د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
في حدث غير مسبوق في عالم الاستخبارات، تمّ تسريب تقرير وُصف بأنه “عالي السرّية”، يشير إلى قلق وكالة الاستخبارات المركزية، “سي آي إيه”، من تكبّدها خسائر بشرية ملموسة في صفوف العملاء/الجواسيس العاملين لمصلحتها، “قتلاً أو اختطافاً”، واكبه تعطّل منظومة شبكة “فيسبوك” وتوقفها عن العمل، عقب الكشف عن “اختراق بيانات خاصة لـ 1،5 مليار مستخدم بيعت تجارياً” (صحيفة “نيويورك تايمز”، 5 تشرين الأول/اكتوبر 2021).
المعالجة الجادة للنبأ “المتواصل” ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي المتسلسل للثغرات والهزّات التي تعرضت لها الجهود الاستخباراتية الأميركية، في العقدين الماضيين، للخروج بتحليل أدق لتبعات الحدث، وبنتائج موازية، بعيداً عن التهميش أو التقليل من قدرات الآخرين، دولاً ومنظمات مناوئة للسياسات الأميركية، وفق ما جاء في المذكرة الداخلية للوكالة بأنها تعرضت “للوثوق المفرط بمصادرها، وأخطاء في تقييم قدرات الخصوم”.
لعل أهمية الربط الجدلي بين مذكرة الوكالة وحادثة “فيسبوك” تكمن في طبيعة البيانات الخاصة المتوافرة مجاناً وتسخيرها في خدمة أغراض تجسّسية، وما منصة “فيسبوك” إلا إحدى الأدوات المعتمد عليها استخباراياً، وتعرّضها للاختراق أو لعطل تقني يسري في سياق عدم الكشف عن بيانات محدّدة، أو الترويج لفقدانها، والإخلال بتحميل المسؤولية لأفراد أو أجهزة أو وكالات بعينها.
جدير بالذكر، تقرير كاشف نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، في 20 أيار/مايو 2017، أوضحت فيه تعرض الاستخبارات الأميركية لصفعة “صدمة وترويع”، بعدما “استطاعت الصين شلّ عمليات الاستخبارات الأميركية على أراضيها في العام 2010، ما أسفر عن مقتل أو سجن 18 جاسوساً أميركياً دفعة واحدة، مع نهاية عام 2012”.
جاء التقرير المذكور في أعقاب نجاح قراصنة إلكترونيين في الدخول إلى بيانات شبكة الاتصالات السرّية لوكالة الاستخبارات المركزية، “كوفكوم CovCom”، عام 2010، وكشفوا هويات “العديد من مجندي ومخبري الوكالة في الصين”.
وفي عام 2011، اعتقلت باكستان خلية من خمسة مخبرين عملوا لمصلحة “سي آي إيه” في الكشف عن مكان إقامة أسامة بن لادن.
كما أقرّ جهاز الاستخبارات العسكرية الأميركية بـ “انشقاق” الضابط في سلاح الجو، السيدة مونيكا إلفريده ويت Monica Elfriede Witt، وفرارها إلى إيران في العام 2019، وتوفيرها معلومات حساسة للأجهزة الإيرانية عن هوية وعمل شبكات التجسس هناك.
وفي العام عينه، 2019، أدين الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، جيري تشن شينغ لي، بتهمة التجسّس لحساب الصين، وحُكم عليه بالسجن 19 عاماً، وأدّت بياناته المقدمة إلى “اعدام الصين ما لا يقل عن 20 عميلاً” لمصلحة الاستخبارات الأميركية.
تبذل أجهزة الاستخبارات مسمياتها وانتماءاتها كافة جهوداً مضنية، وتوفر إمكانيات عالية في متابعة وجود عملاء داخلها والتحقق من اختراق صفوفها، وخصوصاً في الطواقم القيادية. الأجهزة الأميركية ليست استثناء لتلك القاعدة، كما الآخرون أيضاً.
البيانات المتوافرة من قبل الأجهزة الأميركية، تشير إلى نجاح جهودها في الكشف عن “عميل مزروع” في قمة هرمها الاستخباري، وألقت القبض على رئيس قسم مكافحة التجسّس السوفياتي في وكالة الاستخبارات المركزية كان يعمل لمصلحة الاستخبارات السوفياتية آنذاك، “ألدريج إيمس”، في العام 1994، بعد مطاردة بدأت منذ عام 1986، ما اسفر عن اعتقال وإعدام عدد كبير من عملاء الوكالة في الاتحاد السوفياتي. التحقيقات اللاحقة أشارت إلى احتمال وجود عميل آخر “مزروع” في رأس هرم الوكالة، لم يكشف النقاب عن هويته “طيلة أربعة عقود” منذئذ. وأكّد تلك الفرضية المسؤول السابق في الوكالة، ميلتون بيردن، بالجزم أنه “لا يزال على اقتناع تام بوجود عميل رابع وربما خامس” في طاقم الوكالة القيادي، عقب الكشف عن إيمس (العميلان الآخران هما روبرت هانسن وإدوارد هاوارد).
بيان وكالة الاستخبارات المركزية، المنشور في صحيفة “نيويورك تايمز”، ذكر تعميمه للمذكرة الداخلية على جميع محطات عمل الوكالة في العالم، لكن المسألة تنطوي على ما هو أبعد من ذلك، وخصوصاً في شق إقرارها بتوافر الإمكانيات التقنية للأجهزة المعادية و”استخدامها للتقنية الحديثة مثل المسح البيومتري وبرامج التعرّف على الوجوه والذكاء الاصطناعي وأساليب القرصنة الإلكترونية”.
وأضافت مذكرة الوكالة أن “أجهزة استخبارات الدول الأخصام للولايات المتحدة، مثل روسيا والصين وإيران، إضافة إلى باكستان، تلاحق مصادر/عملاء السي آي إيه، وفي بعض الأحيان تحوّلهم إلى عملاء مزدوجين”.
في سياق ما تقدم أعلاه، من الجائز أنّ سعي وكالة الاستخبارات المركزية لنشر بعض “أسرارها”، عبر وسيلة صحفية موثوق بها، ودرجت على تعاونها التام معها، لم يأتِ بهدف الكشف فحسب، بل ربما للتغطية أو للتمويه على عجزها عن التيقن من وجود “عميل مزروع” داخلها، استشعرت خطورته بعد مقتل أعداد أكبر من الجواسيس، مما تسبّب به “ألدريج إيمس”، وكذلك لاحتواء التبعات السياسية المحتملة.
براءة أم نكد التوقيت
أحجمت وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي عن الامتثال لقرار الكونغرس بإفراج الجهازين عن وثائق وسجلات تحقيق تتعلق باغتيال الرئيس الأسبق جون كنيدي مع نهاية عام 2017، وطالبا الكونغرس بتمديد المهلة الزمنية مراراً وتكراراً، قبل ذلك التاريخ وبعده. وأخطر الكونغرس مسؤولو الجهازين، مرة أخرى، بتسليم ما تبقّى لديهما من وثائق لجهاز الأرشيف الوطني قبل يوم الـ 26 من تشرين الأول/اكتوبر 2021.
تشير بيانات الأرشيف الوطني إلى نحو “16،000 وثيقة” لا تزال محجوبة عن التداول، كلياً أو جزئياً، بعد انقضاء 60 عاماً على مقتل كنيدي، وصدور قرار الكونغرس بعنوان “قرار تجميع بيانات اغتيال الرئيس جون أف كنيدي” عام 1992.
اللافت أن الرئيس السابق دونالد ترامب تعهّد رسمياً بالكشف عن جميع سجلات التحقيق في الاغتيال، وعدل عن قراره “فجأة” عشية التاريخ المعلن يوم الـ 26 من تشرين الأول/اكتوبر 2017، ممدّداً المهلة الزمنية 6 أشهر إضافية، تحت ضغط “مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو”، كما هو شائع.
السؤال البديهي هو “لماذا” يتهرّب مسؤولو جهازي الاستخبارات، الداخلية والخارجية، من توفير أي وثائق أو بيانات بحوزتهما، ولا نجد آذاناً صاغية، أو تفسيرات منطقية؟ أما دور الكونغرس غير المعلن، فهو عدم إحراج المنفّذين الحقيقيين لعملية الاغتيال، والتي تردّد بقوة منذئذ بأن “سي آي إيه” و “أف بي آي” ضالعان في العملية، خصوصاً لإصرارهما المتعمّد على عدم التعاون أو الكشف عن سجلات التحقيق لأيّ كان، على الرغم من النصوص الدستورية، بعكس ذلك تحت بند “حرية التحقق من أداء الأجهزة الحكومية”.
عند الأخذ بعين الاعتبار عامل “بيانات التحقيق في اغتيال الرئيس كنيدي”، لتفسير “ما وراء” حائط كشف وكالة الاستخبارات المركزية عن وثائق تمّ نشرها في وسائل الإعلام بصورة متناثرة، يقترب المرء من جذر المسألة التي بين أيدينا. ولا نزعم امتلاكنا لمعلومات خاصة في هذا الشأن، بل استناداً إلى الحقائق المعلنة والمنشورة، والإفادات الشخصية لبعض الأطراف المعنية.
الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، دوغلاس لندن، أوضح لعدد من الوسائل الإعلامية أن تركيز الهرم القيادي للوكالة على “العمل السرّي والعمليات شبه العسكرية (الخاصة) قوّض جهود التجسس التقليدي، وهناك حالات من الحمق والإهمال”، معتبراً بيان الوكالة تحذيراً علنياً لمحطاتها المنتشرة في العالم لتركيز جهودها على “الأمن ومكافحة التجسّس”.
كبار مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية دائمو الحضور في أروقة الكونغرس ولجانه المتخصصة في الشؤون الاستخبارية والأمن القومي، لكن من النادر أن ترافق ذلك الحضور مساءلة حقيقية أو مجرد انتقاد لأداء الوكالة، بل تضمن المصادقة على ميزانياتها ببنودها السرّية بصورة دائمة. تغيّر شخصيات الكونغرس، لأسباب انتخابية أو لقرارات شخصية، لا يرافقه تغيير أو تعديل في عمل الوكالة، فهي الجهاز الدائم في المشهد السياسي والنظام الأميركي، والمخوّلة تقديم التقارير والمعلومات السريّة لصناع القرار، الذين يدركون طبيعة المعادلة القائمة بينهما، تبعية السياسي للأجهزة الاستخبارية.
استطاعت الوكالة إعادة إنتاج دورها التقليدي، أمام أعضاء الكونغرس، بالكشف عن بعض النواقص في الأداء البشري، وعودتها إلى تجنيد العامل البشري كمهمة مركزية، وتحشيده خلف سردية الثنائي “الصين وروسيا” كأبرز تهديد ماثل أمام نفوذ الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم، وتوظيف ميزانيات متواصلة لحرب باردة جديدة ضد أعدائها.
وأعلنت وكالة الاستخبارات المركزية، عقب نشر تقرير صحيفة “نيويورك تايمز”، على لسان مديرها وليم بيرنز، استحداثها قسماً متخصصاً في الشؤون الصينية، بهدف “تعزيز العمل الجماعي لأهم تهديد جيوسياسي نواجهه في القرن الحادي والعشرين: حكومة صينية معادية بشكل متزايد”.
بالتوازي مع ذلك، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن إنشاء “وحدة خاصة في البنتاغون لتقييم تهديد بكين العسكري، والرد عليه” في شهر تموز/يوليو الماضي.
إذن، الحرب “الباردة” تعدّ على نار حامية، انتصاراً لمعسكر أنصار الحروب في المؤسسة السياسية والاستخبارية الأميركية، وصرف نظر الجمهور عن الخسائر التي تكبّدتها مؤخراً في أفغانستان، أو تخبّطها في إدارة ملفات حساسة حتى مع الحلفاء، وفرنسا كانت آخر الأمثلة. كما تلحظ دوريات صحافية أميركية في مقالات متعددة، مؤخراً، استغرابها مصحوباً بالإنتقادات لبايدن وطاقمه للأمن القومي، لأدائهم الضعيف على المسرح الدولي، رغم الخبرة الواسعة التي يفترض أنه يمتلكها على صعيد السياسة الخارجية.
.
رابط المصدر: