لبنان تحت النيران: التداعيات الاقتصادية للحرب على لبنان

تعتبر الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي تصاعدت وتيرتها في الربع الثالث من عام 2024، نقطة تحول خطيرة في تاريخ لبنان المعاصر، لبنان التي تعاني منذ سنوات من أزمة اقتصادية خانقة، فقد أدى النزاع إلى تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي كان اللبنانيون يعانون منها بالفعل، تعمق تلك الحرب من الخسائر الاقتصادية وتفاقم الأوضاع السيئة بالفعل، حيث شهد الاقتصاد اللبناني سنوات من تدهور الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدلات البطالة، وتدمير البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق والمستشفيات والمدارس، وزيادة معاناة السكان.

تتركز الأنشطة الرئيسية في الناتج المحلي الإجمالي اللبناني حول قطاعات الخدمات والتي يعد أبرزها قطاع السياحة، والبنوك، والعقارات، حيث يسهم قطاع الخدمات بحوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي، تليه قطاعات الزراعة والصناعة، إلا أن هذه القطاعات واجهت تحديات كبيرة نتيجة للانكماش الاقتصادي والفساد المستشري؛ مما أدى إلى تراجع الاستثمارات والنمو الاقتصادي، وبالنظر إلى مصادر النقد الأجنبي للبنان، فتأتي التحويلات المالية من المغتربين كأحد أهم تلك المصادر، وتشكل نسبة كبيرة من الدخل القومي في لبنان، كما يسهم قطاع السياحة في توفير جزء كبير من النقد الأجنبي.

يُعاني الاقتصاد اللبناني من أزمات متعددة أثرت بشكل كبير في أدائه خلال السنوات العشر الماضية، تلك الأزمات أدت إلى تدهور كبير في الناتج المحلي الإجمالي، قبل الأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 2019، كانت لبنان في وضع أفضل إذ كان الناتج المحلي الإجمالي للبنان حوالي 52 مليار دولار، لكن بحلول عام 2021، انخفض إلى نحو 23.1 مليار دولار، مما يعكس انكماشًا حادًا بنسبة تتجاوز 50% خلال عامين فقط، توجد أسباب عديدة وراء ذلك الانخفاض إلا أن هناك عددًا من الأسباب الرئيسية أهمها الأزمة المالية والمصرفية التي حدثت في أواخر عام 2019، إذ انهار النظام المصرفي اللبناني نتيجة تراكم الدين العام وعدم القدرة على دفع التزامات الدولة.

دفع ذلك البنوك اللبنانية لفرض قيود شديدة على سحب الأموال والتحويلات بالعملات الأجنبية؛ مما أدى إلى تجميد ودائع العملاء وأثّر في الاقتصاد بشكل عام بتدمير الثقة في القطاع المصرفي وهو ما دفع المركزي اللبناني لاتخاذ قرار رفع سعر الفائدة؛ مما تسبب في تدهور الأوضاع المالية في لبنان[1]، تسبب تدهور الأوضاع المصرفية والقيود على سحب العملة في لبنان في انخفاض التحويلات المالية من المغتربين والتي يعتمد عليها الاقتصاد اللبناني بشكل كبير، أما السبب الآخر فهو انفجار مرفأ بيروت والذي حدث في أغسطس 2020 حيث دمر ذلك الانفجار البنية التحتية الحيوية في العاصمة وأدى إلى خسائر مالية واقتصادية ضخمة حيث قدر البنك الدولي الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الانفجار بحوالي 8 مليارات دولار؛ مما أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية وزيادة الانكماش[2]، ثم جاءت جائحة كوفيد-19 لتأتي على ما تبقى من اقتصاد لبنان الهش لتوقف قطاعات حيوية مثل السياحة والخدمات؛ مما أدى إلى انخفاض الإيرادات الاقتصادية بشكل كبير.

أثرت تلك الأوضاع الاقتصادية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في لبنان، الذين يتجاوز عددهم حوالي 6 ملايين نسمة مع وجود كثافة سكانية مرتفعة في المناطق الحضرية مثل بيروت وطرابلس، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من السكان يعيشون تحت خط الفقر في ظل الأزمات الراهنة، حيث تؤثر الأزمة الاقتصادية في الحياة اليومية للبنانيين، حيث شهدت البلاد زيادة في معدلات البطالة، التي تقدر بحوالي 29.6% في عام 2022؛ مما زاد الضغط على الاقتصاد والمجتمع في ظل هذه الظروف.

أما عن الجنوب اللبناني الذي يقع تحت وطأة النيران الإسرائيلية، فهو يمتد من نهر الليطاني وصولًا إلى الحدود مع إسرائيل في الجنوب، ويشمل أراضي زراعية وسكنية، إضافة إلى البنية التحتية الرئيسية، ويعيش بتلك المنطقة قرابة 1.5 مليون نسمة، في عدد من المدن الرئيسية مثل صيدا، صور، النبطية، ومرجعيون، بالإضافة إلى عشرات القرى والبلدات الصغيرة، ويبلغ عدد البلدات في المحافظة الجنوبية حوالي 160 بلدة. تغطي هذه المنطقة مساحة جغرافية تقدر بحوالي 3,900 كيلو مترًا مربعًا، ويعتمد قاطنو تلك المناطق على الزراعة بشكل رئيسي؛ حيث يُعتبر إنتاج الزيتون والحمضيات والكروم من أبرز الحرف المتداولة. كما يتمتع الجنوب بمصادر طبيعية مهمة، مثل الغابات والأراضي الزراعية الخصبة؛ مما يسهم في النشاط الزراعي المحلي، ويمتلك الجنوب اللبناني شبكة طرق تمتد لأكثر من 500 كيلو مترًا؛ مما يسهل التنقل بين البلدات المختلفة. كما تحتوي على عدد من المدارس والمستشفيات والمصالح الحكومية، إذ تشير التقديرات إلى وجود حوالي 150 مدرسة و30 مستشفى، ويشكل الشيعة حوالي 67%، بينما يمثل السنة والمسيحيون 13% و20% على التوالي. تُعتبر مدينة صيدا، عاصمة الجنوب، واحدة من أكبر المدن بعد بيروت وطرابلس.

خلال السنوات الخمس الماضية، واجه الاقتصاد اللبناني تدهورًا حادًا، حيث تأثر بشكل كبير بعدة عوامل داخلية وخارجية. ففي عام 2020، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 21.4٪ نتيجة الأزمات السياسية والمالية، وتدهور الأوضاع الاجتماعية الناجم عن الانفجار الكبير في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، والذي أثر بشكل مباشر في الاقتصاد الوطني. مع تزايد الضغوط، وصل معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغ 150٪ في عام 2021 و241.4٪ في عام 2022؛ مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين وتراجع قيمة العملة اللبنانية بشكل حاد؛ حيث قفز سعر الدولار من 1,507 ليرات في 2019 إلى 100,000 ليرة في 2023؛ مما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي وأدى إلى تفشي الفقر.

على الرغم من هذه التحديات، شهدت بعض المؤشرات تحسنًا طفيفًا في عام 2021، حيث بدأت إيرادات السياحة في التعافي بعد انخفاضها الكبير خلال جائحة كوفيد-19، فإن الإيرادات لم تصل إلى مستويات ما قبل الأزمة. كما شهدت إيرادات تحويلات العاملين بالخارج تراجعًا؛ حيث انخفضت من 7,800 مليون دولار في 2019 إلى 5,000 مليون دولار في 2023؛ مما يعكس ضغوطًا متزايدة على العائلات اللبنانية، ومن ثَمّ فقد عانى الاقتصاد اللبناني من أزمات مالية غير مسبوقة وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.

ووفقًا للبيانات الواردة بتقرير الأمم المتحدة والتي نشرت على المواقع الإخبارية، فقد كان من المتوقع أن يحقق الاقتصاد اللبناني تعافيًا في عام 2024 لينمو بنسبة 1.7% في العام 2024، يتبعها نمو بنسبة 3.8% في عام 2025، لكن تلك التقديرات كانت قبل الحرب التي شنتها إسرائيل على الجنوب اللبناني، إذ دمرت تلك الحرب جزءًا كبيرًا من البنية التحتية وتسببت في انقطاع الخدمات الأساسية، ودمرت الطرق والجسور، وعطلت حركة التجارة والنقل وسببت الشلل بالنشاط الاقتصادي والزراعي، كما أن استهداف المنشآت الصناعية والمرافق الحيوية عمق من الأزمة؛ مما تسبب في زيادة البطالة وأفقد آلاف العائلات مصادر رزقها، بالإضافة إلى ذلك، أضحى الاقتصاد اللبناني يعاني من زيادة في الديون والعجز المالي نتيجة لاحتياجات إعادة الإعمار؛ مما سيؤدي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية القائمة ويؤدي إلى تبعية أكبر للمساعدات الدولية، تشير التقديرات الأولية لتلك الهجمات الإسرائيلية على لبنان إلى خسائر بحوالي 1.5 مليار دولار أمريكي، وربما يدفعنا ذلك إلى كارثة إنسانية جديدة تشابه كارثة غزة الإنسانية، الأمر الذي يتطلب تدخلًا على المستوى الدولي لوقف الحرب والاتجاه للمفاوضات الدبلوماسية.

يعاني اقتصاد لبنان الهش بالفعل حاليًا من قصف إسرائيلي متواصل على الجنوب اللبناني، يتسبب ذلك القصف في دمار البنية التحتية مثل الطرق والجسور والمرافق العامة، وتدمير الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها جزء كبير من سكان الجنوب لكسب لقمة عيشة، وعرقلة طرق التجارة الداخلية والخارجية، وتسببت حالات النزوح الداخلي الجماعي في الضغط على الموارد المحلية نتيجة زيادة عدد السكان في المناطق الآمنة؛ مما سيسهم في استنزاف الموارد المحلية مثل المياه والغذاء والخدمات الصحية، ناهيك عن ارتفاع الأسعار الذي سيسببه ذلك الضغط والعبء الإضافي المطلوب لتوفير المساعدات الإنسانية، من جانب آخر فإنه مع زيادة عدد النازحين، تواجه الحكومة تحديات كبيرة في توفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية؛ مما يؤثر في جودة التعليم والرعاية الصحية المتاحة، هذا فضلًا عن الآثار النفسية والاجتماعية العميقة على السكان؛ مما يؤدي إلى زيادة معدلات القلق والاكتئاب بين النازحين والمقيمين على حد سواء، وهذا يمكن أن يؤثر في الإنتاجية الاقتصادية في المستقبل.

أما عن تكاليف إعادة الإعمار فوفقًا لعدد من التقديرات فإن تكلفة إعادة إعمار الجنوب اللبناني ستكلف حوالى 15 مليار دولار أمريكي، تتمثل تلك التكاليف في إعادة بناء الطرق والجسور والمرافق العامة والتي تتطلب استثمارات كبيرة ووقت طويل قد يمتد لعدة سنوات؛ مما سيؤثر في النمو الاقتصادي على المدى الطويل، وفي السياق نفسه فإن تكلفة تعويض السكان المتضررين نتيجة الحرب سواء من خلال تقديم الدعم المالي أو مساعدات الإسكان سيعد جزءًا أساسيًا من تكلفة إعادة الإعمار، وستحتاج الحكومة اللبنانية إلى دعم دولي لإعادة الإعمار، مما يتطلب تحسين العلاقات الدبلوماسية والالتزام بإصلاحات اقتصادية هيكلية لتحقيق ذلك، وهو ما سيكون له تأثير كبير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين بلبنان.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M