رغم انشغال النظام الإيراني في مواجهة الاحتجاجات التي افتتحت أسبوعها الحادي عشر، إلا أنه عاد مجدداً إلى التركيز على قضية “تصدير الثورة”، التي تثير دائماً ردود فعل رافضة على المستويين الداخلي والخارجي.
إذ أن اتجاهات عديدة في الداخل ترى أنها تمثل أحد أسباب الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تتعرض لها إيران بسبب إمعان النظام الإيراني في استنزاف الموارد الإيرانية في الإنفاق على تدخلاته في المنطقة. في حين أن القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة ترى أنها تعد أحد مُحفِّزات حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها دول عديدة بها، لاسيما دول الأزمات مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
استدعاء قضية “تصدير الثورة” بدا جلياً في التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي خلال لقاءه كوادر ميليشيا “الباسيج”، في 26 نوفمبر الجاري، والتي تحدث فيها عن أن “امتداد الثورة أصبح فاعلاً في العراق وسوريا ولبنان”، مشيراً إلى أن “سياسة إيران نجحت في هذه الدول مما أدى إلى هزيمة أمريكا فيها”.
ورغم أن هذا التوجه لا يعتبر جديداً، إلا أنه يكتسب أهمية وزخماً خاصاً لجهة توقيته، الذي يتزامن مع تصاعد حدة الأزمة الداخلية بسبب استمرار الاحتجاجات، وتفاقم التوتر بين إيران والدول الغربية حول الاتفاق النووي وعدم تجاوب إيران مع مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلاً عن الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية.
دوافع عديدة:
يمكن تفسير تعمد إيران استدعاء قضية “تصدير الثورة” في هذا التوقيت تحديداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
- مواصلة الترويج لـ”نظرية المؤامرة”: يحاول النظام عبر استدعاء قضية “تصدير الثورة” الترويج إلى نظرية المؤامرة التي يتبناها منذ اندلاع الاحتجاجات الحالية في 16 سبتمبر الماضي. إذ يزعم قادة ومسئولو النظام أن وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني لم تكن إلا السبب الظاهري أو المبرر لاندلاع الاحتجاجات، فيما ترتبط الأسباب الحقيقية بوجود مخطط خارجي يسعى إلى تقويض دعائم النظام عبر نشر الفوضى في الداخل وإنهاك قوات وأجهزة الأمن، وبالتالي يكون النظام أمام سيناريوهين وفقاً لهذه الرؤية: إما أن يضطر إلى التجاوب مع مطالب المحتجين أو ينهار بفعل الضغوط التي يفرضها استمرار الاحتجاجات. ومن هنا، يمكن تفسير تعمد النظام التركيز على وصف ما يحدث بأنه “اغتشاشات” أى أعمال شغب، وليس “اعتراضات” أى احتجاجات. وقد عكس قائد الحرس الثوري حسين سلامي هذه الرؤية لكن بطريقة أخرى، عندما قال، في 27 نوفمبر الجاري، أن “إيران تتعرض لحرب عالمية ضخمة، لكن الشعب الإيراني واعي”.
ومن دون شك، فإن هدف النظام من ذلك هو تقليص أهمية وزخم الاحتجاجات الحالية، بعد أن فشلت كل الأدوات التي استخدمها في احتواءها، بدليل تجاوزها اليوم السبعين منذ اندلاعها في منتصف سبتمبر الماضي، بالتوازي مع سعيه إلى تصدير فكرة وجود دعم خارجي للاحتجاجات عبر الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة الموجودة في شمال العراق، والذي يستند إليه في تبرير العمليات العسكرية التي يقوم بشنها الحرس الثوري باستمرار في تلك المنطقة.
من هنا، ربما يمكن القول إن خامنئي بهذه التصريحات التي أدلى بها خلال لقاءه بـ”التعبويين” أو “كوادر الباسيج”، يمنح الضوء الأخضر للتصعيد بشكل أكبر في مواجهة المحتجين، سعياً إلى احتواء الاحتجاجات قريباً، بعد أن فوجئ باستمرارها وتجاوزها كل القيود التي فرضتها السلطات خلال المرحلة الماضية.
- التركيز على أدوار قاسم سليماني: كان لافتاً أن خامنئي حرص، لأول مرة منذ اندلاع الاحتجاجات، على الإشارة إلى الأدوار التي كان يقوم بها القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، الذي قتل في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في 3 يناير 2020.
ومن دون شك، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى سعى خامنئي إلى الرد على تعمد قسم من المحتجين إحراق تماثيل وصور لسليماني، خلال مظاهراتهم المستمرة في الفترة الماضية، كتعبير عن استياءهم تجاه الأدوار التي تقوم بها إيران على الساحة الخارجية، والتي فرضت تداعيات سلبية على الداخل الإيراني، باعتبار أنها تسببت ليس فقط في توجيه الموارد الإيرانية بعيداً عن معالجة الأوضاع المعيشية واحتواء الأزمات الاقتصادية، وإنما ساهمت في تعرض إيران لعزلة وعقوبات دولية وغربية أنتجت تأثيرها المباشر على المواطن الإيراني نفسه قبل أن تكون على مسئولي النظام.
لكن خامنئي أيضاً يريد الترويج لمزاعم حول أن الأدوار التي كان يقوم بها سليماني ساهمت في صد التهديدات التي كانت تتعرض لها إيران مبكراً، وبعيداً عن حدودها، على غرار التهديدات التي يفرضها تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في دول مثل العراق وسوريا. وسبق أن ادعى المرشد الإيراني أن “إيران تقاتل في دمشق لمنع داعش من الوصول إلى طهران”.
ويعني ذلك في المقام الأول أن قيادة النظام الإيراني تسعى إلى إضفاء طابع “أخلاقي” على تلك الأدوار باعتبار أنها سعت إلى المشاركة في محاربة الإرهاب ومواجهة عدم الاستقرار، وهى مزاعم لا تتسامح بالطبع مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن تلك الأدوار كانت سبباً رئيسياً في تفاقم حالة عدم الاستقرار في دول الأزمات، وعرقلة الجهود التي بذلت من أجل الوصول إلى تسويات سياسية بشأنها.
- الرد على الضغوط الغربية: ترى القيادة الإيرانية أن الدول الغربية تسعى إلى استغلال الاحتجاجات الحالية من أجل ممارسة أقصى قدر من الضغوط على النظام الإيراني ودفعه بالتالي إلى تقديم تنازلات في بعض الملفات الخلافية الرئيسية، على غرار الملف النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي.
ومن هنا، فإنها تفسر الدعم الغربي المتصاعد للاحتجاجات بأنه يسعى إلى تحقيق هذا الهدف، مستندة في هذا السياق إلى أن هذا الدعم اتخذ أنماطاً متعددة، منها فرض عقوبات غربية متتالية على المسئولين الإيرانيين، وعقد لقاءات مع بعض الناشطين الإيرانيين على غرار اللقاء الذي عقده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مع أربعة ناشطات إيرانية في باريس في 11 نوفمبر الجاري والذي وصف فيه الاحتجاجات بأنها “ثورة”، ودعوة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تشكيل هيئة مستقلة للتحقيق في الانتهاكات التي شهدتها الاحتجاجات.
ولذا، فإن خامنئي يحاول عبر تجديد الحديث عن “تصدير الثورة” تأكيد أن النظام الإيراني لن يقدم تنازلات أو يتراجع أمام الضغوط التي تفرضها الاحتجاجات. بل إنه ألمح إلى أنه سوف يتبنى سياسة أكثر تشدداً إزاء المطالب التي تتبناها الدول الغربية خلال المفاوضات النووية التي توقفت في أغسطس الماضي نتيجة استمرار الخلافات العالقة حول بعض القضايا، مثل الضمانات التي تطلبها إيران، ومستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إذ أبدى خامنئي عدم ثقته في جدوى أي اتفاق محتمل مع القوى الدولية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أنه اعتبر أن هذا الاتفاق سوف تستتبعه ضغوط من أجل إبرام اتفاق ثاني وثالث حول الدور الإقليمي والأسلحة الاستراتيجية، في إشارة إلى برنامج الصواريخ الباليستية، وهما الملفان اللذان يمثلان “خطاً أحمر” لا يستطيع أن يحيد عنه النظام بسهولة.
وبمعنى آخر، فإن خامنئي يريد أن يضع الدول الغربية أمام خيارين: إما أن يبرم اتفاق نووي يستوعب شروط إيران المبدئية، أو أن تتوقف المفاوضات وينهار الاتفاق الحالي وتواصل إيران تطوير أنشطتها النووية. وبالطبع، فإن هذه المقاربة لا تنفصل عن قراءة طهران للتطورات التي طرأت على الساحة الدولية، والتي ترى أنها لا توفر خيارات متعددة أو هامش حركة أوسع أمام الدول الغربية، خاصة في ظل التداعيات التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ 24 فبراير الماضي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الاحتجاجات الحالية سوف تمثل اختباراً رئيسياً سوف يضبط اتجاهات العلاقة بين النظام والمحتجين خلال المرحلة القادمة، خاصة أن هذه الاحتجاجات نجحت في أكثر ما فشلت فيه الاحتجاجات السابقة، وهو الاستمرار رغم كل القيود الأمنية التي فرضها النظام خلال الأيام الثلاثة والسبعين الماضية.
.
رابط المصدر: