عبد الباري عطوان
تجنّبنا كثيرًا الكتابة عن مِصر في الفتَرات الأخيرة، ليس لأنّه لا يُوجد ما يُمكن الكتابة عنه، فمِصر دولة رائدة ولّادة، ولا تتوقّف حِراكاتها في مُختلف المجالات، ولكنّ المُشكلة تكمُن في التِقاء السلطة والمُعارضة على أرضيّةٍ واحدةٍ “فمَن ليس معنا فهو ضدّنا”، فإذا انتقدت النظام وأخطاءه وإخفاقاته، فأنت “إخوانيٌّ”، وإذا تفهّمت بعض توجّهاته وسياساته في ضرورة إعطاء الأولويّة للتنمية الاقتصاديّة لإخراج البلاد من أزماتها وتجنيبها ما حدث في ليبيا وسورية من فوضى دمويّة، فأنت مع الثورة المُضادّة، ومع الديكتاتوريّة في خندق العَداء للربيع العربي بشقّيه القديم والجديد، وهذا لا يعني مُطلقًا المُساواة بين نظام يملك الكثير من أدوات القمع ولا يسمح بأيّ مُعارضة أو سقف من الحُريّات، عاليًا أو مُنخفضًا، وبين مُعارضة إسلاميّة خسِرت الحُكم، وتشتّت شملها، وتقبَع قِياداتها في السّجون والمُعتقلات ينتظر بعضهم تنفيذ حُكم الإعدام، والمَحظوظ من نجا بجِلده ويعيش في المنافي.
مِصر الآن تعيش مخاضًا جديدًا مُختلفًا، يتمثّل في تحرّك، أو “تململ” الشّارع مُجدّدًا، وإقدام مُتظاهرين على كسر حاجز الخوف والرّعب، بنزولهم إلى شوارع وميادين مُدن رئيسيّة مِثل القاهرة والاسكندريّة وحلوان والسويس الجمعة الماضي، تُعتبر القاعدة الرئيسيّة للمجتمع المدني، وأيًّا كانت نتائج هذا الحِراك، سواء بتغيير النظام أو عدمه، فإنّه سيقود إلى مِصر “مُختلفة” وإصلاحات شاملة، وتصحيح مَسارات عدّة لم تُحقّقها ثورة “يناير” التي جرى خطفها، وحرفها عن تحقيق أهدافها، سواء بانقلابٍ عسكريٍّ مدعومٍ بهبّة شعبيّة، أو لأخطاءٍ ذاتيّةٍ تعود إلى عدم خبرة المُعارضة وشباب الثورة، وليس هُناك مجال الشّرح والإطالة.
***
مِصر كالنّيل، بطيئةُ التحرّك، ولكن إذا تململت، وتحرّكت فإنّ تحرّكها يكون مثل “البلدوزر” يكتسِح كُل شيء أمامه، وهذا ما حدث في الثورات المِصريّة جميعًا، سواء تموز (يوليو) عام 1952، أو ثورة كانون الثاني (يناير) الأخيرة، ولا أحد يستطيع أن يتنبّأ بما يُمكن أن يَحدُث لثورة “محمد علي” الحاليّة، وهو ما سنتناوله لاحقًا.
هُناك حزبان كانا وما زالا يتنافسان على السلطة في الأعوام الأخيرة، وقبل اشتعال فتيل ثورة يناير، الأوّل حزب المؤسسة العسكريّة التاريخيّ القويّ، وحزب المؤسسة الدينيّة الإسلاميّة المُمثّلة بالإخوان المسلمين، الصّراع حُسِم لمصلحة الحزب الأوّل، لأنّه الأقوى، والوحيد المُتماسك الذي يملك أسباب القوّة وصفة التنظيم الحديدي، ولكنّ التّراجعات الأخيرة في انتخابات تونس الرئاسيّة، وغياب الإسلام السياسي عن ثورة الجزائر، أكّدا حُدوث تغييرات في هذا المِضمار تحتاج إلى مُراجعات.
دعونا لا نخدع أنفسنا، ونعترِف بأنّ من يحكُم في مِصر والجزائر وسورية والسودان هو المُؤسّسة العسكريّة، ولهذا كان أوّل قرار اتّخذه بريمر حاكم العِراق العسكريّ بعد الإطاحة بحُكم البعث، كان حل الجيش، ولولا تماسُك الجيش العربي السوري وصُموده، لواجهت سورية مصير العِراق، والفوضى التي يعيشها، وضَعف الحُكومة المركزيّة لمصلحة التّفتيت الطائفيّ والعِرقيّ المُباشر أو غير المُباشر.
دول الخليج وبتحريضٍ من الغرب، أضعفت جُيوشها عمدًا، لأنّها لا تُريد بديلًا يُهدّد الأُسَر الحاكمة، واعتمدت على الحماية الأمريكيّة الغربيّة، وهذا هو سبب فشلها في حرب اليمن، فرُغم مِئات المِليارات التي جرى إنفاقها على التّسليح، عجِزت هذه الجُيوش عن الانتصار على الحركة الحوثيّة الضّعيفة التّسليح خاصّةً في الأيّام الأولى للأزمة، وقبل وصول الدعم العسكري الإيراني، ولكن شهر العسل لمُعظم أنظمة الحُكم فيها يقترب من نهايته بطريقةٍ أو بأخرى، إلا إذا حصلت “مُعجزات”، ولسنَا في زمنها.
المؤسّسة العسكريّة المِصريّة التي تحكُم مِصر من خلال الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن قبله الرؤساء: محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، أرادت تنميةً اقتصاديّةً بدون إصلاحات حقيقيّة، وإدارة حداثيّة، للأزمات المِصريّة، ولهذا ظلّ الوضع المِصري “مُعلعَلًا”، رغم الاستقرار وبعض النجاحات الاقتصاديّة التي لا يُمكن نُكرانها، فالاحتقان الداخلي تضخّم نتيجة تفاقم مُعدّلات الفقر والبِطالة، واتّساع الهوّة بين الأغنياء والمحرومين، واستفحال الفساد، فماذا نتوقّع من بلدٍ يعيش 40 بالمِئة من شعبها تحت خط الفقر غير انتظار “الدبّوس” الذي يُفجّر الاحتقان؟
الرئيس السيسي له فرصة تاريخيّة لإخراج مِصر من أزماتها، فقد حظِي بدعمٍ شعبيٍّ واسِع النّطاق طِوال السنوات الخمس الماضية، ودعم خليجي بلغت قيمته 50 مليارًا، ومُباركة من أمريكا وأوروبا، ولكن نقطة ضعفه في رأينا اتّباعه مشروعًا اقتصاديًّا أمنيًّا محليًّا في ظِل غياب كامل للمشروع السياسي الاستراتيجي بشقّيه الداخلي والخارجي، حوّل مِصر من دولةٍ “متبوعةٍ” إلى دولةٍ “تابعة” لدول الثروة والمال الأقل شعبيّة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ولكن هذا لا ينفي تحقيق نسبي للاستقرار والأمن بالحُدود المُمكنة، وهُما شرطان أساسيّان لأيّ تنمية اقتصاديّة ناجحة، رأينا نموذجها الأبرز في الصين، مع الفارِق طبعًا.
المُشكلة الرئيسيّة التي واجَهها، ويُواجهها الرئيس السيسي أنّه أراد أن يكون عبد الناصر آخر، دون أن يكون هُناك مشروع أيديولوجي “حداثي” يُميّزه في مُحيطه، وإعلان قوي يدعمه، ومُؤسّسة حُكم تضُم العديد من العُقول المُبدعة التي تُقدِّم له الاستشارات في الميادين كافّة، وسَقف حريّات أعلى واحترام لحُقوق الإنسان، خاصّةً أنّه يُواجه مُعارضةً عقائديّةً لها جُذورٌ عميقةٌ في المُجتمعين المِصري والإسلامي وتملك مشروعًا يجِد قُبولًا في الشّارعين المِصريّ والعربيّ.
لسنا من الذين ينظرون دائمًا إلى الجانب الفارغ من الكوب، ولا نُنكِر مُطلقًا أنّ هُناك بعض الإنجازات في المجال الاقتصادي خاصّةً، ولكنّ المُشكلة أنّ ثِمار هذه الإنجازات، في حال وجودها، لم تصِل إلى الفُقراء المسحوقين، وإنّما إلى القطط السّمان، فالطّبقة الوسطى تآكلت، والفُقراء ازدادت فقرًا، ومُعدّلات البِطالة في أوساط الشباب ما زالت مُرتفِعةً.
نُقطةٌ أُخرى لا نستطيع تجاهلها، وهي أنّ من أكبر الأضرار التي جرى إلحاقها بالرئيس السيسي ونظامه، تأتيه من أصدقائه أكثر من أعدائه، فعندما يصِفه الرئيس ترامب بأنّه “ديكتاتوره” المُفضّل، ويتغنّى الإسرائيليّون به كصديقٍ وحليفٍ قويّ ليل نهار، فإنّ هذا يُكرّر القول “الله احميني من أصدقائي أمّا أعدائي فأنا كَفيلٌ بهم”.
“الدبّوس” الذي فجّر الاحتقان الحالي في مِصر لم يكُن إخوانيًّا مُلتحيًا، أو حليقًا مُقنّعًا، وإنّما شابٌّ أسمر “فهلوي” بسيط، طموح، وجريء، اسمه محمد علي، واحد من عامّة الشّعب، لحِق به ظلمٌ “ماليٌّ” كبير يقول إنّه جاء على يد المؤسّسة العسكريّة التي يتّهمها بحجب حُقوقه (15 مليون دولار) لأسبابٍ ما زالت غير واضحة، فقرّر الانتقام على طريقة الإمام آيَة الله الخميني في السّبعينات، ليس بالكاسيت، وإنّما بأشرطة “الفيديو” رغم الفارق الكبير جدًّا بالمُقارنة، فنحنُ نتحدّث عن الوسيلةِ هُنا.
محمد علي ليس محمد عبده الفيلسوف، ولا جمال الدين الأفغاني الإصلاحي، وإن كان لجَأ إلى الغرب مثلهما لإيصال رسالته، إنسان وسيم بسيط، ومُقاول صغير عاش في رحِم النظام، عفويّ يتحدّث بالعاميّة، ولا يستعين بآيّاتٍ قرآنيّةٍ أو أحاديث نبويّة، ولهذا استجاب له قطاعٌ من الشعب المِصري ولبّوا دعوته بالنّزول إلى الشوارع والميادين، وهو ما لم تنجح به حركة “الإخوان المسلمين، وكُل قِوى الإسلام السياسي واليَساري القومي الأُخرى، الأمر الذي يتطلّب التأمّل والدراسة.
لا نُريد استباق الأحداث، والتنبّؤ بأُمورٍ قد لا تحصل، رغم إيماننا المُطلق بأنّ النّموذجين السوداني والجزائري اللذين صحّحا أخطاء “الربيع العربي” الفادِحة، بانضِباط المؤسّسة العسكريّة وانحيازها للمُجتمع المدني وثورته الحقيقيّة السلميّة الليبراليّة، قد يتكرّرا في مِصر ودول عربيّة أخرى، لأنّهما أثبتا أنّ “التّعايش” مُمكنٌ بين الجيش والشعب، وأنّ هذا التّعايش قادرٌ على التّغيير في القاع الشعبي وقمّة الحُكم معًا، ودفن النّماذج الدمويّة والفوضويّة في ليبيا وسورية، وما رافقها من تدخّلاتٍ عسكريّةٍ غربيّةٍ وعربيّةٍ مُدمّرةٍ، ولو مُؤقّتًا.
***
الأنظار تتّجه الآن إلى أسبانيا حيثُ يُقيم محمد علي ويُسجّل أشرطته التحريضيّة، ويجِد الذّخيرة في بعض أخطاء مُؤسّسة الحُكم، والأزمة الاقتصاديّة المُتفاقمة، وحالة الفقر المُقدح في أوساط الغالبيّة من الشعب المِصري، والسؤال هو، هل يستجيب الشارع المصري لدعوته بمُظاهراتٍ مِليونيّةٍ في ميادين مِصر وشوارعها الجُمعة المُقبل؟
يصعُب علينا الإجابة، فمِصر واحدةٌ من أكثر الدول صعوبةً في التنبّؤ بِما يُمكن أن يحدث فيها من مُفاجآت، فمن كان يتوقّع ظُهور هذا الشاب البسيط محمد علي فجأةً، وبهذه السرعة وإحداث هذا التّأثير، واحتلال العناوين الرئيسيّة في صُحف العالم ومحطّاته؟
ربّما يكون هذا الشاب انطَلق وحيدًا متأثّرًا ومُؤثّرًا من حجم مظلوميّته، وكان جريئًا في تعليق الجرس، وتحدّى مؤسّسة عسكريّة مِصريّة راسخة، وأجهزة أمن تستخدم قبضةً حديديّةً جبّارة ضِد خُصومها، ولا نستبعد التفاف بعض الجِهات حوله، خاصّةً من داخِل مِصر، لها أسبابها وخلافاتها مع النّظام، وبعضها يملك أدوات إعلاميّة جبّارة، ولكن الرّد عليه بالطّرق التي رأيناها تخدمه، و”مشروعه” مِثل الاعتراف ببناء القُصور وظُهور محمود السيسي نجل الرئيس على شاشة التّلفزة في هذا التّوقيت بالذّات، مُذكِّرًا، إن لم يقصِد، بجمال مبارك، سيّئ الذّكر.
يوم الجمعة المُقبل سيكون يومًا حاسمًا بالنّسبة إلى مِصر، سواء تجاوب الشارع مع دعوة التّظاهر أو لم يستجِب، مِصر التي نتمنّى لها الأمن والاستقرار، ولشعبها الشريف الوطني المُفعَم بالكرامة والعزّة الوطنيّة الأمن والرّخاء، فمِصر هي الريادة والقِيادة بالنّسبة إلينا، ولا يُمكن أن تقوم قائمة للمِنطقة بُدونها.. ونحنُ في الانتظار، وهذا أسلم المواقف وأحكمها، وربّما يكون لنا عودة.
رابط المصدر: