محمد العريان
ينكب المتخصصون في السياسات النقدية على بحث سبل تحسين فعالية البنوك المركزية، لاسيما في حال سقوط الاقتصادات في ركود، وهو خطر ما فتئ يتزايد جراء التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا. الدافع الأساسي وراء ذلك هو الاعتراف المتزايد بأن الاعتماد الطويل والمفرط على البنوك المركزية يحد من قوة التدابير التقليدية وغير التقليدية. والأمل معلق على إيجاد أدوات جديدة لوقف هذه الظاهرة المقلقة والمتسارعة.
ورغم أهمية هذا العمل، فإني قلق من أن تُفشله التصورات الخاطئة، عندما تواجه البنوك المركزية ضغوطاً متزايدة من الداخل والخارج. ولفهم أسباب ذلك، دعونا ننظر إلى الأمر من منظور نظرية اللعبة.
العناصر الرئيسية لأي لعبة (أي التفاعلات الاستراتيجية بين مشاركَين اثنين أو أكثر) تشمل خصائص اللاعبين، والاستراتيجيات، والأرباح، وتوافر المعلومات، ووضع الثقة، والتعاون، والعقلانية. واللاعبون الجيدون يختارون أحسن استراتيجياتهم، وهم يدركون ما يحتمل أن يفعله الآخرون تحت مجموعة معينة من الظروف. وتختلف النتائج من ألعاب مدمِّرة غير تعاونية إلى ألعاب «باريتو» المثلى، حيث يكون لاعب أفضل حالاً من دون أن يكون أي لاعب آخر أسوأ حالاً.
وعلى مدى سنوات، كانت لدى البنوك المركزية استراتيجيات مهيمِنة، إذ كانت تستخدم معدلات الفائدة و«التوجيهات» للضغط على الآخرين من أجل الرد بطرق ساعدت على تحقيق الأهداف المالية والاقتصادية للبنوك. فأثّرت في سلوك سلسلة واسعة من اللاعبين الاقتصاديين، وأحياناً ذهبت لحد فرض النتائج بشكل مباشر. وقد رأينا هذا في تخفيف وتلطيف الحالات المتطرفة لدورات الأعمال، وبشكل أوضح، في التغلب على أزمة 2008 المالية التي كانت على وشك إدخال الاقتصاد العالمي في كساد ضار لعدة سنوات.
بيد أنه خلال السنوات الأخيرة، لم تكن استراتيجيات بعض البنوك المركزية المهمة، مثل بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفدرالي الأميركي، بالفعالية المنشودة، وأخفقت على نحو متكرر في تحقيق أهدافها المعلَنة. ويعزى هذا بشكل كبير إلى ما يمكن اعتبارها تغيرات في ظروف اللعبة.
ذلك أنه لم يعد لدى البنوك المركزية امتياز المعلومات. وإضافة إلى نماذج تحليلية باتت تُنتقد ويُطعن فيها اليوم، تُرجم هذا الأمر إلى أخطاء متكررة في توقعات النمو وأخطاء في تقدير المخاطر بالنسبة للاستقرار المالي، بسبب جيوب المخاطرة المفرطة بين المؤسسات التي تقدّم بعض الخدمات البنكية وما هي ببنوك، وخاصة في ما يتعلق بمخاطر السيولة. وفضلاً عن ذلك، فإن ظروف اللعبة المتكررة التي كانت تدعم في الماضي فعالية البنوك المركزية، باتت اليوم تهدد بكشف مزيد من العيوب المتعلقة بالأهداف. وبالتالي، فلا غرو في أن تأخذ استراتيجيات البنوك المركزية في التحول من «المهيمِنة» إلى «المهيمَن عليها»، وخاصة في ما يتعلق بالأسواق التي باتت تشعر بقدرتها على الضغط والتأثير في سياسة البنوك.
ومن جهة أخرى، فإن تكييف السياسات الذي يوجد قيد الدراسة من أجل دعم توقعات التضخم، يتراوح الآن بين توسيع استخدام السياسات غير التقليدية ورفع الأهداف.
وتشمل أشكال التكييف غير التقليدي جعل السياسة النقدية تابعة للتحفيز المالي وتوجيهَ البنوك المركزية باتباع «أموال الهيلكوبتر»، التي توفّر مبالغ مالية مباشرة توزع على شرائح كبيرة من السكان. لكن حتى وإنْ بدا أن ذلك قابل للتطبيق، فإنه ينطوي على مخاطر عالية بخصوص الأضرار الجانبية والنتائج غير المقصودة.
هذا البحث الصعب عن حل سحري يمكن أن يكون مؤشراً على مشكلة أهم: فبالنظر إلى طبيعة فكرة البنوك المركزية ودورها في الاقتصاد الحديث، فإنها غير مجهّزة لتغيير ما يؤدي إلى انخفاض الطلب والإنتاجية بشكل مستمر. والاستمرار في تجاهل هذه الحقيقة المزعجة لا يؤدي إلا إلى إضعاف نزاهتها ومصداقيتها. والواقع أن الحل موجود، ولكنه في أيدي هيئات أخرى لصنع السياسات يتعين عليها أن تعالج بشكل مباشر مشكلات مثل تدريب العمالة وإعادة تزويدها بالأدوات اللازمة، والتفاوت الاجتماعي والحوافز المالية.
وختاماً، فإن البحث عن أدوات جديدة للبنوك المركزية سيظل تمريناً مهماً من الناحية الفكرية، لكنه تمرين غير ذي جدوى في نهاية المطاف إذا لم يتغير السياق. وعلى كل حال، علينا ألا ننسى عبارة بريان كريسشن وتوم غريفيث البسيطة والقوية في آن: «حسنا، إذا كانت قواعد اللعبة تفرض استراتيجية سيئة، فربما ينبغي ألا نحاول تغيير الاستراتيجيات. بل ربما ينبغي أن نحاول تغيير اللعبة».
رابط المصدر: