رحاب الزيادي
تعد لبنان ساحة للصراع والتنافس بين القوى والهويات المختلفة، ولكونها دولة طائفية تتبنى نظاماً سياسياً يقوم على التمثيل الطائفي، وتتوزع المناصب العليا في الدولة بين طوائف ثلاث بحيث يكون رئيس الجمهورية مارونياً ورئيس الوزراء سنياً ورئيس مجلس النواب شيعياً وفقا للميثاق الوطنى1943، ولسنوات عديدة سيطر المكون الشيعي ممثلاً فى حزب الله على الدولة فى لبنان، مما جعل القرار نابع من القوى الخارجية الداعمة له وعلى رأسها إيران وليس من الدولة الوطنية. وساهمت طبيعة الدولة اللبنانية في تعزيز الهوية الطائفية دون الاتفاق على هوية وطنية مشتركة، وإعلاء للمصالح الخاصة على حساب الدولة الوطنية، ومن ثم أصبحت الدولة بيئة للتفاعلات المختلفة الداخلية والإقليمية والدولية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات المختلفة بها، حيث تشهد منذ عام ونصف أزمات اقتصادية حادة بدءاً بالأزمة المالية، ثم جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، بالإضافة إلى أزمات على المستوى السياسي سواء داخليا أو فى علاقاتها الخارجية، ضمن هذا الإطار تناقش هذه الورقة وضع الدولة اللبنانية بين التفاعلات الداخلية والإقليمية والدولية في ضوء الأزمات العديدة التي تمر بها.
التفاعلات الداخلية
تشهد لبنان على المستوى الاقتصادي أزمات في مختلف القطاعات، فقد أدى النقص الحاد في الوقود إلى انقطاع التيار الكهربائي في الدولة، ونقص حاد في الأدوية وتوفير الخدمات الصحية، واستنزاف الاحتياطي النقدي، فضلاً عن ارتفاع تكلفة دعم استيراد الغذاء والقود والدواء بتلك العملات، وانخفاض الناتج المحلى إلى 20.5 مليار دولار في عام2021، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلى بنسبة 37.1%، وتجاوز التضخم نسبة 100%، وفقدان الليرة اللبنانية قيمتها، فضلاً عن اتساع دائرة الفقر، فمن المرجح أن يقع أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر بحوالي 85%، في ظل ارتفاع معدلات البطالة. وأدى انقطاع التيار الكهربائي اليومي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي صنفها البنك الدولي، كواحدة من أخطر ثلاث أزمات منذ عام 1850، ويبلغ الدين الإجمالي 183% من إجمالي الناتج المحلي في 2021، ليُسجِّل لبنان رابع أعلى نسبة مديونية في العالم بعد اليابان والسودان واليونان.
ثم تفاقم الأمر مع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، وما ترتب عليه من سوء حالة البنية التحتية، وعدم الكفاءة في إدارة النفايات الصلبة ومياه الصرف، وقدرت قيمة الأضرار الناتجة عنه ما بين 3.8-4.6 مليار دولار، وما بين 2.9-3.5 مليار دولار خسائر في التدفقات المالية، حيث امتد تأثيره إلى قطاعات حيوية مثل الإسكان والسياحة والتجارة والتمويل، وتحتاج الدولة ما بين 1.8 -2.2 مليار دولار لإعادة الإعمار من آثاره، وذلك بحسب تقديرات البنك الدولي.
