحالة سوف نعمل على اجتذاب مقولات الغربيين، كما أنّنا قد فعلنا ذلك في الوقت الراهن. وحيث إنّهم يمتلكون منظومة في الدراسات، فإنّهم في الكثير من الأحيان يصبحون قادة وقدوة لنا، وبذلك فإنّا نتأسّى بهم وننجذب نحوهم. من ذلك على سبيل المثال أنّ إدوارد سعيد ـ وهو شرقي من فلسطين ـ يمارس الاستشراق. قبل فترة سأل أحد الأصدقاء في اجتماع ـ حضره نعوم تشومسكي ـ عن إدوارد سعيد؛ الأمر الذي أثار انبهار تشومسكي. لماذا يحظى إدوارد سعيد بالمقبولية والاشتهار؟ إن سبب ذلك يعود إلى أنّه ينشط في الأطر المعرفية الغربية، مهما اصطبغت آراؤه بصبغة ناقدة. وفي الحقيقة فإن زاوية إدوارد سعيد قابلة للفهم من قبل الغربيين. وفي المقابل نجد عبد الهادي الحائري مشحون الصدر، ويشكو الكثير في مقدمة كتبه من الدراسات الشرقية في الجامعات الكندية وأميركا الشمالية؛ وذلك لأنّ عبد الهادي الحائري لا يواكب الغربيين ولا يماشيهم في الدراسات الشرقية ولا ينجذب للمقولات الغربية.
* ما هي نسبة الفلسفة إلى الاستغراب؟ وبعبارة أخرى: إذا صحّ أن الفلسفة في الغرب تمثّل مبنًى للأفكار المتنوّعة في حقل العلوم الإنسانية أو حتى العلوم التجريبيّة؛ فإلى أيّ حدّ يترك هذا الادّعاء ـ وبأيّ شكل من الأشكال ـ على استغراب المسلمين (ونعني بذلك الاستغراب بالمعنى الأعم)؟
إنّ الحضارة والثقافة تقومان على الفلسفة. بمعنى أنّ الفلسفة تدعم الرؤية الثقافيّة للكون؛ فإنّ الأجزاء الثقافيّة التي تمتلك هويّة مستقلّة أصيلة وغير مستوردة، وتنشأ بنحو وآخر من رؤية كونيّة وعقيدة واحدة. وعلى هذا الأساس يعود منشأ الأنشطة جميعها ـ التي تحدث في دائرة هذه الثقافة ـ إلى رؤية كونية واحدة. وبطبيعة الحال فإنّ الفلسفة هامّة على الدوام؛ ولكن حدث في الغرب نوع من الوعي الذاتي بالنسبة إلى الفلسفة؛ إذ إنّ بعض المسائل الهامّة في تاريخ الغرب، من قبيل: مسألة الإصلاح الديني والثورات المختلفة، قد جذبت الأذهان إلى حقيقة هامّة، وهي أنّ الثقافات والحضارات تقوم على رؤيةٍ كونيّةٍ وعلى فلسفة. إنّ الغربيين قد أولوا هذه المسألة اهتمامًا ثانويًّا، وقاموا على أساسها بدراسة ثقافتهم مباشرة. وعلى أساس هذا الاتّجاه صاروا بصدد استخراج العقائد والتعريف بالفلسفات. من ذلك ـ مثلاً ـ أنّهم قد تعرّضوا إلى هذه المسألة وهي: لماذا اتّخذ الإنسان الغربي هذا الموقف من الصنعة؟ وأدركوا أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الإنسان الحديث إنسانٌ أنانيٌّ، ويسعى إلى نفي التنظير ليجعل من عقلانيّته هي المحور. ومن هنا فإنّهم يعتقدون بأنّ على الإنسان أن يخلق جنّته بيده وأن يحدث تغييرًا في البيئة المحيطة به دون الاستعانة بالغيب. وبالتالي فإنّ هذه الرؤية قد عصفت حتى بالمتديّنين أيضًا؛ حيث أخذوا يميلون من النزعة الإلهيّة إلى النزعة الإنسانيّة. وكذلك نتيجة لهذه الرؤية تغدو رؤيتنا إلى الطبيعة مختلفة أيضًا. نحن في الرؤية التقليدية من الطبيعة، وفي الطبيعة، ونتعايش مع الطبيعة، ونعتبر الأشياء جميعها مخلوقات لله، وإنّ كلّ شيء محترم، وأنّه يمثّل آية من آيات الله. نحن نعيش مع الشجر والحجر والأرض والبحار، وإن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا جميعًا. إنّ هذه الرؤية مختلفة للغاية عن ذلك الاتّجاه القائل بوجوب أن أعمل بنفسي على إيجاد ما أراه ضامنًا للسعادة في الأرض، وأن أبسط سيطرتي على الطبيعة. إنّ هذه السيطرة على الطبيعة، توجد أهميّة للتكنولوجيا، ونتيجة لذلك تغدو العلوم التجريبيّة ضروريّة، وبذلك نصل إلى ما نحن عليه حاليًا. في الثقافات التقليدية لا يوجد شعور بضرورة السيطرة على الطبيعة بهذا الشكل الواسع. من ذلك مثلاً في السلالة حيث تنشب الحرب والقتال، تصبح الغلبة في غاية الأهميّة، حتى أنّ الأخ يقتل أخاه من أجل تحقيق هذه الغلبة، في حين أنّ الجميع قبل اندلاع الحرب واحتدام القتال كانوا متعايشين، ولم يكن هناك لدى أيّ منهم شعور بالحاجة إلى الغلبة على الآخر. وعلى هذا الأساس فإنّ الفلسفة الغربية نوع فلسفة تقوم بدورها وتترك تأثيرها وتفعل فعلها سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه. وبعبارة أخرى: حيث نظّم الإنسان نسبته وعلاقته مع الطبيعة بهذا الشكل، فإنّه قد اتّجه إلى التكنولوجيا، والسيطرة على الطبيعة، وبناء الحياة الجديدة والرفاه. وفي الحقيقة فإنّ الإنسان الغربي بسبب هذا التفكير يطالب بالسيطرة على الطبيعة. إنّ هذه الفلسفة والرؤية الكونيّة تتسلّل إلى التربية والتعليم، وتصبح شاملة بسرعة فائقة، ويتبنّى الجميع الرأي القائل بضرورة الاستفادة من الطبيعة والسيطرة عليها واستثمارها. ويغدو الرأي هو أنّ الطبيعة في نهاية المطاف ليست بذات أهميّة، بل إنّ المخاوف إنّما تعود إلى اللحظة التي يشعر الإنسان فيها بالخطر وأنّه مهدّد. وفي هذه الصورة فقط يتمّ طرح أزمة البيئة. وعلى هذا الأساس فإنّ أزمة البيئة، لا تمثّل دمعة تسكب حزنًا على الطبيعة، وإنّما هي دمعة تسكب حزنًا على أنفسنا وعلى استفادتنا وتنعّمنا بهذه الطبيعة؛ وذلك لأنّ استمرار هذا الوضع يمنعنا من التنعّم والاستفادة من الطبيعة واستثمارها في المستقبل. وعلى هذا الأساس يجب أن نعمل على إدارة الأوضاع وتحسينها. وعلى هذا الأساس فإنّ الفلسفة هامّة في الثقافات جميعها؛ ولكنّها في الثقافة الغربية قد اكتسبت أهميّة مضاعفة؛ وذلك لأنّ التعرّف على الأصول الفلسفيّة وقواعدها لهذه الثقافة، يمثّل وسيلةً لتحقيق أهدافهم وأداةً؛ بمعنى أنّ الإنسان الذي يريد بناء الجنّة على الأرض والسيطرة على الطبيعة، يعمل دائمًا على نبذ الآراء الإلهيّة والغيبيّة والأخرويّة. وعلى هذا الأساس تكون الفلسفة قد قامت بالتعريف عن نفسها، وتعمل على بيان الفوائد والمنافع التي تساعد على تطوّر الحضارة وشموليّتها للجميع، كي يتمّ بذلك إيجاد شريك ومساعد أكبر لتطوير الحضارة.
طبقًا لهذا التقرير، هل يمكن الادّعاء بأنّ الرجوع إلى الفلسفة الشرقيّة في الاستشراق أقلّ أهميّة بالقياس إلى الرجوع إلى الفلسفة الغربيّة في الاستغراب؟ بمعنى: إنّ الاتّجاهات العمليّة والاجتماعيّة الشائعة في الغرب من التجذّر في مبانيهم الفلسفيّة بحيث يجب الرجوع حتمًا إلى الفلسفة الغربية للتعريف بالغرب، ولكن هذا ما لا نستشعر الحاجة إليه كثيرًا في دراسة الشرق.
إنّ دور الفلسفة الرسميّة في الثقافة الشرقيّة يعدّ مختلفًا بالقياس إلى الثقافة الغربيّة. إنّهم قد سعوا ـ في إطار المدارس الفلسفيّة المختلفة ـ إلى بسط المادّة الأصليّة للرؤية الغربيّة. بيد أنّ التيّارات الموجودة بيننا والتي كانت تندرج ضمن العنوان الرسمي للفلسفة، كانت تيّارات هامشيّة. لقد كان الفلاسفة في عزلة دائمة على مدى التاريخ الإسلامي، وكان يُنظر إليه بعين الشك والارتياب. كما ينظر البعض حاليًا إلى الفلسفة بنظرةٍ سلبيّةٍ، ويعتبرون الفلاسفة أشخاصًا متأثّرين بالغرب. وفي الحقيقة فإنّ المسلمين في الكثير من المراحل الثقافيّة قد نظروا إلى أصحاب الفلسفة برؤيةٍ سلبيّةٍ؛ ولم يتمكّن الفلاسفة من تحقيق نجاح ملحوظ في الدخول إلى صلب حياة الناس. وبطبيعة الحال فإنّ التعريف بتلك الفلسفة التي تعدّ مقدّمة لمعرفة أيّ ثقافة ـ ناظرة إلى الثقافة الإسلامية ـ لا الفلسفات المتداولة من قبيل فلسفة ابن سينا وصدر المتألهين؛ إذ إنّ الرؤية الكلاميّة والرؤية العرفانية بدورهما بمنزلة الفلسفة. وقد كان لجميع هذه الأنظمة الفكرية نفوذ في ثقافة البلدان الإسلامية. وفي الحقيقة فقد تمّ بناء ثقافة البلدان الإسلامية على أساس هذه المنظومات. وعلى هذا الأساس فإنّ التعرّف على الشرق لا يستغني بدوره عن الرجوع إلى الفلسفة الشرقية تحت ذلك المعنى العام. كما قاموا بمثل هذا الجهد أيضاً؛ إذ عند مراجعة الدراسات التي أجريت حول ابن سينا، نجد أن الأعمال الغربية كثيرة. وإنّ السبب في جانب من كثرة الدراسات يعود إلى أنّهم يعتبرون فلسفة ابن سينا الصيغة المتنزلة من تراث الغرب المتقدّم. وبطبيعة الحال فإنّ جانبًا من ذلك يعود سببه أيضًا إلى التعريف بالشّرق؛ إذ إنّ التعرّف على الفلاسفة الشرقيين من لوازم المعرفة الكاملة للشرق. وعلى هذا الأساس فإنّ دراسة فلسفة الشرق في غاية الأهميّة؛ كما أنّ دراسة فلسفة الغرب هامّة في معرفة الثقافة الغربية أيضًا، وفي الحقيقة فإنّ كلا الأمرين على درجة كبيرة من الأهميّة.
* كيف هي انطلاقة وطريقة تطوير مشروع يحمل عنوان «الاستغراب النقدي»؟ وبعبارة أخرى: كيف ندير هذا المشروع، كي نكون قد طوينا المسار المنطقي ونصل كذلك في نهاية المطاف إلى النتائج المنشودة أيضاً؟
إنّ النقطة التي أكّدت عليها في بداية كلامي في غاية الأهميّة؛ وهي أن لا يتمّ التعرّف على الغرب في إطار التفكير الغربي. ولا إشكال ـ بطبيعة الحال ـ في أن نستفيد من أساليبهم ومنهجيّتهم؛ غاية الأمر يجب أن نعتبرها إطارًا ذهنيًّا، وإنّما علينا أن نعمل على توظيف إطارنا الذهني، ونسعى من خلال ذلك إلى التعرّف على الغرب. وهذه النقطة جوهريّة للشروع في العمل. النقطة الأخرى هي وجوب وضرورة التعرف على الجذور التاريخية للاستغراب بشكل جيّد. من ذلك أنّه يجب علينا أن ننظر إلى الغربيين أنفسهم ونرى إلى أيّ حدّ قد سعوا في التعرّف على الغرب تحت عنوان الثقافة الغربية. وهذا ما قام به الفلاسفة وعلماء الاجتماع الغربيين. حيث درسوا الاختلاف بين الثقافات الداخلية في الغرب، وبيّنوا ـ على سبيل المثال ـ الاختلاف القائم بين أوروبا الشمالية واللاتينية وأحصوا المناشئ التاريخيّة لهذه الاختلافات. علينا أن ننظر حتمًا في الدراسات المتقدّمة، وأن نلتفت إلى هذه الحقيقة الهامّة أيضًا وهي أنّ القائمين على هذا النّوع من التحقيقات قد مارسوا دراستهم طبقًا لتبويباتهم الخاصّة بهم، ومن هنا يجب أن لا نظهر بمظهر المقهورين والتابعين لهم. إنّ الروس في حقبة الحكم الماركسي قد اهتمّوا بالاستغراب على أساس من مثل هذه الدوافع والحوافز. كما خاض الشرقيون ـ ولا سيّما في الشرق الأقصى ـ في مثل هذه الدراسات أيضًا. وفي غير هذه الحالة هناك إمكانيّة العمل المتكرّر؛ وفي الوقت نفسه سوف نصل إلى غايتنا على المدى البعيد. يجب علينا اتّخاذ التدابير اللازمة بحيث لا يحدث مثل هذا الأمر مهما أمكن. وعلى هذا الأساس فإنّ تحقيقنا سوف يكون إلى فترة ما تحقيقًا تاريخيًّا وفكريًّا. وربّما أطلقتم على ذلك عنوان الترجمة، واعتبرتموه نشاطًا قليل الأهميّة، ولكن لا محيص عنه أبدًا.
* ما هي الجذور التاريخيّة للاستغراب في الغرب وما هي اتّجاهاته؟
لم أقم بتناول الاستغراب على نحو الحمل الأوّلي؛ كي أتمكّن من الإشارة إلى بيان أنواع الاتّجاهات؛ ولكن يبدو لي على نحو الإجمال أنّ الدّراسات التي أجريت حول الحداثة والتنوير وغيرهما يتمّ فهمها على هامش الاستغراب. لقد قام الغربيون بهذه الدراسات -في الغالب- من زاويةٍ فلسفيّةٍ وانتزاعيّةٍ، وكان لبعضهم توجّهًا انثروبولوجيًّا. وعلى الرغم من اهتمام الأنثروبولوجيين الغربيين -في الغالب- بخارج المجتمعات الغربية، إلا أنّهم كانوا مهتمّين بالمجتمعات الغربيّة أيضًا. وعلى هذا الأساس وفي حدود معلوماتي فإنّ جانبًا من الدّراسات التي تمّت حول معرفة الغرب من قبل الغربيين يشتمل على هويّة فلسفية، والجانب الآخر يشتمل على هويّة اجتماعيّة بالمعنى العام للكلمة. إنّ هذه الدّراسات تستوعب طيفًا واسعًا في متنها، وعلى الرّغم من عدم إدراجها ضمن الاستغراب، ولكنّها تعدّ في واقع الأمر نوعًا من الاستغراب. من ذلك -على سبيل المثال- في الأبحاث والتحقيقات الخاصّة بالتربية والتعليم نجد اهتمامًا خاصًّا بالاختلاف بين الجامعات في الدّراسات الغربيّة، وأنّ هناك اختلافًا ماهويًّا بين الجامعة الألمانيّة والجامعة الاسكتلنديّة أو جامعة سيسيليا. إنّهم قد سعوا إلى تحليل الاختلافات المرتبطة بالتعليم. وعلى أساس الخصائص الموجودة في مثل هذه الجامعات أضحت بعض المسائل أولويّة في منطقة، بينما أضحت بعض المسائل الأخرى هي الأولويّة في جامعة بلد آخر. وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التحقيقات إنّما يمكن فهمها على هامش الاستغراب.
* نعلم أنّ هناك الكثير من الموافقين والمخالفين الذين تقدّموا بآرائهم حول النسبة القائمة بين العلم والدين، وفي الأساس فإنّ التعارض بين العلم والدين من بين المسائل التي كثر الجدل بشأنها في الجامعات الغربية. وفي هذا الشأن ما هي التداعيات والأزمات التي طالت الغرب من أنواع التعارض التي تمّ إحصاؤها؟ وفي الواقع إلى أيّ حدّ يمكن لهذه التعارضات أن تشكّل تحديًا للحضارة الغربية؟
إنّ هذا الأمر يتوقّف على الموضع الذي تقفون عليه عندما تواجهون التّعارض. فإن كنت شخصًا غربيًّا سوف يشتمل هذا التعارض بالنسبة لكم على مفهوم خاص، وإن كنت واقفًا في جانب التراث، سوف يكون المعنى والمفهوم مختلفين بالنسبة لكم. إنّ التعارض بين العلم والدين -بالمعنى الذي يتمّ بحثه حاليًّا- مقولة غربيّة. في التفكير الغربي أضحت هناك محوريّة لعقلانيّة خاصّة، وتبلور هذا المطلب الجماعي القائم على أنّ كلّ مقولة يراد لها الاستقرار في تفكير الإنسان، يجب أن تكون عقلانيّة. من ذلك مثلاً أنّ الهاجس الرئيس في كتب فلسفة الدين يكمن في السؤال القائل: هل يمكن إثبات التعاليم الدينيّة بالبرهان؟ وهل يمكن إثبات قيامة السيد المسيح (ع) بالدليل؟ وهل يمكن جعل المعجزة أمرًا عقلانيًّا؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. إنّ هذا النّوع من الأسئلة يعود سببه إلى محوريّة العقل في فكر الإنسان الغربي. وبطبيعة الحال لطالما كنّا غربيين منذ زمن بعيد؛ بمعنى أنّ العقلانيّة كانت لها مثل هذه الوضعية في حقل التفكير الشيعي، خلافًا للقسم الأعظم من الثقافة الإسلامية التي يغلب عليها التفكير الأشعري. وفي الحقيقة فإنّ العقلانية كانت تحظى بأهميّة كبيرة بين الشيعة ولا سيّما الإماميّة منهم. وعلى كلّ حال لو أعطينا المحوريّة إلى العقلانيّة بخصائصها الخاصّة، ستكون مسألة التعارض بين العلم والدين بمعنى المطالبة بالدليل بشأن جميع التعاليم الدينيّة. وفي المقابل إذا كانت المحوريّة لتفكير الإنسان، سوف تتلخّص مسألته في كيفيّة القابليّة على تطابق نمط الحياة الدينيّة مع العقلانيّة ولوازمها؟ ومن هنا يسعى الإنسان المتديّن إلى إيضاح علاقته وارتباطه بمعطيات العلم والعقل. وبطبيعة الحال فإنّ المتدينين الذين يحملون هذا النوع من الأسئلة، ينقسمون إلى أقسامٍ عدّةٍ. إذ هناك من المتدينين من ينفي المعطيات العلمية الجديدة بشكل كامل، ويعرّفها بوصفها رجسًا ونجسًا، ويرى أنّ هذه المعطيات تتعارض مع الحياة الدينيّة. ويسعى متدينون آخرون إلى العمل على أسلمة هذه المعطيات، وتذهب هذه المجموعة إلى الاعتقاد بوجوب الاستفادة من المعطيات الجديدة بعد إجراء بعض الإصلاحات عليها، ولكن بحيث لا تخلّ بطريقة حياتنا الدينيّة. إنّ هؤلاء الأشخاص حيث يقفون إلى جانب الدين يسعون على الدوام إلى التصويت لصالح الدين. كما كان للتعارض بين العلم والدين بالنسبة إلى الغربيين بدورهم دورًا ثنائيًّا؛ فقد وقف بعضهم إلى جانب الدين، وسعى إلى بيان وتوضيح تكليفه تجاه العقلانية. لم يكن المطلب الأساس لهذا البعض يتمثّل بالبحث عن الدليل على إثبات التعاليم الدينيّة؛ لأنّهم يفترضون أنّ صحة التعاليم الدينية أمرٌ مسلّمٌ. بل إنّ سؤالهم يقول: إذا أردنا الحفاظ على الدين وصيانته، كيف يجب علينا التعاطي مع العقلانية؟ وفي المقابل فإنّ السؤال الرئيس الذي يطرحه الغربيون المدافعون عن العقلانية والتنوير هو: هل يمكن الحفاظ على الدين في ظلّ هذا التعارض القائم بين العلم والدين؟ هل يمكن اعتبار المجتمع المتديّن مجتمعًا عقلائيًّا والتعايش معه؟ هل يُعدّ المجتمع المتديّن بمثابة التيّارات التي تستهدف القضاء على الحضارة، ويجب لذلك الوقوف بوجهه؟ وفي الحقيقة فإنّ الحريّة التي يتبجّح بها الغربيون إلى هذا المستوى لا تشمل الجميع. فالذين تتعارض أفكارهم مع الحريّة لا يتم احتواؤهم واستيعابهم، ويتّم التعاطي معهم بوصفهم إرهابيين ومخالفين للديمقراطية وتيارًا معارضًا. إنّ الغربيين يواجهون هذه التيّارات بشدّة. ومن هنا فإنّ السؤال الأساسي للفرد المعتقد بأصالة العقلانيّة هو: هل يمكن فيما يتعلّق بمواجهة التعارض بين العلم والدين إبقاء التيّارات الدينيّة في الصدارة، أم يجب تهميشها؟ والقصد هو أنّه لا توجد ردّة فعل واحدة تجاه التعارض بين العلم والدين. وبعبارة أخرى: هناك تقسيمات في هذا الشأن. وإحدى الحالات تتمثّل بالنظر إلى مسألة التعارض من زاوية الغرب الحديث، والحالة الأخرى أن يتمّ النّظر إليها من زاوية التراث. كما ينقسم هذان القسمان بدورهما إلى أنواع أخرى أيضًا.
* إلى أيّ مدى يعتبر الالتفات إلى هذا التعارض في مقام الاستغراب النقدي نافعًا ومجديًا؟ وبعبارة أخرى: هل هناك مسائل هامّة أخرى لتكون لها الأولوية في دراستنا؟
إنّ التعارض بحث هام. بيد أنّ الالتفات إلى بحث التّعارض؛ بغية فهم كيفيّة نظر الإنسان الغربي إلى العالم، فهو لا ينطوي على كبير فائدة. وفي الحقيقة هناك مسارات أخرى أقصر. من ذلك على سبيل المثال: إنّ الالتفات إلى مثل هذه التعارضات من قبل فيلسوف الدين يؤدّي بالفرد إلى تيّار يُسلب بموجبه القدرة على النظر من الأعلى. لو دخلنا في هذا النوع من الأبحاث فسوف نخوض في تعقيدات البراهين الصغيرة والكبيرة للفلاسفة والمخالفين والمتدينين وغير المتدينين الغربيين، بحيث تتحوّل رؤيتنا إلى رؤية تخصّصيّة ودقيقة. كما نفقد في الوقت نفسه الرؤية من الأعلى أيضًا. إنّ التعارض بحث هام، شريطة أن يكون ضمن إطاره وموقعه، بالإضافة إلى الالتفات إلى هذه النقطة أيضًا، وهي المكانة والمنزلة التي يتمتّع بها التعارض في الثقافة والحضارة. إذا لم يفقد الشخص رؤيته الاستشرافيّة كان ذلك جيّدًا للغاية. بيد أنّ ذلك يبدو بعيد المنال. وعلى هذا الأساس فإنّ التعارض من بين تجلّيات الرؤية العقلانيّة الحديثة. وبطبيعة الحال فإنّ هذا النّوع من التعارضات كان موجودًا في التفكير الإسلامي بنحو من الأنحاء. من ذلك على سبيل المثال مسألة التعارض بين الفلسفة والدين التي كانت مطروحة في تراث الفلاسفة المسلمين؛ بيد أنّ هذا الموضوع لم يقع في سياقه الراهن. إنّ التعارض من بين الأدلّة على أهميّة بحث العقلانيّة الحديثة واختلافها مع الدين والعقلانية التقليدية. إذًا، لماذا نخوض في مسألة التعارض؟ كما أن بحث العقلانيّة الحديثة واختلافها عن العقلانية التقليدية، وموقع العقلانية في التفكير الإسلامي من الأبحاث الهامّة للغاية أيضًا. وعلى هذا الأساس فإنّي أذهب إلى الاعتقاد بأنّ بحث العقلانيّة يحظى بأهميّة أكبر بالقياس إلى التعارض؛ كما تحظى المسائل المرتبطة بالإنسان والأنثروبولوجيا بأهميّة خاصّة أيضًا. من أيّ مسألة من الأنثروبولوجيا نبدأ سوف يؤدّي بنا الأمر مباشرة إلى إدراك الاختلاف بين التفكير الشرقي والتفكير الغربي. من ذلك على سبيل المثال في بحث الاقتصاد وفي مسألة الإنسان الاقتصادي نشعر بالغرابة مباشرة ونعلن بأن الإنسان ليس هو هذا الكائن. وفي الحقيقة فإنّ إدراك الفرد المسلم للإنسان يختلف كثيرًا عن الإنسان الاقتصادي المنشود في التفكير الغربي، وإنّ هذا الاختلاف قابل للإدراك بيسر. وعلى هذا الأساس فإنّ مسائل من قبيل: العقلانية، والأنثروبولوجيا، والتكنولوجيا، والفلسفة السياسية الناظرة إلى الحرية، والعدالة والمسائل المرتبطة بفلسفة الأخلاق وما إلى ذلك، من جملة الأبحاث الجديرة بالدراسة.
هل المواجهة الانتقائيّة مع الغرب صحيحة وممكنة؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن» و«القبيح»، على أخذ كل ما هو من الغرب حسن، ونجتنّب كل ما هو من الغرب قبيح.
إنّ هذا السؤال يحتاج إلى تأمّل. فما هو المراد من الإمكانيّة هنا؟ إنّ أهمّ دليل على إمكان شيء هو تحقّقه. ونحن الآن على قيد الحياة ونعيش في صلب الحياة الغربيّة المنتقاة؛ إذا هي ممكنة ومتحقّقة.
* إنّ المشكلة تكمن في أنّ نمط الحياة الغربيّة المنتقاة، قد انطوى على تبعات وتداعيات بالنسبة إلى المسلمين، وأدّى إلى تعارضات ومشاكل ثقافيّة. وفي مقام تشريح هذه المشاكل لربّما أدّى الانتخاب المزدوج للمعتقدات والمواجهة الانتقائيّة للمعطيات الغربية إلى هذا التحدّي. فإن كنتم تتّفقون مع هذا المدّعى، فما الذي يجب فعله من أجل التغلّب على هذا التحدّي؟
من الواضح أنّ التكنولوجيا قد اشتملت على تداعيات مدمّرة بالنسبة إلى الإنسان الغربي وغير الغربي على السواء. كما أنّ نمط حياة الإنسان الغربي قد تغيّر أيضًا. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ أزمة الطمأنينة والاستقرار، والتكنولوجيا، والعلاقات الإنسانية المتبادلة، تعدّ من بين المشاكل المشتركة بين الإنسان الغربي وغير الغربي. كما اشتملت على مشاكل خاصة بالنسبة إلى المسلمين أيضًا؛ إذ أخذنا نعاني من ازدواجية الشخصية؛ من ذلك ـ مثلاً ـ أننا عندما نذهب إلى المسجد، يتبلور لدينا تصوّر عن العالم وعن أنفسنا، وما أن نخرج من المسجد حتى يستحوذ علينا تصوّر آخر. فعندما نتعاطى مع النظام الضريبي والمصرفي والمواصلات، من قبيل: السيارات والطائرات، ننظر إلى العالم بشكل مختلف. وعندما نتعاطى مع المسجد والمدرسة نفهم الدنيا بشكل آخر. إنّ هذه الازدواجية تمثّل معضلةً كبيرةً ناشئةً عن تعدّد شخصيّة الفرد المسلم. لو أجمع المسلمون قاطبة على بناء الجنّة على الأرض؛ لأصبحت المدن الإسلامية مثل المدن الغربية جميلة ونظيفة، ولسعينا إلى إصلاح وقودنا وماكناتنا؛ بمعنى أنّنا سوف نقوم بالأمور ذاتها التي يقوم بها الغربيون. ولكن عندما نذهب إلى المسجد يتمّ تعليمنا بأنّ الدنيا ومستلزماتها لا تنطوي على أولويّة أو أهميّة، وإنّما المهمّ في الواقع أمور أخرى، ويجب السعي وراء تحقيق تلك الأمور. ونتيجة لذلك نكتفي على الدوام بـ «التوكّل على الله»، ونتصوّر أنّنا بالتوكّل على الله، في يوم من أيّام السنة، سوف نغدو أفضل مدينة في العالم. وبذلك فإنّنا نعمل على تحريف مفهوم التوكّل وتدميره. وهذا الأمر بدوره يعود إلى تعدّد الشخصيّة. إنّ تعدّد الشخصيّة يؤثّر حتى في المنظومة الإدارية للمسلمين أيضًا؛ من ذلك أنّنا نعتبر الديمقراطية والانتخابات ـ طبقًا للتأسّي بالغرب ـ بمنزلة استبدال الدول بعد كلّ أربع سنوات، ولا شأن لنا بالسنوات الأربعة القادمة. إنّ هذا العارض المدمّر ناشئ عن تعدّد الشخصيّة. وعلى هذا الأساس فإنّ تبنّي الفكر والتكنولوجيا الغربيين مضرّ بالمسلمين، ولكن هل هناك إمكانية للاختيار؟ الذي أقوله هو أنّنا نواجه تحقّق ذلك، وهذا خير دليل على إمكانه. وعليه يجب طرح هذا السؤال على النحو الآتي: هل هناك إمكانيّة لعدم الانتقاء؟ يبدو أنّ هذا غير ممكن.
* والآن حيث لا يكون أمامنا من خيار سوى الانتقاء؛ فما هي التداعيات المترتّبة على ذلك، وما هو الحلّ للخروج من هذا المأزق؟
نحن مواطنون في القرية العالمية؛ ولكنّنا لا نتحلّى بالمسؤوليّة بوصفنا مواطنين في هذه القرية. بمعنى أنّنا في هذا العالم المنسجم والذي يسير إلى جهة ما، لا ننشد الإصلاح. ولو أردنا الإصلاح فسوف نكون مواطنين مسؤولين في هذه القرية العالمية. وأمّا إذا ذهبنا إلى الاعتقاد بأنّ كلّ شيء في هذه القرية العالمية تحت سيطرة الآخرين والرأسماليين وأنّنا مجرّد تيار، وأنّ جلّ ما علينا هو الحفاظ على ما لدينا والعمل على صيانته، لن نكون مواطنين مسؤولين. وفي هذه الحالة سوف يتم اعتبارنا من وجهة نظر الغربيين إرهابيين أو مخربين، ولا نروم المشاركة في تطوير حركة وتقدم هذه القافلة البشريّة ومواكبتها. وبعبارة أخرى: نحن جميعًا في سفينة واحدة، وعلينا السعي من أجل تنبيه القبطان كي لا يتنكّب بنا الطريق ويسير بنا نحو الاتّجاه الخاطئ. أو إذا لم يكن من أهل التحاور والتفاهم، يجب العمل على تفهيم سائر ركّاب السفينة وحثّهم على التفكير من أجل البحث عن قبطان جديد؛ إذ إنّ هذا القبطان لا يملك أذنًا صاغية، وعليه يجب عليكم التوصّل إلى تفاهم مشترك مع سائر ركاب السفينة، وإلا سوف تتحولون إلى ثوار ومناضلين. إذا أردنا أن يكون لنا حضور مسؤول في النظام العالمي، وكنا نهدف إلى تغييره التدريجي، سوف تتّجه إلينا بعض التكاليف. نحن على ظهر سفينة تسلك بنا طريقًا خاطئًا، بيد أنّ تغيير مسارها يحتاج إلى مسار تاريخي طويل الأمد. لو فكرنا بعمق في تغيير هذا المسار، سوف تكون لدينا تكاليف مختلفة؛ وأما إذا أردنا النجاة بأنفسنا أو عقدنا العزم على إنقاذ أنفسنا والبحث عن زورق أو أطواق نجاة، فإنّ الوضع سيكون مختلفًا. إنّ الاختلافات الداخليّة بين المسلمين حاليًا تنشأ من هذه الآراء. إذًا، لا بحث في إمكانية الانتقاء. وللبقاء بمنجًى من الأضرار والآفات يمكن تصوّر اتّجاهين. الاتّجاه المعارض، والاتّجاه المتماهي أو المسؤول. والمراد من الاتّجاه المسؤول ليس هو المنحى الأخلاقي. بمعنى أنّ الإنسان المعارض ليس مسؤولاً. ولربّما كان إحساسه بالمسؤوليّة أكبر؛ لأنّه يخاطر ويلقي بنفسه في أتون الخطر. وعليه فإنّ المراد من الاتّجاه المسؤول هو الاتّجاه المسؤول داخل المنظومة. وعليه هناك اتّجاهان عامّان، وإنّ أحد المسائل المشتركة في هذين الاتّجاهين يكمن في مشروع أبحاث العلوم الإسلامية والعلم الإسلامي. إنّ العلم يحتوي على الثقل الثقافي لبيئة إنتاجه المتمثّلة بالغرب. ولو تمكّن المسلمون من إنتاج علم بديل يحتوي على الثقل الثقافي لتفكير واعتقاد المسلمين، سوف يكون ذلك العلم بمنزلة النور والضوء الكاشفين من أجل رفع المشاكل واجتثاثها. إنّ هذا العلم يؤدّي إلى تحصين المسلمين تجاه الآفات في إطار التعاطي الثقافي مع العالم. من ذلك على سبيل المثال إذا كانت لدينا القدرة على الفصل بين التكنولوجيا الإسلامية والتكنولوجيا الغربية، كان تصوّر حدوث الآفات في المواجهة مع الغرب أقل. ولربما أمكن إعداد بعض المزايا للعالم الإسلامي؛ كي يجنح الغربيون نحو تحصيل هذه المزايا، وبذلك يتم العلم في الوقت نفسه على تحدّي التكنولوجيا والثقافة الغربيّتين. لو أمكن تقديم تكنولوجيا ونمط حياة مختلف، بحيث يشعر الناس فيه بالمزيد من الهدوء والأمن والطمأنينة، فإنّ الآخرين بدورهم سوف ينشدون ويطالبون بهذا النمط من الحياة. ويمكن لمثل هذه المنتوجات أن تعمل ـ في الوقت نفسه ـ على دعم الاتّجاه المعارض والاتّجاه المسالم ومساعدتهما، وأن تحافظ علينا في مواجهة آفات التعاطي مع الغرب أيضًا.
.
رابط المصدر: