لماذا تدعو إيران لاستئناف المفاوضات النووية على الرغم من حدة الاضطرابات الداخلية؟

علي عاطف

 

قبل اندلاع الاضطرابات الحالية داخل إيران في منتصف شهر سبتمبر الماضي، كانت معادلة المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية تسير في مسار مختلف عما هي عليه الآن بعد حادثة مقتل مهسا أميني والتطورات التي لحقت بها. فقد سعى الأمريكيون والأوروبيون في ذلك الوقت وبشكل مستمر إلى دفع وتشجيع إيران على المضي قدمًا في المفاوضات النووية التي انطلقت أولى جولاتها بالأساس في أبريل 2021 بالعاصمة النمساوية فيينا.

ولكن، منذ ذلك التاريخ وحتى النصف الأول من سبتمبر 2022 دأبت طهران على المناورة سياسيًا لتحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب المستقبلية من خلال هذه المباحثات، ما قاد بالتالي إلى تعطيلها أكثر من مرة، وآخرها بسبب رفض إيران التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بالعثور على آثار مواد نووية مخصبة في ثلاثة مواقع ذرية غير معلن عنها في ذلك البلد. وأثارت هذه الخطوة الأخيرة حفيظة الدول الغربية؛ إذ إنها جاءت في أعقاب الإعلان في أوائل أغسطس الماضي عن “صيغة نهائية” لإحياء الاتفاق النووي بعد جولات شاقة ومضنية من المفاوضات بين مختلف الأطراف.

أما بعد مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني الشهر الفائت، فإن ذلك المسار وتلك المعادلة قد تغيرتا بشكل جوهري؛ إذ تبدلت أدوار طرفي المعادلة وأصبحت إيران في موضع الساعي والداعي إلى استئناف المفاوضات النووية “وعلى الفور”، وذلك طبقًا لتصريحات مختلف مسؤوليها، مثل وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان الذي أكد في أكتوبر الجاري على ضرورة “سرعة التوصل إلى اتفاق نووي”.

أما على الجانب الآخر، فإن التصريحات الغربية المعنية بالاتفاق النووي، والمتزامنة مع ما يجري في إيران محليًا، باتت تعبر عن  حالة من “التشاؤم” بشأن مستقبل المفاوضات النووية مع إيران، لعل من بينها ما قالته نائبةُ وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، مؤخرًا من أن “المفاوضات (النووية) في حالة جمود” وأن “رد طهران على المقترحات الأوروبية كان متشددًا للغاية”، علاوة على ما أوضحته المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، من أن “واشنطن تركز في الوقت الحاضر على متابعة الاضطرابات في إيران، وليس على المفاوضات النووية”.

وعلى ذلك، يثير تغير المواقف هذا تساؤلًا بشأن ماهية العوامل التي تدفع إيران إلى الإصرار في الوقت الراهن على استئناف المفاوضات النووية مع القوى الكبرى وتحقيق تقدم ملموس بها على الرغم من الاضطرابات السياسية والأمنية غير المسبوقة التي لم تشهد البلاد مثلها خلال عقود، وعلى الرغم أيضًا، وهو الأكثر أهمية، من تفاقم حدة التوترات السياسية بينها من جانب وبين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من جانب آخر.

وفي ضوء ذلك، نتطرق فيما يلي إلى الأسباب التي تدفع إيران إلى الإصرار في الوقت الحاضر، الذي تشهد فيه توترات أمنية وسياسية واسعة، على استئناف المفاوضات النووية مع القوى الكبرى:

تجنب تبعات التصعيد السياسي الشامل مع الغرب في ظل الأوضاع المحلية الراهنة

يتمثل السبب الرئيس الذي يدفع الإيرانيين في الوقت الراهن إلى الدعوة إلى استئناف المحادثات النووية مع الدول الكبرى في محاولة طهران تجنب نتائج ومخاطر التصعيد الآني الشامل مع هذه الدول، والذي سوف يصبح نتيجة مباشرة لتطورين اثنين معًا هما استمرار التعثر الواضح في المحادثات النووية السياسية، بالتزامن مع تصاعد التوتر بين الطرفين في ظل انتقاد طريقة تعامل السلطات المحلية في إيران مع الاحتجاجات التي تشهدها البلاد حاليًا تنديدًا بمقتل المواطنة مهسا أميني في شهر سبتمبر الماضي.

إذ، تدرك طهران أن مواصلة تعطيل مسار المفاوضات النووية، بالتزامن مع حالة الاضطراب الأمني الذي تشهده وفي ظل طبيعة المواقف الأوروبية والغربية بوجه عام إزاء مقتل “أميني” والتطورات اللاحقة؛ سوف يقود -في ظل التطورات الراهنة- إلى مزيد من تعقيد الأمور بالنسبة لها سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وخاصة الأخير.

وسوف يعزز ذلك ويوحّد أيضًا من مواقف الدول المعنية فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الحكومة الإيرانية في الوقت الحالي؛ في ظل عدم تحقيق انفراجة في المحادثات النووية بسبب موقف طهران الأخير إزاء الوكالة الدولية واستعمالها للعنف أيضًا إزاء المواطنين المحتجين في الداخل.

وستزداد مخاوف النظام السياسي في طهران من تداعيات مثل هذا السيناريو عند النظر إلى اهتمام المجتمع الدولي ومتابعة مواطنين عاديين في الكثير من الدول حول العالم لقضية مهسا أميني في إيران وتطورات هذه الأحداث. هذا فضلًا عن الدور الواسع الذي تلعبه الجاليات الإيرانية في الدول الغربية من خلال حملات إعلامية ومسيرات متواصلة تندد بالأحداث الجارية في بلادهم الأم، ما يقود إلى تسليط أكبر للضوء على هذه المجريات.

ويعني هذا أن انسداد أفق المفاوضات النووية في ظل حالة الاضطرابات الداخلية في إيران سوف يؤدي إلى توسيع دائرة انتقاد إيران على المستوى الدولي لأنه سوف يغلق أية فرصة للحوار بينها وبين الدول الأخرى، خاصة المتفاوضة معها في النمسا.

أي أن إيران تريد من وراء الدعوة إلى استئناف المحادثات النووية مجددًا إيجاد “نافذة حوار سياسي” مع الغرب قد تحد من حالة الاحتقان الغربية إزاء طهران بعد مقتل أميني وطريقة التعامل مع الاحتجاجات التي تلت الحادث، وذلك إذا ما برزت الفرصة مواتية لتجديد اتفاق 2015 النووي الذي سيلزم إيران بأمور عدة من بينها تخفيف حدة التوتر الإقليمي والحد من الأنشطة النووية، وهو ما تراه إيران سوف يُرضي الدول الكبرى في الوقت الحالي.

ويعزز من هذا النهج لدى إيران انسدادُ مختلف قنوات الحوار مع الغرب خلال الأيام الأخيرة؛ بعد تعثر المفاوضات النووية، ورد فعل السلطات الأمنية تجاه المحتجين على مقتل مهسا أميني. لذا، فإن إيران تريد تخفيف الضغط الدولي الحالي عليها من وراء الدعوة للحوار النووي مجددًا.

تعرض أمن الدولة في إيران لاختراقات متعددة في المناطق النائية:

على الرغم من أن أحد أوجه المظاهرات الحالية في إيران سياسية، إلا أنه وحسب تقارير إيرانية وخارجية فإن نشاطًا عسكريًا واضحًا وغير رسمي يجري في أطراف تلك الدولة تقوم به جماعات تصنفها إيران إرهابية. فقد ازدادت عمليات تهريب الأسلحة إلى إيران عن طريق حدودها الغربية، علاوة على تفاقم التوترات الأمنية الموازية في المناطق الشرقية الحدودية مع باكستان، وذلك تزامنًا مع توسع رقعة الاحتجاجات هناك.

فيبدو أن بعض الجماعات المناهضة للنظام الإيراني تستغل الحالة الراهنة من أجل تحقيق أهدافها. فكثيرًا ما أعلنت إيران منذ منتصف سبتمبر 2022 وحتى الآن عن عمليات “ضبط” لأسلحة مهربة إلى أراضيها، خاصة عبر الحدود الغربية، وهو ما قادها إلى توجيه ضربات عسكرية متعددة ومتتالية إلى إقليم كردستان العراق خلال الأيام القليلة الماضية.

وعلى سبيل المثال، أعلن قائد الشرطة الإيرانية في محافظة “أذربيجان الغربية” الحدودية مع إقليم كردستان العراق، رحيم جهانبخش، في 25 سبتمبر 2022 عن “ضبط 3 جماعات لتهريب الأسلحة في هذه المحافظة واعتقال 7 من أعضائهم”. ووصف جهانبخش بعض أنواع الأسلحة المضبوطة بأنها “حربية”، مضيفًا أن “عمليات ضبط الأسلحة خلال العام الجاري ازدادت بنسبة 50% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي” وأن “عدد الأفراد مهربي الأسلحة المعتقلين في هذه المحافظة قد ارتفع بنسبة 30% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي”.

وإلى الجنوب من محافظة “أذربيجان الغربية” في إيران، صارت محافظة كردستان ذات الأغلبية الكردية تستحوذ على اهتمام خاص من جانب المسؤولين الأمنيين والعسكريين في طهران منذ بداية الأحداث الجارية. ويعود ذلك، حسب تقارير رسمية إيرانية إلى تكثيف عمليات نقل الأسلحة إلى داخل إيران مؤخرًا عبر هذه المحافظة الحدودية أيضًا مع إقليم كردستان العراق.

فقد قال قائد قوات الشرطة في محافظة كردستان بإيران، علي آزادي، يوم 6 أكتوبر الجاري، حين حديثه عن ضبط مواد متفجرة في هذه المحافظة، إن عمليات السرقة والتهريب في هذه المنطقة قد ارتفعت بواقع 2% خلال الأشهر الستة الأخيرة مقارنة بانخفاضها بنسبة 5% العام الماضي.

وعلى أي حال، فإن هذه الحالة الأمنية في إيران وخشية النظام السياسي من تنامي نفوذ الجماعات المعارضة له داخليًا، بالإضافة إلى ما سبق الحديث بشأنه حول الرغبة في الحد من الانتقادات والضغط السياسي الخارجي؛ يدفع طهران وبشكل مباشر إلى طلب “الصلح” مع الخارج عبر المفاوضات النووية؛ من أجل التفرغ للتعامل مع تطورات الحالة الأمنية محليًا والتي ترتبط أيضًا من ناحية أخرى بمدى استقرار النظام السياسي نفسه.

خشية إيران من رد فعل غربي قوي إزاء دورها غير المباشر في الحرب الأوكرانية:

يُتوقع أنه حتى لو لم تحدث تطورات على النحو المُشار إليه في إيران، فإن الأخيرة كانت ستتجه أيضًا إلى محاولة إحداث انفراجة ولو ظاهرية في المحادثات النووية. ويُعزى هذا إلى خشية إيران من رد فعل قوي من جانب الدول الغربية؛ نتيجة لانخراطها بشكل غير مباشر في الحرب الروسية الأوكرانية عن طريق إرسالها طائرات مسيرة من دون طيار (درونز) إلى روسيا التي استعملتها بدورها ضد القوات الأوكرانية.

فإيران سترى في هذه الحالة المحادثاتِ النووية بمثابة آلية يمكنها تخفيف التوتر مع الغرب وإحداث تسويات سياسية معه أيضًا. لذا، فإذا أضفنا هذا العامل إلى التحولات سالفة الذكر سنجد أن أسلوب المناورة السياسية المعتاد المتبع من جانب طهران كان سيقودها إلى الدعوة لاستئناف المحادثات النووية من جديد.

سعي إيران إلى عدم انهيار المحادثات النووية:

على الرغم من أن المطالب الإيرانية قد قادت أكثر من مرة إلى تعطل المفاوضات النووية خلال عام ونصف، هو عمر هذه المباحثات، إلا أن طهران لا تريد بالأساس انهيارًا كليًا ونهائيًا للمحادثات النووية مع القوى الكبرى. إذ إنها تعلم أن نتائج ذلك سوف تكون خطيرة للغاية وقد تجبر الدول المعنية سواء في الغرب أو الشرق الأوسط على اتخاذ خطوات أكثر جدية وحاسمة تجاه البرنامج النووي الإيراني على الأقل، كما أن اتفاقًا نوويًا يعني بالنسبة لإيران مكاسب سياسية واقتصادية من جانب آخر.

وعليه، وأخذًا في الحسبان حالة التصعيد الأخيرة بين إيران والغرب نتيجة لأسباب عدة من بينها الأزمة الأوكرانية وانتقاد أسلوب التعامل الإيراني مع الاحتجاجات الجارية والتي بإمكانها أن تقود في نهاية المسار إلى انهيار المحادثات النووية، فإن دعوة إيران إلى استئناف هذه المحادثات في هذا التوقيت لا تبدو مفاجئة أو غير متوقعة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73483/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M