أضف إلى ذلك؛ تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على الدولة اللبنانية، حيث تستورد لبنان أكثر من 80% من الحبوب من أوكرانيا، مما يجعله عرضة لصدمات الأسعار، فضلاً عن أن الدولة فقدت حوالي أربعة أخماس طاقتها التخزينية في انفجار ميناء بيروت عام 2020، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة الناتجة عن الحرب، حيث يستورد لبنان النفط والغاز بتكلفة 300 مليون دولار، وستؤدى زيادة أسعار النفط بنسبة 10 % إلى زيادة فاتورة الاستيراد بمقدار 30 مليون دولار، وهو ما يعادل تأثير زيادة أسعار الحبوب بنسبة 150 %، وما يترتب على ذلك من ارتفاع سعر الخبز. ارتباطاً بما سبق يتوقف حل هذه الأزمات على قدرة السلطات في الدولة، على إجراء إصلاحات مالية واجتماعية، ودون ذلك يستمر الوضع في التدهور أكثر فأكثر، خاصة بعد إعلان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في 3 أبريل 2022 بأن “الدولة مفلسة وكذلك مصرف لبنان، والخسارة وقعت”.
أما على المستوى السياسى؛ تأتى الانتخابات البرلمانية المقررة فى 15 مايو القادم، بعد حراك أكتوبر 2019 والذي طالب بإصلاحات جذرية وتغيير الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، وفى سياق أزمات تمر بها الدولة عجزت الطبقة الحاكمة عن حلها، وكان مقرر عقد هذه الانتخابات في مارس الماضي، وأثيرت حالة من الجدل حول قرار عقدها أو تأجيلها بسبب الخلافات حول قانون الانتخابات، ورفض الرئيس اللبناني ميشال عون التصديق عليه، والطعن فيه أمام المجلس الدستوري. يخوض 1043 مرشحاً الانتخابات على 128 مقعداً، مقسمة وفقاً للنظام الانتخابي إلى 34 مقعداً للموارنة، و27 مقعداً للسنة، و27 مقعداً للشيعة، و14 مقعداً للروم الأرثوذكس، و8 مقاعد للروم الكاثوليك، و8 مقاعد للدروز، و5 مقاعد للأرمن الأرثوذكس، ومقعدين للعلويين، ومقعد لكل من الإنجيليين والأرمن الكاثوليك وبقية الأقليات.
ونظرا لهذا التعدد الطائفي، فإن هناك تنافس كبير بين القوى الداخلية في لبنان وعلى رأسها حزب الله معلناً أن هدفه ليس تحقيق انتصار في الانتخابات، بل تأمين فوز كل حلفائه في مختلف الدوائر، لكن تظل هناك عقبة أمام تأمين فوز التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، والموضوع على لوائح العقوبات الأمريكية، في ظل تنافس مع حزب القوات اللبنانية بالإضافة إلى التيارات والأحزاب المسيحية الأخرى مثل حزب الكتائب وتيار المردة. من ناحية أخرى تواجه السنة حالة من الفراغ القيادي، في ضوء إعلان كل من رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي ورؤساء الوزراء السابقين سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام عدم خوضهم الانتخابات، فضلاً عن إعلان الحريري مقاطعة تيار المستقبل الذي يُعد القوة السنية الأبرز على الساحة السياسية اللبنانية للانتخابات، واشتراط التيار على أعضائه عدم الترشح للانتخابات أو الاستقالة، وعليه يضيف هذا المشهد الانتخابي مزيداً من التعقيد للأزمة في لبنان، وللوضع السياسي الذي يؤثر بدوره على الوضع الاقتصادي، حيث تسعى القوى الأخرى استقطاب أصوات السنة لصالح مرشحين موالين لهم.
كما أن الدروز خاصة الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط، كان يعتمد على تحالفه مع تيار المستقبل، للحصول على أصوات تؤهله للفوز بمقاعد نيابية، ومن ثم يمثل التشتت الحالي للسنة والدروز فرصة سانحة لحزب الله وحلفائه يترتب عليها، مزيد من النفوذ له داخل لبنان، إضافة إلى أن الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج تتيح فرصة للحزب، ولإيران في التمدد أكثر، لذلك يبدو أن الرياض أدركت أن انسحابها من المشهد السياسي اللبناني يمكن أن يخدم إيران، ومن ثم تعزيز معسكر حزب الله في الانتخابات التشريعية المقبلة، لذلك طالب العديد من المسؤولين في لبنان وعلى رأسهم وليد جنبلاط ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع بإعادة انخراط السعودية في لبنان.
وبالرغم من الاحتمالية الكبرى لتأجيل الانتخابات في ظل وضع سياسي واقتصادي مضطرب، إلا أنها تحظى باهتمام كبير من قبل القوى المختلفة، والتي قد تقود إلى تغيير في معادلة التوازنات داخل لبنان، وبالتبعية التأثير على ملفات أخرى لاسيما التي تتعلق بالنفوذ الإيراني في المنطقة، في ظل تغييرات مستجدة في العراق بعد الانتخابات الأخيرة التي ساهمت في تراجع وزن القوى الموالية لإيران بعد حصول تحالف الفتح على 14 مقعداً، لذلك تترقب الدول الخليجية ما يمكن أن تقود إليه هذه الانتخابات من تغيير، قد يسهم في تحييد لبنان عن معادلة النفوذ الإيراني وتهديد المصالح الخليجية، كما أنها بمثابة الأمل الأخير لإجراء إصلاحات حقيقة سياسية واقتصادية وخروج لبنان من أزماته. ومن المؤكد أن وضع لبنان في حال إجراء الانتخابات التشريعية القادمة، مرتبط بالتوافق بين القوى الداخلية وكذلك الخارجية، وبإجراء تسوية محلية وإقليمية ترضى الأطراف جميعها.
التفاعلات الإقليمية والدولية
نشبت بين لبنان ودول الخليج أزمة دبلوماسية منذ أكتوبر 2021 على خلفية تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي حول عبثية الحرب اليمنية التي تقودها السعودية، سبقها أيضا أزمة أعلنت خلالها السعودية حظر دخول الفواكه والخضروات من لبنان أو نقلها عبر أراضيها، بعد أن صادرت أكثر من 7.8 مليون من أقراص الكبتاغون داخل فاكهة الرمان، في ظل عدم قدرة السلطات اللبنانية على وقف تهريب المخدرات إلى السعودية، محملة حزب الله مسؤولية التهريب، بالإضافة إلى أزمة تصريحات وزير الخارجية شربل وهبة في حكومة حسان دياب حول تمويل التنظيمات الإرهابية والتي عدتها السعودية إساءة إليها، ومن ثم استقال على إثرها وهبة، وعليه تفاقمت الأزمات مع دول الخليج مما جعلها تتخذ رد فعل حاسم إزاء لبنان من حيث سحب سفيرها من بيروت، ومغادرة السفير اللبناني للسعودية، ووقف تعاملات الشركات السعودية مع الشركات اللبنانية.
لم يقتصر الأمر على سحب السفراء، بل أوقفت السعودية جميع الواردات اللبنانية، والتي تقدر بنحو 250 مليون دولار سنويًا، ورفضت الأخيرة تقديم الدعم إلى لبنان لمواجهة أزمتها الاقتصادية، حيث تعد دول الخليج من أوائل المانحين للمساعدات للبنان، ويعمل حوالى 400 ألف لبناني في دول الخليج، بما يقدر بنحو 60% من إجمالي تحويلات لبنان. وتبنت الإمارات والبحرين والكويت ذات النهج من حيث استدعاء سفرائها ومغادرة الدبلوماسيين اللبنانيين لهذه الدول، كما طلبت الإمارات من رعاياها بعدم السفر إلى لبنان. وسبق أن قامت السعودية في عام 2016 بخفض المساعدات إلى لبنان، وعملت على تقليص السياحة السعودية إلى لبنان، بالإضافة إلى تصنيفها لحزب الله كمنظمة إرهابية. تحاول الدول الخليجية الضغط على لبنان باعتبار أن ذلك يمثل ضغطا على حزب الله وإيران.
وعليه فإن الأزمة الأخيرة لتصريحات وزير الإعلام اللبناني تجاه السعودية، ليست السبب الرئيسي وراء التوتر في العلاقات الخليجية- اللبنانية، بل الأزمة في جوهرها تندرج في إطار الصراع السعودي- الإيراني، بل النفوذ والسيطرة التي يتمتع بها حزب الله ذراع إيران في لبنان، حيث أصبح حزب الله يلعب دورًا إقليميًا يتجاوز دوره كحزب سياسي وميليشيا لبنانية، ويأتي ضمن شبكة ميليشيات توظفها إيران في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، وفي ظل ضعف تعانى منه الدولة اللبنانية وعدم قدرتها على تحييد نشاط حزب الله في لبنان، والذى مثل مصدر لعدم الاستقرار الإقليمي.
تعد لبنان ذات أهمية استراتيجية لدول الخليج، فهي متقاربة جغرافياً وسياسيا بسوريا، ومن ثم وجود ميليشيا إيرانية تمتد من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان وساحل البحر المتوسط يمثل مصدر قلق للدول الخليجية. حيث الدور الذي تلعبه المليشيات الإيرانية مثل جماعة الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان وسوريا والحشد الشعبي في العراق، ومن ثم تمثل هذه المليشيات عنصر لعدم الاستقرار في المنطقة عامة وللخليج خاصة.
وفى ضوء أزمة تصريحات وزير الإعلام الذى رفض في البداية الاستقالة، لم تطلب الحكومة اللبنانية منه صراحة الاستقالة تجنباً لإثارة غضب كل من حزب الله وحركة أمل والتي تدعما قرداحي، وتدخلت فرنسا كوسيط لحل الأزمة ولتعزيز دورها في ملفات المنطقة، حيث يسعى ماكرون إلى ترسيخ مكانة فرنسا كلاعب دولي مهم، ومحاولة إحداث نجاح أو تقدم في الأزمة بين لبنان ودول الخليج في ظل خوضه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ومن ثم تعزيز دور فرنسا في الشرق الأوسط، في ظل تحول في الأولويات الأمريكية، والدور المتزايد لكل من روسيا والصين في المنطقة، حيث عمقت فرنسا من مستوى علاقتها مع الدول العربية خلال فترة الرئيس ماكرون في ظل تحديات مشتركة من حيث ملفى الهجرة وانتشار الجماعات المتطرفة المسلحة التي تواجه كل من الدول الأوروبية والعربية.
وتمارس فرنسا دورًا أكثر نشاطًا داخل المنطقة، تنوع ما بين تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة، علاوة على الانخراط السياسي والدبلوماسي المؤثر في بعض أزمات المنطقة مثل الأزمة الليبية واللبنانية، بجانب الملف النووي الإيراني، فضلًا عن المشاركة العسكرية في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش داخل سوريا. كما تسعى فرنسا إلى تقديم نفسها كوسيط في ملفات الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون في أغسطس 2021، وكان من أوائل القادة الذين سارعوا بالوقوف إلى جانب لبنان خلال أزمة انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020.نجحت الجهود الفرنسية في تهدئة التوتر، واستقال وزير الإعلام بعد الزيارة التي قام بها الرئيس ماكرون إلى الدول الخليجية في ديسمبر 2021، وصدر إعلان جدة لإنقاذ لبنان، كذلك تدخلت الكويت لحلحلة الأزمة من خلال إطلاقها مبادرة في يناير 2022 تضمنت اثنتي عشرة نقطة من بينها إجراء انتخابات برلمانية في موعدها، ووضع برنامج إصلاحي، والامتثال لقرار الأمم المتحدة 1559 والذى ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات.
ومع قرب موعد الانتخابات البرلمانية في لبنان، بات هناك تغير في الموقف الخليجي، لاسيما بعد التنسيق مع فرنسا، واتضح ذلك خلال الجولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدول الخليجية، وسبقت هذه، الجولة بحسب دوائر لبنانية لقاء جمع قرداحي برئيس الوزراء نجيب ميقاتي، اتُخذ على إثره قرار الاستقالة بعد تشاور قرداحي مع حلفائه، وهو لقاء لم يتأت إلا بعد اتصال هاتفي بين ماكرون وميقاتي لمناقشة سبل حل الأزمة. واستقال قرداحي من منصبه قبل يوم واحد فقط من زيارة ماكرون للسعودية.
وتكللت الجهود الفرنسية بالاتصال الهاتفي الثلاثي الذي جمع الرئيس الفرنسي، وولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، برئيس الوزراء اللبناني في 4 ديسمبر، واتُفق خلاله على إنشاء آلية مساعدات إنسانية فرنسية سعودية للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني. وألقى البيان المشترك الصادر عن فرنسا والسعودية المسؤولية على الحكومة اللبنانية من حيث ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة، وألا يكون لبنان منطلقًا لأي أعمال إرهابية ومصدرًا لتجارة المخدرات، بجانب ضرورة القيام بتنفيذ إصلاحات شاملة والالتزام بتنفيذ اتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأهمية تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على الأمن والاستقرار، مع التشديد على أهمية الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته وفقًا لقرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 والقرارات الدولية ذات الصلة.
نجحت الجهود الفرنسية في تهدئة التوتر، الأمر الذي ترتب عليه لاحقاً قرار عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى لبنان في أبريل 2022 وإحداث انفراجه في الأزمة، وتمثلت مؤشراتها في الترحيب من قبل الخارجية السعودية ببيان رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي في محاولة لاستعادة لبنان إلى محيطها العربي وموازنة النفوذ الإيراني، وتأكيده على ألا تكون لبنان مصدر ازعاج لأي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي. وجدد خلاله ميقاتي تقدير لبنان للجهود السعودية والفرنسية مؤكدًا التزام حكومته باتخاذ كل ما من شأنه تعزيز العلاقات مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، ورفض كل ما من شأنه الإساءة إلى أمنها واستقرارها.
وعليه فإن تحول الموقف الخليجي يأتي في سياق عدد من التفاعلات الإقليمية والدولية الجارية، مع وجود رغبة كبيرة لدى الأطراف الغربية في سرعة التوصل لاتفاق مع إيران بما يمكنّهم من تجاوز معضلة تراجع الإمدادات الروسية من النفط والغاز الطبيعي، وما يترتب عليه من استعادة إيران لمشروعيتها وصفتها كفاعل إقليمي، فضلًا عن عودتها إلى النظام المالي العالمي بعد رفع العقوبات التي كانت مفروضة عليها، وهو ما سيمكنها في النهاية من توسيع وتمديد حضورها المتجذر في ملفات المنطقة سواء العراق، سوريا، اليمن، لبنان، لذلك يبدو أن هناك رغبة في وجود دور عربي موازن للدور الإيراني، لاسيما في ظل تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة.
وعليه قد يفسر محاولة التقارب الأخيرة مع سوريا، في ظل الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى الإمارات في 18 مارس 2022 وهى الزيارة الأولى له إلى دولة عربية منذ بدء الصراع السوري في مارس 2011، وربما يتم التعويل الفترة القادمة على إعادة تطبيع العلاقات معه من جانب بقية الدول العربية وقد بدأت مؤشرات ذلك مع الأردن والإمارات، ومن ثم التمهيد لعودة سوريا إلى شغل مقعدها مجددًا داخل جامعة الدول العربية، وهو ما سيعني عودة الاعتراف العربي بالإجماع بالنظام السوري الذي يرأسه الرئيس بشار الأسد، ومن ثم تكريس الدور العربي في الملف السوري، وإدراك الدول العربية لضرورة التواصل السياسي والانفتاح والحوار على مستوى الإقليم، وإدراك الدول الخليجية خاصة بأنهم بحاجه إلى دعم سوري لتحقيق التوازن بين الإيرانيين في كل من لبنان والعراق.
في السياق ذاته؛ تقوم الدولة المصرية بجهود كبيرة لاستقرا لبنان وعودتها إلى محيطها العربي، ومساندتها لحل أزماتها الداخلية، ويتضح ذلك في الاتفاق الذى تم التوصل إليه في 8 سبتمبر 2021 بين وزراء الطاقة في مصر ولبنان والأردن وسوريا خلال اجتماع في عمان لتوفير الغاز الطبيعي والكهرباء إلى لبنان عبر الأردن وسوريا بدعم من الولايات المتحدة والبنك الدولي للمساعدة في تخفيف أزمة الطاقة في لبنان، حيث تقوم مصر بتصدير 65 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي إلى لبنان، وسيتم ضخ الغاز المصري إلى لبنان عبر خط الغاز العربي من شمال سيناء عبر الأردن ، إلى الحدود الأردنية السورية ، ثم إلى مدينة حمص، ليصل أخيرًا إلى منطقة دير عمار في لبنان، ويبلغ طول الخط 1200 كم، ويقوم البنك الدولي بتمويل صفقة الغاز بما يقدر 350 مليون دولار. وقد أعلن وزير البترول المصري طارق الملا في نوفمبر 2021 عن استعداد الحكومة ضخ الغاز الطبيعي إلى لبنان في الربع الأول من عام 2022، لتلبية احتياجاته من الطاقة، كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال زيارة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى مصر في 9 ديسمبر 2021 على الاهتمام بتلبية كل مطالب لبنان من جانب كل الوزرات المعنية، يضاف إلى ذلك الدعم المصري للقطاع الصحي في لبنان من خلال المساعدات الطبية لمواجهة جائحة كورونا، وخلال أزمة انفجار مرفأ بيروت بحوالي 1.5 مليون طن من الإمدادات الطبية.
ومن المحتمل أن يمتد مشروع المشرق الجديد بين مصر والأردن والعراق إلى سوريا ولبنان ليصبح تكتلاً خماسياً، نظرا للأزمة اللبنانية المتعلقة بانهيار توليد الكهرباء وعدم توافر المحروقات اللازمة لتشغيل المحطات، لذلك طرح المشروع الرباعي بين مصر والأردن وسوريا ولبنان بشأن توفير الغاز المصري للبنان من خلال خط أنابيب يمر في سوريا، وتحقيق الربط الكهربائي من الأردن مع لبنان عبر الأراضي السورية أيضاً، ومن ثم فهو مشروع طموح يتعلق بمساعدة لبنان للخروج من أزماته الهيكلية وغلق أبواب التعاون المحتمل بين إيران ولبنان في مجال استيراد النفط والمازوت التي قادها حزب الله اللبناني، إلا أنه قد يواجه بعض العقبات من حيث توفير التمويل، والموقف الأمريكي المتمثل في قانون قيصر الذى يفرض توقيع عقوبات أمريكية على الدول التي تتعاون مع سوريا، ومن الناحية الفنية قد يواجه المشروع إشكالية عدم أهلية خطوط الربط في سوريا وتكاليف الصيانة الكبيرة لخطوط نقل الغاز الممتدة في الأراضي السورية، لكن من المحتمل أن تعمل مصر والأردن على تذليل تلك العقبات، ويجرى حالياً لقاءات بين المسؤولين وآخرها زيارة وزير الطاقة اللبناني وليد فياض إلى مصر في 14 أبريل 2022 لبحث تصدير الغاز إلى لبنان.
ختاما؛ ساهمت الطائفية السياسية بشكل كبير في أزمات الدولة اللبنانية، وهو ما جعلها بيئة خصبة للتفاعلات والتجاذبات المختلفة، في غياب للدور الوطني، وارتباطاً بالسياقات والتطورات الإقليمية والدولية الجارية، سوف يكون من المهم إحداث توازن في علاقات لبنان الخارجية، ومن الضروري استمرار التنسيق العربي لمساندتها للخروج من أزماتها الحادة.
.
رابط المصدر: