لعبة غير صِفرية: التوجّه الخليجي والعربي نحو آسيا في نظام عالمي متغيّر

  • مثَّلت الوساطة الصينية بين السعودية وإيران، والتوسّع في منظمة شنغهاي وتكتّل بريكس، مؤشرات لافتة إلى الديناميات الجديدة بشأن التنوّع والتشابك في المشهد الدولي، والتغير السريع في التوازنات العالمية الناشئة، وقُصور مبدأ “مع أو ضد” عن تفسير تلك الديناميات والتشابكات. 
  • ثمة أهمية استراتيجية متزايدة لآسيا في حسابات دول مجلس التعاون الخليجي، تكشف عنها أرقام التصدير والاستيراد وجميع أشكال التفاعل المتنامية بين الجانبين منذ سنوات؛ الأمر الذي يصطحب معه مزيداً من المشاركة والتعاون والتفاهم وعقد الشراكات والاتفاقيات البينية.
  • مقولة “التوجّه نحو آسيا” أو “التوجّه شرقاً” ليست مترادفة لتشكيل الخليجيين والعرب محوراً مع الصين ضد الغرب؛ ذلك أن التوجّه الخليجي والعربي نحو كوريا الجنوبية والهند واليابان وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها من القوى في آسيا ينفي مثل هذا الترادف.

 

مثَّل منتدى التعاون الصيني-العربي في نسخته العاشرة، التي انعقدت في العاصمة الصينية بيجين أواخر مايو الماضي، فرصة لتشكيل مزيد من المواقف والسياسات المشتركة بين الجانبين حول القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط، خصوصاً أزمة غزة والقضية الفلسطينية. وعلى مستوى الصورة والسردية، فإن هذا يضع الصين في موقع مختلف عن موقف الولايات المتحدة، التي نُظِر إليها بوصفها منحازة إلى الطرف الإسرائيلي، وأنها لم تتحرك بجدية وإرادة كافيتين لمنع إسرائيل من ارتكاب هذا العنف الكارثي وسفك الدماء الذي مارسته بحق قطاع غزة وسكانه، بطريقة لا إنسانية غير مسبوقة.

 

لكن، على الرغم من رد الفعل السلبي ضد الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل، فقد أظهر الصراع في غزة أن واشنطن لا تزال القوة الأجنبية البارزة في الشرق الأوسط، وبعد عام من التوسط في اتفاق تاريخي بين إيران و السعودية، كانت بيجين خارج المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة، وبقيت على الهامش حيث يتعرض طريق تجاري مهم عبر البحر الأحمر للنيران، وفق تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” حمل عنوان “الصين تريد دوراً أكبر في الشرق الأوسط، ولكن ليس كبيراً جدًا”.

 

الصين ليست بديلاً عن الغرب

وحتى الآن، لم تضع الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط، وفي واجهتها الحرب في غزة، الصين في موقع بديل للغرب والولايات المتحدة، ولا يبدو أن بيجين في وارد تقديم نفسها على هذا الأساس. لكن توسيع الشراكات الاستراتيجية مع دول المنطقة، وآخرها مع تونس، وبالتالي تزايد وتشابك المصالح الصينية في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، يُملي على الصين ضرورة بذل مزيد من الجهود لضمان الهدوء والاستقرار في المنطقة، بوصفه مصلحة عليا صينية، وليس مجرد تفصيلٍ أو تسجيل موقف في بورصة التنافس بين القوى الكبرى. لقد كانت الوساطة الصينية بين السعودية وإيران، والتوسّع في منظمة شنغهاي وتكتّل بريكس مؤشرات إلى الديناميات الجديدة، بشأن التنوّع والتشابك في المشهد الدولي، والتغير السريع في التوازنات الناشئة، وقُصور مبدأ “مع أو ضد” عن تفسير تلك الديناميات والتشابكات، في ظل تنوّع وثراء طبيعة تفاعل اللاعبين الإقليميين والدوليين معها. في هذا الإطار يمكن، استطراداً، قراءة عقد الصين، في 27 مايو، محادثات تجارية نادرة (تعد الأولى من نوعها منذ ديسمبر 2019)، مع قادة اليابان وكوريا الجنوبية، حلفاء الولايات المتحدة الآسيويين، في خطوة تستهدف منها بكين تعزيز “عالم متعدد الأقطاب دون تمييز اقتصادي“، وحمل الزعيم الصيني شي جينبينغ رسالة مماثلة في خلال رحلته الأخيرة إلى أوروبا.

 

من زاوية أخرى، لقائلٍ أنْ يقول إن عدم الانخراط الصيني الجاد والعملي والفعّال، في الحقيقة، في قضايا الشرق الأوسط، قد يشير، للمفارقة، إلى اهتمام صيني أقل بالقضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وحلّ الأزمات المستعصية، على رغم الخطابات الكثيرة حول ذلك، ومع أن مبادرة الحزام والطريق، التي انطلقت في 2013، كانت تدشيناً لحقبة صينية مقبلة مفترضة في الشرق الأوسط والعالم، يكون فيها الجيو-إيكونوميك مقدّمة لتنفيذ أجندة جيوبوليتيكية صينية طموحة وأوسع.

 

تشابُك المصالح الصينية في الشرق الأوسط يُملي على بيجين ضرورة بذل جهود أكبر لضمان الاستقرار الإقليمي (AFP)

 

والواقع أن الصين ليست جاهزة بعد لأن تكون بديلاً عن الولايات المتحدة، كما لم تصبح “علامة Brand” شاملة  في نهج الوساطة لدى اللاعبين الإقليميين وأصحاب المصلحة المحليين في أزمات من قبيل تلك التي في ليبيا أو السودان أو اليمن والبحر الأحمر أو الصومال وغيرها، على رغم النجاح الصيني بين الرياض وطهران في مارس 2023، وخطة السلام المكونة من 10 نقاط التي قدمتها في فبراير 2023 لإنهاء الحرب في أوكرانيا في إطار جهود الوساطة الدولية، وإعلان موسكو في أواخر مايو 2024 استعدادها للمشاركة في مؤتمر سلام تُنظِّمه الصين بحضور أوكرانيا.

 

وهذا التقييم الجزئي لا يعني بالضرورة انتقاداً للصين، أو تقليلاً من أهمية دورها الصاعِد في النظام العالمي الجديد، بقدر ما يكشف عن أهمية العمل الجماعي الدولي على خفض التصعيد وتأمين الاستقرار ورعاية المصالح المشتركة، والابتعاد عن الحلول العسكرية، وحماية المدنيين وصون حقوقهم؛ وهي أمورٌ جرى التأكيد عليها، أخيراً، في اللقاء الذي جمع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ونظيره الصيني شي جينبينغ، في بيجين يوم الثلاثين من مايو 2024، واستعرضا فيه تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدين ضرورة العمل من أجل الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة وضمان الحماية للمدنيين فيه، وتوفير المساعدات الإنسانية الكافية والآمنة والمستدامة لهم، إضافة إلى منع توسّع الصراع في المنطقة بما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين، وإيجاد أفق للسلام الدائم والشامل القائم على “حل الدولتين” وقرارات الشرعية الدولية، باعتباره السبيل لتحقيق مصلحة الجميع. وقد أبدت الصين دعمها الدعوة لعقد مؤتمر سلام دولي لإنهاء الحرب في غزة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل.

 

التوجُّه القديم/الجديد نحو آسيا

إن النقاش بخصوص تقييم مكانة الصين وطبيعة دورها على الصعيد الدولي لا يمنع من الإقرار بأنه في ظل نظام عالمي متغيّر، تزداد المدخلات غير الغربية فيه، ستندفع دول كثيرة، ومنها دول الشرق الأوسط، وخاصة دول الخليج العربية، إلى التكيّف والاستجابة مع الديناميات الجديدة في النظامين الدولي والإقليمي، والبحث عن المصالح الوطنية وتنميتها وحمايتها من التهديدات. لقد كانت زيارتا رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، الأخيرتين إلى كوريا الجنوبية ثم الصين جزءاً من هذا السياق والتحوّل، الذي تبلور منذ سنوات.

 

والواضح أن ثمة أهمية استراتيجية متزايدة لآسيا في حسابات دول مجلس التعاون الخليجي، تكشف عنها أرقام التصدير والاستيراد وجميع أشكال التفاعل المتنامية بين الجانبين منذ سنوات؛ الأمر الذي يصطحب معه مزيداً من المشاركة والتعاون والتفاهم وعقد الشراكات والاتفاقيات بينهما، في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمارات المتنوعة. وقبل أيام، سافر وفد صيني إلى دولة الكويت، واجتمع مع مسؤولين كويتيين لإجراء “مناقشات فنية وميدانية معمقة” حول بناء ميناء مبارك الكبير وغيره من المشاريع. وفي سياق العلاقات الإماراتية – الصينية، أشار الشيخ محمد بن زايد في محادثاته الأخيرة مع الرئيس الصيني في بيجين إلى أن العلاقات التنموية بين الدولتين حققت نقلات نوعية كبيرة في خلال السنوات الماضية، خاصة في مجالات الاقتصاد والطاقة والصناعة والاستثمار والثقافة وغيرها، مُشيراً إلى أن الصين الشريك التجاري الأول عالمياً للإمارات، وأن هناك عملاً مشتركاً لمضاعفة حجم التجارة بينهما في خلال السنوات المقبلة، كما أن الدولة شريك استراتيجي في مبادرة “الحزام والطريق” منذ إعلانها، مُضيفاً سموّه أن الإمارات تعدّ بوابة تجارية مهمة إلى منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، لذلك فإنها توفر العديد من الفرص للشركات الصينية للعمل واستكشاف أسواق جديدة والانطلاق منها لتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع مناطق أخرى من العالم.

ثمة أهمية استراتيجية متزايدة لآسيا في حسابات دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها دولة الإمارات (AFP)

 

من جانب آخر، وفي خلال المحادثات التي تلت لقاء الشيخ محمد بن زايد مع نظيره الكوري الجنوبي، يون سوك يول، في سيئول، والتي حضرها كبار الشركات الحكومية، أكدت الإمارات خطتها لاستثمار 30 مليار دولار في كوريا الجنوبية، والتي أُعلِنَ عنها في خلال زيارة يون للإمارات، في يناير 2023. ووقّع الجانبان 19 صفقة تجارية ومذكرة تفاهم تشمل الاستثمار، والطاقة، والطاقة النووية، والدفاع، والتكنولوجيا، وتغير المناخ، والتبادلات الثقافية، كما أوردت وكالة “يونهاب” الكورية الجنوبية. وكشف صندوق الثروة السيادية الإماراتي، شركة مبادلة للاستثمار، عن خطط لاستثمار أكثر من 6 مليارات دولار في كوريا الجنوبية، ووقّع مذكرة تفاهم مع وزارة الاقتصاد والمالية بشأن توسيع إطار التعاون الاستثماري. كما وقّعت شركة بترول أبوظبي الوطنية التي تديرها الدولة خطاب نوايا مع شركتي بناء السفن الكوريتين، سامسونج للصناعات الثقيلة وهانوا أوشن، لبناء ما لا يقل عن ست ناقلات للغاز الطبيعي المسال بقيمة 1.5 مليار دولار. واتفق البلدان أيضاً على تعزيز المشروع المشترك لتخزين النفط الخام والتعاون في مشاريع الهيدروجين لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة.

 

وفي الثاني من يونيو الجاري، ترأس وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، الاجتماع الأول للجنة التوجيهية لمجموعة “بريكس”، الذي عُقِد عبر تقنية الاتصال المرئي عن بُعد بحضور عدد كبير من الوزراء والمسؤولين الإماراتيين، لبحث سبل تعزيز مشاركة دولة الإمارات في هذا المجموعة، التي تحظى الصين وروسيا بثقل واسع فيها. لكن بريكس، إلى جانب ذلك، تشمل طيفاً متنوعاً من البلدان مثل الهند والبرازيل، ما يجعل دعوة هذه الدول لنظام دولي أكثر تمثيلاً وعدالة وتعددية، ليس بالضرورة دعوة لمواجهة الغرب، خصوصاً في ظل حقيقة أن العولمة -على رغم ما تتعرض له من ضغوطات بسبب السياسات الحمائية- تجعل ترابط الاقتصادات والتجارة أمراً لا مفر منه.

 

وعلى أقل تقدير، فإن أهداف الصين وروسيا في بريكس ليست متطابقة، بالضرورة، مع أهداف الهند والبرازيل ومصر والإمارات. وبعد توسيع العضوية في مجموعة بريكس بداية 2024، لدينا الآن 7 دول من المجموعة هم أعضاء أيضاً في مجموعة العشرين.

 

ومقولة “التوجّه نحو آسيا” أو “التوجّه شرقاً” لا تبدو وفق المعطيات آنفة الذكر (على الرغم من تأكيد أهمية الصداقة المتنامية بين العرب والصين) مترادفة لتشكيل الخليجيين والعرب محوراً مع الصين ضد الغرب؛ ذلك أن التوجّه الخليجي والعربي نحو كوريا الجنوبية والهند واليابان وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها من القوى في آسيا ينفي مثل هذا الترادف، الذي ينفي معه، أيضاً، مصطلحات المحاور والاستقطابات واختيار طرف ضد آخر. زد على ذلك، أن “التوجّه شرقاً” مقاربة تتبناها إيران أيضاً، وليست أمراً مقتصراً على الخليجيين والعرب وشركاء واشنطن في الشرق الأوسط. وبذلك لا يبدو التوجّه شرقاً، هنا، لعبة صِفرية.. مثلما لا تصحّ هنا، كذلك، مقولة الشاعر الإنكليزي كيبلينغ القديمة “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً”.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/altwjjuh-alkhaliji-walarabi-nahw-asia-fi-nizam-alami-mtghyyr

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M