د. محمد فايز فرحات
ربما بدا غريبا، أو على الأقل لافتا، بالنسبة للبعض أن يشير الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته المهمة فى الكلية الحربية (٦ أغسطس الحالى) إلى دعم مصر مبدأ «صين واحدة»، وهو المبدأ الذى أصبح موضوعا للسجال بين الصين والولايات المتحدة، فى سياق التفاعلات الصراعية التى باتت تغلب على علاقات البلدين منذ عام ٢٠١٧، وتزايدت حدتها عقب بدء الحرب الروسية – الأوكرانية فى فبراير الماضي، والتى دشنت لجدال حول سيناريوهات مختلفة، منها إمكانية إقدام الصين على محاكاة السلوك الروسى فى محيطها الإقليمى من خلال الاتجاه إلى ضم تايوان بالقوة العسكرية إلى الصين الأم، أو إعلان منطقة بحر الصين الجنوبى منطقة دفاع جوي، أو وجود مشروع أمريكى لدفع الصين إلى التورط فى تايوان كجزء من عملية مخططة لاستنزاف الصين أو دفعها إلى الانكفاء على محيطها الإقليمى وقضايا أمنها القومى المباشر، وذلك بافتراض أن الحرب الروسية – الأوكرانية كانت «فخا» أمريكيا – أوروبيا، أو على الأقل أنه تم تحويلها لاحقا إلى «فخ» أو «مستنقع» لاستنزاف روسيا اقتصاديا وعسكريا. وزادت حدة هذا السجال/ الصراع الصينى – الأمريكى حول مبدأ «صين واحدة» عقب زيارة نانسى بيلوسى لتايوان (٢-٣ أغسطس الحالى)، كما تبعها سجال عميق حول مستقبل العلاقات بين البلدين ومستقبل الاستقرار فى منطقة الإندوباسيفيك.
لماذا أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى التزام مصر بمبدأ «صين واحدة»، فى وقت كان من الممكن أن يتجاهل هذه الإشارة دونما أى تكلفة أو حتى انتباه من جانب أى من أعضاء المجتمع الدولي، وذلك باعتبار أن مصر ليست طرفا مباشرا فى هذا السجال الصيني- الأمريكي. قد يذهب البعض إلى أن هذه الإشارة يجب فهمها فى سياق حالة «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين مصر والصين، لكن هذا المدخل لا يُقدم -فى رأيي- تفسيرا متكاملا للموقف المصري، خاصة أن مصر تتمتع بعلاقات لا تقل فى أهميتها أو طبيعتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ما قد يُفهم منه أن مصر تنحاز إلى أحد طرفى السجال/ الصراع، وهو غير صحيح.
إن فهما أعمق لهذا الموقف المهم من جانب مصر يقتضى أن نضعه فى إطار أوسع وأعمق. وأطرح فى هذا السياق المداخل الثلاثة التالية لفهم تأكيد الرئيس السيسى دعم مصر لمبدأ «صين واحدة».
المدخل الأول، يتعلق بموقع مصر داخل النظام العالمى فى المرحلة الراهنة، باعتبارها واحدة من القوى الوسطى داخل هذا النظام. هذه الفئة الدولية تضطلع، بحكم وضعها داخل النظام العالمي، بمجموعة من المسئوليات المهمة، أبرزها الحفاظ على سمة تعددية الأطراف multilateralism داخل النظام، وما يقتضيه ذلك من ضرورة الحفاظ على المؤسسات الدولية التى تضمن هذه السمة، بجانب الحفاظ على المبادئ الأساسية المستقرة داخل النظام العالمي، وعلى رأسها مبادئ القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة. وتزداد أهمية دور القوى الوسطى فى اللحظات التى تواجه فيها هذه المبادئ تحديات خطيرة، قد تؤثر على الأمن والاقتصاد العالمي. مبدأ «الصين الواحدة» (ويعنى أن هناك دولة واحدة ذات سيادة هى الصين) هو أحد المبادئ الأساسية المستقرة ليس فقط على مستوى العلاقات الصينية- الأمريكية، منذ التطبيع الرسمى لهذه العلاقات فى يناير ١٩٧٩، لكنه تحول إلى أحد المبادئ الأممية المستقرة منذ إقرار عضوية جمهورية الصين الشعبية داخل الأمم المتحدة كممثل وحيد لدولة الصين بموجب قرار الجمعية العامة رقم 2758 الصادر فى ٢٥ أكتوبر ١٩٧١.
إن الحفاظ على هذا المبدأ بات أحد شروط الاستقرار داخل النظام العالمي، ولا يوجد خلاف صيني- أمريكى حول أهميته، لكن الخلاف بات يتعلق بتفسير هذا المبدأ، أو ما إذا كانت بعض الممارسات الأمريكية أو الدولية تشكل خرقا لهذا المبدأ من عدمه.
المدخل الثاني، يتعلق بالأهمية الاستراتيجية لمنطقة الإندوباسيفيك، بشكل عام، ومنطقة بحر الصين الجنوبى ومضيق تايوان بشكل خاص، وحساسية هذه المنطقة بالنسبة للأمن العالمي، خاصة فى ضوء الحضور العسكرى المتزايد للولايات المتحدة والصين، وتسارع عمليات تعميق وبناء التحالفات العسكرية والأمنية، وكثافة المناورات العسكرية الفردية والثنائية والجماعية، وتزايد معدلات الإنفاق العسكرى بالمنطقة، وهى كلها مظاهر تشير إلى تزايد معدلات العسكرة. أضف إلى ذلك أهمية هذه المنطقة بالنسبة لحركة التجارة العالمية والملاحة الدولية، خاصة فى ضوء ارتباط المنطقة بعدد من المضايق والممرات المائية، وارتباطها بطرق التجارة البحرية الدولية. إن حدوث أزمة دولية فى هذه المنطقة شديدة الحساسية سيترتب تداعيات قد تفوق فى حجمها ونطاقها التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية- الأوكرانية، وهو سيناريو بات العالم فى غنى عنه.
المدخل الثالث، يتعلق بالتحول الهيكلى المهم الذى طال السياسة الخارجية المصرية منذ ٢٠١٤، وهو تنويع العلاقات المصرية الخارجية بهدف إيجاد حالة من التوازن. فى هذا السياق، اتجهت مصر إلى الانفتاح على القوى الآسيوية، كجزء من قراءة لطبيعة التحولات العميقة الجارية فى موازين القوى العالمية. ومن ثم، فى هذا السياق من الطبيعى أن تعبر مصر عن موقفها من بعض التحولات والقضايا الجوهرية فى آسيا. وسبق أن عبر السيد الرئيس عن موقف مصر من قضايا آسيوية مهمة، خاصة الأزمة فى شبه الجزيرة الكورية، عندما أكد فى مناسبات مختلفة «دعم مصر الدائم لجميع الآليات التى تضمن أمن واستقرار شبه الجزيرة الكورية» (١٠ أكتوبر ٢٠٢١، ٢٠ يناير ٢٠٢٢). إن تعبير مصر عن موقفها من القضايا الآسيوية المهمة يعطى الانفتاح المصرى على آسيا درجة أكبر من المصداقية والاستدامة، بالنظر إلى أهمية هذا النوع من القضايا بالنسبة للقوى الآسيوية. هذه القوى لم تعد تقبل التعامل معها باعتبارها قوى اقتصادية فقط، ولم تعد تقبل تجاهل قضاياها الأمنية الرئيسية فى الخطابات الدولية والإقليمية بشأنها.
نقلا عن جريدة الاهرام بتاريخ 17 أغسطس 2022
.
رابط المصدر: