يشهد لبنان منذ ثلاث سنوات أزمة اقتصادية شديدة انعكست على الأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية في البلاد، حيث يستمر انهيار الليرة اللبنانية والتي تخطت منذ أيام حاجز الـ 18.000 ل.ل. مقابل الدولار الأمريكي، وهو هبوط قياسي لم تشهده الليرة حتى خلال الخمسة عشر سنة من الحرب الأهلية.
يرجع البعض هذه الأزمة لفساد الطبقة السياسية الحاكمة منذ ثلاثين سنة، والتي راكمت الديون على خزينة الدولة اللبنانية دون أي مشاريع إنمائية تذكر، فقطاعات الكهرباء والمواصلات والمحروقات والصحة والتعليم والغذاء جميعها في تراجع مستمر وتدهور، ما يضع الطبقة الحاكمة بمختلف أحزابها في قفص الاتهام بالفساد والاختلاس، لكن دون محاسبة تذكر. إلا أن قليلًا من المتابعة والتدقيق يظهر أن هذه الطبقة على الرغم من فسادها المعلوم بالضرورة داخليًا وعلى مرأى من أعين المجتمع الدولي، إلا أنها كانت تحظى بغطاء إقليمي ودولي طوال سنوات، وذلك قبل أن يهيمن حزب الله وحلفاؤه على كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها، ما دفع الدول المانحة التي كانت تغطي عجز ميزانية لبنان لرفع الغطاء وإيقاف الدعم والمنح التي كانت الدولة اللبنانية تسد بها عجزها، كل ذلك في إطار التجاذبات الإقليمية والدولية بين محوري الشرق والغرب، والتي وضعت لبنان دائمًا في عين العاصفة.
في المحصلة فإن هذا الانهيار الاقتصادي أنتج أزمة سياسية متفاقمة وأزمات اجتماعية معيشية تكاد تتخذ منحاً أمنياً. فعلى المستوى السياسي تحمل الأحزاب المعارضة لحزب الله الحزبَ وحلفاءه مسؤولية رفع الغطاء والدعم الغربي وما نتج عنه من انهيار، وذلك نتيجة سياسات حزب الله الداخلية وتدخله في شؤون الدول العربية المجاورة كسوريا والعراق واليمن ودعمه لنظام بشار الأسد عبر تسهيل عمليات التهريب إلى سوريا، فضلًا عن ملفات الفساد الكبرى التي يُتهم بها الحزب وحليفه الأبرز التيار الوطني الحر بزعامة الوزير السابق جبران باسيل -صهر الرئيس ميشال عون-. وفي المقابل يضع حزب الله الأزمة الاقتصادية في إطار السياسة الأمريكية لمحاصرته وتجفيف منابعه، ويرجع الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة إلى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف (1990) والتي كان رائدها آنذاك رفيق الحريري والخط السياسي الذي يمثله.
على الصعيد الاجتماعي يعاني اللبنانيون من ارتفاع نسبة البطالة والتي بلغت ذروتها، وانخفاض الحد الأدنى للأجور الذي كان يوازي 450 دولار أمريكي قبل الأزمة إلى 42 دولار اليوم بالتوازي مع ارتفاع كبير للأسعار وفقدان الكثير من السلع والمواد الغذائية والأدوية تارة بسبب الاحتكار وتارة أخرى بسبب تراجع حركة الاستيراد من الخارج، ما ينذر بانفجار اجتماعي كبير، ولعل ما شهدته طرابلس منذ أيام من فوضى شعبية يؤكد ذلك.
هذه الأجواء المحمومة تشكل بيئة خصبة للاستثمار السياسي، فالعديد من الدول والأطراف الدولية ترى الوضع الراهن في لبنان فرصة لتوسيع نفوذها، وأبرز تلك الدول كانت روسيا التي تستغل الانكفاء الأمريكي في المنطقة لبسط نفوذها وهيمنتها لتحقيق عدة أهداف كالسيطرة على الثروات النفطية وموارد الطاقة في المنطقة كما في سوريا وليبيا، وإنشاء قواعد عسكرية متقدمة على البحر المتوسط تحمي مصالحها في الشرق الأوسط وترجح كفتها على حساب المحور الغربي. ولم يعد خافيًا القرار الروسي بدخول لبنان عبر طرح مشاريع اقتصادية إنمائية تتقدم بها شركات روسية، منها توسعة مرفأ طرابلس وإعادة إعمار مرفأ بيروت وإنشاء محطتين لتوليد الكهرباء ومصفاتي نفط في كل من طرابلس شمالًا والزهراني جنوبًا، وفي هذا الإطار زارت ثلاث وفود روسية لبنان وأعربت عن استعداد شركات روسية للمباشرة بهذه المشاريع، كما أكد أمين عام حزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير استعداد شركات شرقية (أي روسية بطبيعة الحال) لبناء مصفاتي نفط في مدة أقصاها ستة أشهر، ما يعني أن هذه المشاريع باتت جاهزة وتحظى بتأييد الحزب وحلفائه، بانتظار قرار التنفيذ. ولعل هذا الطرح الروسي يهدف في حقيقته لاستكمال الخط الساحلي الذي بدأ من اللاذقية شمال سوريا مرورًا بطرطوس التي تبعد عن طرابلس شمال لبنان 60 كلم فقط. في المقابل يبقى الدور التركي في لبنان خجولًا مقتصرًا على بعض المساعدات الاجتماعية التي لا تتجاوز حدود بعض البلدات، حيث تحاول تركيا تقليص مشاكلها مع دول المنطقة والتي قد يفاقمها تعاظم الدور التركي في لبنان.
في ظل هذه الأزمة ومعاناة اللبنانيين المتفاقمة من الغلاء وانقطاع الكهرباء واحتكار المواد الغذائية والدواء، تبرز ظاهرة الهجرة التي يعنونها البعض بـ “التغيير الديمغرافي الصامت” ، حيث يشهد لبنان موجة كبيرة من الهجرة والتي يشكل السنة الشريحة الأوسع منها، فالمؤسسات الصحية والتعليمية والتجارية في المناطق السنية هي الأكثر تضررًا، ما يدفع الجزء الأكبر من الميسورين والتجار وأصحاب رؤوس الأموال والأكاديميين من أطباء وممرضين وأساتذة ومعلمين للسفر خارج لبنان قاصدين دول الخليج أو تركيا، وذلك لغياب أي نظام تكافل اجتماعي في مناطق السنة التي باتت الحياة فيها صعبة للغاية في ظل تشتت القوى السنية عمومًا والإسلامية منها خصوصًا وتنازعها فيما بينها فضلًا عن غياب مؤسسات الدولة. بينما تتماسك البيئة المسيحية -على اختلاف أحزابها وتوجهاتها- وترفع شعار تثبيت المسيحيين في المشرق وتحظى بالدعم المادي الكبير من الخارج وتوفر لأبنائها كافة الخدمات لتعوض جزءًا كبيرًا من غياب الدولة اللبنانية. أما اللبنانيون الشيعة فتبدو أحوالهم هي الأفضل في ظل دعم حزب الله لبيئته وحاضنته ماديًا وخدماتيًا عبر نظام البطاقات التموينية وتأمين الكهرباء والغذاء والدواء في مناطق نفوذه. كما شهدت الساحة الدرزية منذ أيام اجتماعًا ثلاثيًا ضم الأقطاب الدرزية الأبرز جنبلاط، أرسلان ووهاب، الذين أكدوا على وحدة الدروز أمام التحديات وتكافلهم فيما بينهم ومنع الفلتان الأمني وتعويض عجز الدولة الخدماتي في مناطقهم.
أمام هذه المعطيات يبدو أنه لا توجد حلول في المدى المنظور، وتتجه الأزمة نحو مزيد من التعقيد السياسي في ظل التعطيل الحكومي الحالي والذي ينعكس بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي والأحوال المعيشية في البلاد، الأمر الذي يعزز غياب الدولة ويرجح كفة الكنتونات الطائفية التي تعيش حالة من الحكم الذاتي في معظم المناطق إلا السنية منها التي تعاني مزيدًا من الفوضى والعجز الاقتصادي والفلتان الأمني الكبير.
.
رابط المصدر: