د. محمد مسلم الحسيني
منذ أن ضربت جائحة كورونا الجديد ” كوفيد 19″ المعمورة توجهت أنظار العالم الى دواء شافٍ يعالج المرض أو لقاح فعال وأمين يحميهم من هذا الفايروس ومن تبعاته على الصحة والاقتصاد والمجتمع والنفس.
تسابقت الجهود في هذا المسار وأهتمت مختبرات البحوث العالمية بإيجاد دواء أو لقاح لهذا الوباء، غير أنه ومنذ البداية إدعت بعض الدول جزافا على لسان سياسييها بإكتشاف أدوية تعالج هذا الوباء أو لقاحات تفي بالغرض أثبتت الأيام عدم صحتها، مما جعل بعض الناس تشكك في كل تصريح من هذا النوع حتى لو جاء صادقا!.
حينما أعلنت وبصدق مؤخرا بعض شركات الأدوية عن وصولها للمراحل النهائية لإنتاج اللقاح شكك كثير من الناس بسلامة هذه اللقاحات المعلن عنها وأعلنوا عن ترددهم أو رفضهم في التطعيم ضد الفايروس! حيث وصل عدد المعارضين لأخذ اللقاح في أمريكا الى حوالي نصف العدد المستجوب في إستقراءات حصلت بهذا الشأن هناك. هذا يعني وجود عدم ثقة كبيرة في المجتمع الأمريكي وربما في باقي بلدان العالم في أخذ اللقاح!
مجمل من الأسباب، مضافة الى حالة عدم الثقة التي نشأت بنفوس بعض الناس بسبب الأخبار غير الصحيحة كما ذكرنا، جعلت الناس تشك في سلامة اللقاحات المعلنة، وأسباب هذه الشكوك تتضمن عدد من الأمور أهمها: سرعة إنتاج هذا اللقاح وإختصار الزمن، الضغوط السياسية الواضحة التي دعت الى التعجيل في إنتاج اللقاح لأغراض إنتخابية وسياسيّة، طبيعة الفايروس الجديد وغرابة تركيبته الجينية، الدعايات الكثيرة الموجهة لنصح الناس بعدم أخذ اللقاح من قبل جهات وأطراف معلومة ومبهمة مما يحفز التخوفات عند البسطاء من الناس، حيث انتشرت الدعايات المغرضة عبر وسائل التواصل الإجتماعي بين الناس، التخوف من الأعراض الجانبية والمضاعفات للقاح جديد موجه ضد فايروس جديد غريب الأطوار والطبيعة والتركيب. إضافة للأسباب التقليدية التي ترفض اللقاحات سواء أكانت دينية المنشأ وعقائدية أو نفسية.
من المعلوم أن اللقاحات الجديدة يستغرق إنتاجها في السابق الى سنوات عديدة، حيث أنه لحد هذه الساعة لم يجدوا لقاحا لمتلازمة نقص المناعة المكتسب الـ “أيدز” رغم الشروع في دراسة إنتاج لقاح له قد بدأ منذ سنين عديدة، فكيف ينتج لقاح لوباء جديد في فترة تقل عن السنة!؟.
الإجابة على التساؤلات بهذا الشأن يكمن بالنقاط التالية: أن طبيعة متلازمة “الأيدز” تختلف تماما عما هو عليه الحال في وباء كوفيد19، حيث أن وباء كوفيد19 يحدث إلتهاب حاد تختصر فترته ببضعة أيام، بينما متلازمة “الأيدز” يعتبر التهاب مزمن طويل المدى، فاللقاحات تختلف بإختلاف طبيعة المرض.
أما مقارنة باللقاحات الأخرى المشابهة لـ “كوفيد19” والتي تأخرت فترة إنتاج اللقاحات فيها سابقا فنفسر الفرق بالوقت بما يلي: التقنية والتطور التي حصلت في السنوات الأخيرة عجلت من سرعة إنجاب اللقاحات، حيث أن التحضيرات الإدارية والترتيبات في التجارب قبل السريرية أصبحت أسرع بكثير عما كان عليه الحال من قبل.
كانت اللقاحات المنتجة عرضة للتلوث بفايروسات أخرى أو بكتريا مما يجعل تنظيفها مهمة صعبة ومضيعة للوقت، بينما توفرت اليوم الوسائل التقنية الضرورية للحد من هذه التلوثات مما سرع في عملية إنتاج اللقاح. فوق هذا وذاك، اختصر الصينيون الوقت منذ بداية الوباء فحددوا الصيغة الجينية لفايروس كوفيد19 بسرعة قياسية وهذا ما سهل كثيرا في سرعة إنتاج اللقاح وبدأ المراحل التجريبية.
في الأوقات الماضية كان النقاش مع المنتجين للقاحات مضنية وطويلة كما أن الحصول على المتطوعين لإجراء التجارب كان مهمة صعبة، في حين تذللت هذا اليوم المصاعب أمام إنتاج لقاح كوفيد19، وذلك بسبب الإرادة المشتركة بين جميع الأطراف بالإسراع بإنتاج هذا اللقاح حيث توفر المال وتوافد المتطوعون، مما جعل الشركات تنتج اللقاح وتحضره حتى قبل إكتمال التجارب!.
كثير من الدعايات المضللة إنتشرت ضد اللقاح حتى قبل إنتاجه، فمنهم من تحدث عن وجود جسيمات الألمنيوم مع عناصر اللقاح والتي إدعوا بأنها تترسب في دماغ الإنسان وتسبب تلفا له، في حين أغلب اللقاحات تحوي على هذه المادة فهي ليست خصوصية مقتصرة على لقاح “كوفيد19 “، حيث أن الالمنيوم يعتبر مادة شادة توثق إرتباط المضادات الجسمية مع الفايروسات الدخيلة من أجل تحييدها وإفشال مهمتها في إصابة خلايا الجسم.
كما أدعى طرف آخر بأن التطعيم بمادة مرسال الحمض النووي الرايبوزيمي “mRNA” خطير على خلايا الجسم لأن هذا الحمض النووي سيدخل الى خلايا الجسم والى نواتها ويسبب إرباك في الحمض النووي الطبيعي الموجود فيها أصلا أي الـ “DNA”، ولكن في الحقيقة مرسال الـ “mRNA” الموجود في اللقاح لا يدخل في نواة الخلايا في الجسم ولا يسبب خللا فيها.
ومن الإعتراضات التي شاعت أيضا، هو أن “كوفيد19 ” في تحور مستمر واللقاحات المنتجة سوف لن تكون صالحة لأنها لا تواكب التحورات الحاصلة في جسد الفايروسات المتحورة الجديدة. بينما الحقيقة أن هذه التحورات هامشية لم تغيّر كثيرا في طبيعة تركيبة الفايروس مما يبقي هذه اللقاحات مناسبة لحد الآن.
تخوّف الكثيرون أيضا من الأعراض الجانبية الحاصلة نتيجة التطعيم، خصوصا أن لقاحات “كوفيد19” تستخدم لأول مرة. هذه الهواجس مبررة في بعض الأحيان، فلابد من دراسات مستفيضة بهذا الشأن، تبيّن أولا الأعراض الجانبية التي تحصل بعد التطعيم على المستوى المنظور وعلى المستوى البعيد، خصوصا تلك الأعراض التي تخفي علامات أمراض خطيرة تشير الى حصول تلف في أنسجة الجسم وأعضائه.
هذه الدراسات بينت ومن خلال متابعة المتطوعين الذين تم تطعيمهم، بأن عدد لا بأس به من بين هؤلاء بدت عليهم أعراض تتباين بشدتها وطبيعتها من شخص لآخر من جهة، وتتباين أيضا حسب نوعية اللقاح المستخدم وعدد الجرعات المأخوذة منه من جهة أخرى. بعد التطعيم مباشرة حصلت عند بعض المتطوعين تورمات في منطقة الزرق واحمرار ووجع في الذراع، أعقبها عند البعض الآخر حمى خفيفة وصداع بسيط ووجع في العضلات والرأس.
حينما تم أخذ الجرعة الثانية من اللقاح بعد مرور ثلاثة أو أربعة أسابيع بعد أخذهم الجرعة الأولى من اللقاح، ظهرت عند البعض أعراض تشابه الأعراض المرضية المعروفة التي تحصل عند الإصابة بـ “كوفيد19” وإن كانت هذه الأعراض أقل شدة ولفترة زمنية قصيرة “يوم أو يومين”. تتضمن هذه الأعراض: ألم في الذراع مع تورم وتحسس وإحمرار في منطقة زرق اللقاح ” وهذا حصل لدى 78 في المئة من المتطوعين”، وقد صاحبها عند البعض أعراض أخرى مثل: حمى خفيفة أو شديدة، حرارة اليدين والقدمين، رجفة، وجع في الرأس خفيف أو شديد، نحول عام، وجع في العضلات، ضيق في النفس، سعال جاف، إسهال وتقيؤ “وهذه حصلت فرادا او جمعا لدى 40 في المئة من المتطوعين”. رغم أن هذه الأعراض الجانبية تدل على نجاح اللقاح عند الشخص المطعم غير أنها أكبر بشدتها من تلك التأثيرات الجانبية التي قد تحصل عند التطعيم بـ “لقاح الأنفلونزا الموسمية العادية”.
“90” في المئة من الأعراض الجانبية والمضاعفات التي تحصل في الجسم بعد التطعيم تظهر خلال فترة الأربعين يوما الأولى بعد التطعيم. لم تظهر عند المطعمين بهذه اللقاحات أعراض أخرى غير التي ذكرت سابقا، ولا وجود لأي مضاعفات على الصحة بانت أو ظهرت حتى بعد مرور أكثر من ثمانين يوما بعد التطعيم.
أما المضاعفات الأخرى الخطيرة التي يمكن حصولها على المدى البعيد بعد التطعيم فتحتاج الى زمن أطول من أجل مراقبة حدوثها إن وجدت. هذه المضاعفات حتى وإن حصلت فهي نادرة جدا لا تتجاوز عادة مرة في كل 250 الف تطعيم بالنسبة للقاحات المستخدمة سابقا.
من أهم ما يحصل من مضاعفات خطيرة ونادرة على الصحة بعد التطعيم هو: ظاهرة التقليد الجزيئي “Molecular Mimicry ” حيث أن هناك جزيئات صغيرة في اللقاح تتشابه في تركيبتها مع أنسجة موجودة في الدماغ أو الحبل الشوكي أو أنسجة الجسم الأخرى وخصوصا الأعضاء الحيوية مثل الكبد والكلى والرئة والقلب. هذا التشابه يوهم الأجسام المضادة التي يكونها الجسم ضد الفايروس، حيث تتعامل هذه الأجسام مع خلايا وأنسجة الجسم الطبيعية وكأنها فايروسات فتلتصق بها وتدمرها ويحصل التلف في تلك الأنسجة. فإن حصل هذا الخلل ضد أنسجة الحبل الشوكي “على سبيل المثال وليس الحصر” يحصل التهاب الحبل الشوكي ووجع شديد في العضلات يؤدي الى ضعفها وربما الى الشلل. رغم أن مثل هذه المضاعفات نادرة الحصول غير أنها واردة الإحتمال ولكن نحتاج الى فترة زمنية أطول لمتابعة حدوثها.
الأسئلة التي تطرح نفسها هي: أي نوع من اللقاحات نختار؟
الجواب هو أن نختار اللقاح الفعال والأمين ومن تلتف حوله ثقة العالم، إضافة لتوفره وسهولة خزنه ونقله وبقائه حيويا لفترة أطول في أماكن الحفظ المتيسرة وبأسعار مناسبة. هل يبرر وجود أعراض جانبية بسبب اللقاح أو وجود مخاطر نادرة الحصول، عدم أخذ اللقاح في الوقت الحاضر والإنتظار؟. الإجابة قطعا ” كلا”. لأن المعادلة واضحة وهي أن مخاطر الوباء الأكيدة أكبر بكثير من مضاعفات اللقاح البسيطة أو من مخاطره نادرة الحدوث حتى إن وجدت!.
* أخصائي علم الأمراض-بروكسل
رابط المصدر: