فيما تهادن مؤقتاً النوع الثاني وترجئ النوع الثالث إلى مراحل بعيدة، لأن أنيابه التنافسية لا تزال ضعيفة.
ضمن هذا التقسيم تحتل إيران والصين، كامل لائحة الدول الأكثر تأثيراً على النفوذ الأميركي العالمي.
فالجمهورية الإسلامية لاعب أساسي ومتمكن في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث توجد بلاد لا تنتج شيئاً ولديها مقدرة على استهلاك السلع الأميركية من السلاح حتى العلكة والهمبرغر، وكل أنواع لباس رعاة البقر.
هذا إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لشرق أوسط يتوسط العالم بأهمية الموقع، محتوياً على أضخم احتياطات غاز ونفط في العالم.
هنا وفي هذه الجغرافيا الممسوكة أميركياً منذ ستة عقود تقريباً، بنى الإيرانيون نفوذاً وعلاقات تحالفية تهدد الهيمنة الأميركية الشمولية على هذه المنطقة، وباتت أول جهة في العالم، تهزم مشروعاً عسكرياً أميركياً بالسلاح.
هذا بالإضافة إلى أن دول الخليج العربي بمفردها، تمتلك أكبر احتياطات نقدية موظفة في مؤسسات أميركية رسمية وخاصة من دون فوائد.
لجهة الصين، فتتجه بسرعة للتعادل مع الاقتصاد الأميركي الجيوبوليتيكي، الذي يشكل أقوى قوة اقتصادية عرفها التاريخ حتى الآن.
والمعروف أن الدولة الأحادية القطبية، هي التي تجمع بين القدرات الاقتصادية الاستثنائية، والجيوبوليتيك العسكري الموازي والمسهل لها.
ويبدو أن الصين تمتلك الجانب الاقتصادي بشكل كبير، وبدأت عبر مشروعها «طريق الحرير» تأسيس نفوذ بشكل اقتصاديّ ومضمون عسكريّ، بما يؤدي إلى تجذير بلاد التنين الأصفر في العالم المتعدّد القطب.
هناك «قطبة» إضافية مخفيّة لا يتبيّنها إلا الخبراء المتعمّقون، وهي أن مرحلة ما بعد جائحة الكورونا من شأنها زيادة معدلات الفقر، بعد الخسائر الكبيرة التي أصابت دول العالم جراء الكورونا.
لذلك فإن السلع الجيدة النوعية والرخيصة الأسعار هي القابلة للتسويق، وهذا ينطبق على البضائع الصينية، ويشكل عائقاً كبيراً أمام بضائع أميركية نوعية، لكنها مرتفعة الأثمان إلى حدود لن تتحمّلها الدول في مراحل قريبة.
هذه هي الأسباب التي ترفع من عيار الجنون الأميركي، الذي يستشعر ولادة أنماط جديدة للعلاقات الدولية تذهب نحو إعادة الاعتبار للقانون الدولي، وهذا لا يلائم الأحادية القطبية الأميركية التي تعتبر العالم ملعباً لنفوذها ومطامعها.
ما هي أشكال هذا الجنون الأميركي؟
يستند الأميركيون، في حصار إيران وتطويقها ذاهبين إلى محاولات جديدة لضربها في لبنان، عبر استهداف حليفها الأساسي حزب الله في دوريه الإقليمي السوري واللبناني في وجه الكيان الإسرائيلي المحتل، ويغطون غارات “إسرائيلية” شبه يومية على أهداف يزعمون أنها إيرانية أو لحزب الله، في منطقة تبدأ من لحدود السورية اللبنانية وحتى منطقة البوكمال في الجنوب السوري.
أما الجزء الثاني من المخطط، فهو تحريض ورعاية أميركيين لأحزاب وقوى لبنانية، تطالب بإقفال الحدود السورية اللبنانية وإلحاقها بالقرار الدولي 1701، الذي ينص على نشر قوات دولية عند حدود لبنان مع «إسرائيل».
هذا المخطط يريد وضع لبنان بين خيارين: معاملة سورية كـ»إسرائيل» وإقفال حدودها أمام الحركة الإقليمية لحزب الله، ما يؤدي إلى إنهاء دوره وحصره في إطار الاستعداد لمنازلة مع العدو الإسرائيلي.
ما يؤدي إلى إضعاف الجبهة السورية وحصرها بالنفوذ الأميركي في الشرق النفطي، والدولة السورية في الغرب والوسط ومعها الحليف الروسي.
بذلك يكون الأميركيون بصدد معاودة حركتهم العادية في سورية والعراق، مقابل ضرب النفوذ الإيراني في هذين البلدين، وإرغامه على التراجع في لبنان أيضاً.
لذلك لا يتورع الأميركيون، عن وضع لبنان بين خيارين: إما تقليص دور حزب الله وقطع طرق حركته الإقليمية أو الفوضى الداخلية، عبر الضغط على صندوق النقد الدولي، كي لا يستجيب لطلباته بالدعم الاقتصادي لوقف الانهيار.
وهذا ما يفعله الأميركيون في العراق، بعد نجاحهم بفرض صديقهم الكاظمي، رئيساً للوزراء في بلاد الرافدين.
هذا يكشف أن الأميركيين يعملون بسرعة على تهديم ما بناه الإيرانيون في أربعين عاماً، ويؤكد أيضاً على صعوبة مشروعهم بإعادة هندسة الشرق الاوسط على نحو يلائم هيمنتهم القطبية، بالسرعة التي يتوهّمها الرئيس الأميركي ترامب.
لا بدّ هنا من التأكيد أن بضعة أشهر هي أكثر من كافية ليتبين للدولة الأميركية العميقة، أن البناءات الإيرانية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ليست سطحية أو مذهبية كما يعتقدون، بقدر ما تعكس شعوراً بضرورة طرد نفوذ أميركي، تدعم إيران في مواجهته صنعاء الشديدة اليمنية والحشد الشعبي العراقي الأصيل والدولة السورية المتمكنة، وحزب الله المتجذر على امتداد منطقة تشمل الشرق العربي من أعالي اليمن إلى لبنان.
هذا دون نسيان تحالفات إيران مع الدولة في أفغانستان وطالبان وجهات أخرى، كذلك فإن صداقاتها مع قوى باكستانية وهندية غير قابلة للهدم السريع.
ماذا عن الصين؟
يحاول فريق ترامب، تحريض أهالي المتوفين من جراء الكورونا للتقدم بدعاوى تتهم الصين بقتل أبنائهم، وهذا إذا حصل يؤدي تلقائياً إلى منع استيراد السلع الصينية إلى الأسواق الأميركية.
هذا إلى جانب الاستمرار في بث معلومات عن الجنسية الصينية لجائحة كورونا، اعتقاداً من الأميركيين أنها الوسيلة الأفضل لإثارة ذعر عالمي، يؤدي تلقائياً إلى الانقطاع عن استهلاك السلع الصينية، فيتراجع الاقتصاد الصيني بما يؤدي إضافة عقود على حركته الزمنية، لكي يتساوى مع الاقتصاد الأميركي أو يتفوّق عليه.
وقد لا يتورع ترامب بإثارة نزاعات عسكرية محدودة في بحر الصين الجنوبي واليابان، بوسيلتين: إما بإثارة اشتباكات عسكرية بين دول متخاصمة في جنوب شرقي آسيا، يندرج بعضها في اطار صداقة مع الصين، وتنتمي مجموعات أخرى إلى التغطيات الأميركية، هذا الى جانب افتعال أميركي لاشتباكات بحرية محدودة في بحر الصين، بين بوارج أميركية وأهداف صينية.
إنه اذاً جنون أميركي لم يعد يعرف ماذا عليه أن يفعل ليوقف انهيار أحاديته القطبية، لكنه يعمد إلى مهادنة روسيا لأنها غير قادرة بمفردها على التموضع في قيادة النظام العالمي الجديد، إلا بقوتها العسكرية الهائلة وهذا غير كافٍ إلا بالتعاون مع الصين.
أما أوروبا التي تنتمي إلى الصنف الثالث، فيحاول الأميركيون على الاستمرار في تأديبها لتبقى ضمن نفوذهم من دون تذمر، وهم لا يستشعرون حالياً بخطر كبير من ناحيتها.
فهل هناك حرب مقبلة؟
قد يخدم الناخبون الأميركيون الاستقرار العالمي، إذا حرموا ترامب في تشرين الثاني المقبل، من التجديد لولاية رئاسية جديدة وأسقطوه، وهذا من مؤشرات القبول الأميركي بنظام دولي متعدد الأقطاب ومستقر.