لبنان بعد الحرب… السيولة والاضطراب

في الساعات أو الايام الأخيرة للحرب الإسرائيلية على لبنان، وفي ظل الضربات الكثيفة التي يلجأ المتحاربون إليها قبل دخول اتفاقيات الهدنة حيز التنفيذ، بُعث سجال سقيم حول “الانتصار” أو “الهزيمة” ومَن مِن الطرفين، إسرائيل أو “حزب الله” قد حقق أهدافه أو منع الخصم من تحقيق ما كان يصبو إليه.

هو سجال سقيم لأنه يفوّت المعنى الكبير لما جرى في الشهرين الماضيين في لبنان. دع عنك موازين القوى الإقليمية وما يسمى أذرع إيران و”محور المقاومة” وكلمات رنانة رُددت في الأعوام الماضية. فالحرب في نهاية المطاف أظهرت الانقسام اللبناني (وبدرجة أقل العربي) حول قضايا محورية مثل الدولة الوطنية، والتعدد ضمن الوحدة في كيان سياسي مستقل، وموقع القضية الفلسطينية من السياسات العربية. وهذه مسائل ما زالت تكتنفها الكثير من الحُجب التي غالبا ما تستخدم للتهرب من الحقائق.

بالعودة إلى لبنان، لحسن الحظ لم يقع السيناريو الأسوأ الذي تنبأ به كهنة الشؤم منذ بداية الأزمة الوطنية في منتصف العقد الأول من الألفية مع اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. أي إن المناطق ذات الانتماءات الطائفية المختلفة لم تمنع دخول نازحي الجنوب والضاحية والبقاع إليها عند اندلاع الحرب، كما هدد البعض، انتقاما من سياسات “حزب الله” وحلفائه التي لم تترك للصلح مجالا بين أعوام 2006 و2024 استنادا إلى ما يعرف بـ”فائض القوة”. الاصطدام الأهلي لم يقع فور بدء موجات النزوح كما هدد البعض.

بيد أن ذلك لا يعني أن مستقبلا مستقرا ينتظر العلاقات الداخلية (الطائفية) اللبنانية. فالقراءات متعددة والاستنتاجات متناقضة بتعدد وتناقض القوى المتصارعة التي رأت أن الحرب هدفت إلى إزاحتها عن امتيازاتها التي استحقتها بالدم والصمود على غرار “الثنائي الشيعي” (“أمل” و”حزب الله”) وجمهورهما الكبير والوازن على الساحة الديموغرافية والسياسية، وبين من يعتقد أن الحرب قد وضعت “الثنائي” في حالة من الضعف ومن الانقضاض الإسرائيلي والغربي على “حزب الله” وأدواره كافة بما فيه تلك الاجتماعية والصحية (التهديدات التي وجهت إلى مستشفى “الساحل” على سبيل المثال والهجمات على المراكز الصحية في الجنوب والبقاع والمسعفين الذين سقط منهم نحو 200 ضحية، على سبيل المثال)، للقول إن الصورة السياسية للبنان ما بعد الحرب، لن تكون مطابقة لما قبلها. وأن الصمت الدولي شبه الكامل أمام ما تعرض له لبنان مقارنة بالاحتجاجات الرسمية والمليونية في العالم للتضامن مع غزة، يعلن أن المزاج العام لا يميل تماما إلى مصلحة “الحزب” وهذه مسألة تحتمل النقاش والرفض.

 

في انتظار ما ستسفر عنه محاولات الحصول على الأموال اللازمة لإعادة الإعمار والشروط السياسية التي سترافق الخروج من الهاوية، فإن المناخ يبدو ملائما لانتزاع حصص أكبر من السلطة وغنائمها

 

 

مهما يكن من أمر، لا تزال صورة الواقع الاجتماعي شديدة السيولة. فأكثر من مليون ونصف المليون لبناني تركوا منازلهم إلى جهات داخل الوطن وخارجه وينبئ حجم الدمار الهائل بأن كثرا من النازحين سيجد أكوام حجارة بدلا من البيوت عند العودة إلى الديار. وفي بلد تشعر فيه الجماعات السياسية/ الطائفية بالتهديد الدائم من المنافسين الحقيقيين والمتخيلين، لا مفر من انتظار صعود التوتر والخوف وخطاب الكراهية المتبادل بين الفئات، وهو ما يمكن رصده دون عناء على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام.
في ظل السيولة الاجتماعية والسياسية، وانتظار ما ستسفر عنه محاولات الحصول على الأموال اللازمة لإعادة الإعمار والشروط السياسية التي سترافق العملية المضنية للخروج من الهاوية التي يتخبط لبنان فيها، فإن المناخ يبدو ملائما– في نظر الجماعات الطائفية– لانتزاع حصص أكبر من السلطة وغنائمها.
وعلى الرغم من أن المطالبة بتغيير سياسي في الوقت الذي لم تجف فيه بعد دماء الضحايا تبدو منطوية على استقواء بحكومة نتنياهو لتحقيق ما لا يستطيع أصحاب الأصوات تلك إنجازه بأذرعهم الواهنة، وعودة إلى استدعاء القوى الخارجية لقتال الخصوم المحليين وهي تجارب لا تني تفشل وتنعكس كوارث ومآسي منذ منتصف القرن التاسع عشر. إلا أن الوضع يغري الجميع بمحاولة الاستفادة من التغييرات الجارية في لبنان والمنطقة والرهان على أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تسمح بعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وأن الغرب المنحاز إلى إسرائيل سيستأنف تدخله المعتاد في لبنان لمصلحة أطراف بعينها. وهذه صولة جديدة في عالم الأوهام.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M