ما زالت إيران وقوى مجموعة “4+1” في انتظار الموقف الأمريكي من الرد الإيراني على المسودة التي قدمها مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وسط تسريبات واسعة النطاق حول البنود التي تم إجراء نقاشات حولها بين الأطراف المختلفة خلال المرحلة الماضية. لكن اللافت في هذا السياق، هو أنه في خضم الجدل المتصاعد حول احتمالات الوصول إلى اتفاق نووي جديد من عدمه، بدأت إيران في الترويج إلى أنها لم تتبنَّ شرط رفع الحرس الثوري من القائمة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية. إذ قال مستشار وفد التفاوض محمد مرندي، في 20 أغسطس الجاري، إن “إزالة الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية لم يكن شرطًا مسبقًا أو مطلبًا أساسيًا”، مضيفًا أنه “إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية التسويق للاتفاق عبر طرح هذه الادعاءات فهذا أمر متروك لها”.
قرار مبكر
ربما يمكن القول إن إيران اتخذت هذا القرار منذ فترة ليست قليلة، رغم كل الجدل الذي صاحب هذا المطلب على مدى الجولات التي أجريت فيها المفاوضات بين إيران وقوى مجموعة “4+1” بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. فقد سبق أن ألمح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى ذلك، في 27 مارس الماضي، عندما قال إن “قادة الحرس الثوري طلبوا من وزارة الخارجية القيام بما هو ضروري توافقًا مع المصالح الوطنية للبلاد. وفي حالة وصلنا إلى نقطة تتم فيها إثارة مسألة الحرس، فيجب ألّا تكون مسألة الحرس عقبة أمامكم”.
ورغم الانتقادات القوية التي تعرض لها عبد اللهيان بسبب هذا التصريح، على نحو دفعه فيما بعد إلى التأكيد على أن شطب الحرس الثوري من قائمة العقوبات يمثل إحدى القضايا المهمة في المفاوضات؛ إلا أنه عاد من جديد وألمح إلى أن إيران تبدي مرونة أكبر إزاء هذا المطلب تحديدًا، عندما قال في حوار مع صحيفة “لاريبوبليكا” الإيطالية، في 13 يوليو الفائت، إن إيران اقترحت على الأمريكيين تأجيل القضايا المتعلقة بالقائمة السوداء، في إشارة إلى العقوبات المفروضة على “الپاسداران” تحديدًا.
أسباب مختلفة
يمكن تفسير هذا الموقف من جانب إيران في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
تعزيز فرص الوصول إلى اتفاق: أدركت إيران بعد مرور جولات عديدة من المفاوضات دون تحقيق تقدم بارز يعزز من احتمال الوصول إلى اتفاق جديد، أن التمسك بشرط رفع الحرس الثوري من قائمة العقوبات سوف يتسبب في إفشال المفاوضات، ومن ثم إهدار الفرصة الحالية لاستعادة العمل بالاتفاق النووي ورفع العقوبات على الصادرات النفطية تحديدًا، وربما دعم فرص نشوب مواجهة عسكرية في المنطقة، في ظل التقدم الملحوظ الذي حققته في برنامجها النووي، منذ بداية تخفيض مستوى التزاماتها النووية، في 8 مايو 2019، ردًا على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها.
ورغم أن القيادة العليا في طهران، ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، فضلًا عن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، ما زالت تروج إلى أن الوصول إلى اتفاق نووي جديد لا يحظى بأولوية لديها، وأنها لا تعول عليه بشكل كبير؛ إلا أن ذلك لا يبدو أنه يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن إيران تبدو في أمسّ الحاجة لإبرام صفقة جديدة ترفع بمقتضاها العقوبات المفروضة على صادراتها النفطية ويسمح لها بالحصول على جزء من أرصدتها المجمدة في الخارج، خاصة في ظل تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، في ضوء التداعيات التي فرضها انتشار فيروس كورونا، فضلًا عن الحرب الروسية-الأوكرانية.
مساعدة بايدن على تمرير الاتفاق داخليًا: لا يمكن فصل إصرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على رفض شطب الحرس الثوري من قائمة العقوبات عن الضغوط الداخلية القوية التي تتعرض لها من جانب الحزب الجمهوري وبعض أقطاب الحزب الديمقراطي، خاصة مع اقتراب موعد إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر القادم. إذ إن هذه الاتجاهات شنت، وما زالت، حملة قوية ضد المفاوضات، باعتبار أنه لا يمكن الوثوق في مدى التزام إيران ببنود أي اتفاق جديد. وقد استندت هذه الاتجاهات مؤخرًا إلى الاتهامات التي وُجهت لإيران بالضلوع في محاولات اغتيال مسئولين أمريكيين سابقين على غرار مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون، إلى جانب الربط بينها وبين حادث الاعتداء على المفكر البريطاني سلمان رشدي، من أجل تأكيد أن أي صفقة نووية سوف تعني ببساطة منح مزيد من الأموال لنظام يتبنى سياسات عنيفة في التعامل مع خصومه في الداخل والخارج.
وهنا، فإن إيران بتراجعها عن الإصرار على هذا المطلب تحاول منح إدارة بايدن الفرصة لتمرير أي صفقة محتملة في الداخل، خاصة أن هذه الضغوط تتوازى مع حملة أخرى تشنها إسرائيل لعرقلة إبرام صفقة جديدة، حيث أعلنت إسرائيل، التي أرسلت مستشار الأمن القومي ايال هولاتا إلى واشنطن للقاء نظيره الأمريكي جاك سوليفان، في 23 أغسطس الجاري، أنها لن تلتزم بأي اتفاق يمكن إبرامه في المرحلة القادمة.
منح الأولوية لقضية الضمانات: يبدو أن إيران رجحت الحصول على ضمانات تقلص من تداعيات أي انسحاب أمريكي محتمل من الاتفاق النووي، على مطلب شطب الحرس الثوري من قائمة العقوبات. وبمعنى أدق، فإن إيران ربما ارتأت أن التمسك بهذا المطلب لن يفيد كثيرًا، وأن الأفضل هو الحصول على ضمانات أو امتيازات يمكن أن تساعد في استقطاب الاستثمارات الأجنبية للعمل في السوق الإيرانية مرة أخرى. وفي رؤية طهران، فإن الشركات الأجنبية سوف تضع في اعتبارها، من دون شك، استمرار فرض عقوبات على الحرس الثوري، وربما يتحول ذلك إلى عقبة أمام جذب استثمارات كبيرة إلى الداخل الإيراني. إلا أن الحصول على ضمانات يمكن من خلالها الحفاظ على مصالح وعوائد هذه الشركات، ربما يقلص من حدة المخاوف التي تنتاب الأخيرة وتدفعها إلى الانخراط في إبرام صفقات جديدة مع شركات إيرانية.
استمرار فرض العقوبات الأمريكية: ربما وصلت إيران إلى نتيجة أن شطب الحرس الثوري من قائمة العقوبات الأمريكية لا يمثل إضافة كبيرة. ففضلًا عن أن خطوة وضع “الپاسداران” على قائمة التنظيمات الإرهابية، والتي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 8 أبريل 2019، كانت رمزية إلى حد كبير، وسعت من خلالها إلى تقليص قدرة أي رئيس أمريكي قادم على الوصول إلى صفقة جديدة مع إيران، فإنه حتى لو تمت الاستجابة لهذا المطلب الإيراني وتم التوصل إلى صفقة جديدة، فإن ذلك لا ينفي أن إيران سوف تتعرض لعقوبات أخرى، تتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية ودعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان.
وقد أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على مواصلة تطبيق هذه العقوبات حتى مع الوصول للاتفاق النووي الحالي الذي أعلن عنه في 14 يوليو 2015، لكي تحتفظ بورقة ضغط على إيران تستطيع التلويح بها في أي وقت. وهنا، فإن اللافت أن هذه المجالات الثلاثة التي تتعرض فيها إيران لعقوبات (البرنامج الصاروخي، ودعم الإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان) يمثل الحرس الثوري رقمًا مهمًا فيها، فهو المسئول عن إدارة البرنامج الصاروخي، كما أنه يتولى العمليات الخارجية التي تتعلق بدعم التنظيمات والمليشيات المسلحة في دول الأزمات (والتي تقع في إطار دعم الإرهاب وفقًا للمنظور الأمريكي). فضلًا عن أنه متهم بالتورط في انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل.
مفترق طرق
في ضوء ذلك، يمكن القول -في النهاية- إن تنازل إيران عن مطلب شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأمريكية يمكن أن يساهم في تذليل العقبات التي تحول دون الوصول إلى اتفاق نووي جديد. إلا أن ذلك لا ينفي أن الخلافات ما زالت قائمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن، بدليل تأخر واشنطن في الرد على الموقف الإيراني من مسودة بوريل، على نحو يعني أن الاتفاق النووي أصبح على مفترق طريق رئيسي، وربما أمام اختبار حاسم سوف يحدد مسار المفاوضات التي أُجريت بشأنه على مدى عام ونصف.
.
رابط المصدر: