مسلم عباس
يقول افلاطون اننا في المسائل التافهة مثل صناعة الاحذية نعتمد على المختص لصنعها لنا، اما في السياسة فاننا نفترض ان كل شخص يقدر على احراز الاصوات يستطيع ادارة المدينة او الولاية. عندما نصاب بالمرض فاننا ندعو لمعالجتنا طبيبا اخصائيا حصل على شهادة بعد دراسة خاصة وكفاءة فنية، ولا ندعو في هذه الحال اوسم طبيب، او اكثر الاطباء فصاحة، وعندما تصاب الدولة كلها بالمرض الا يجدر بنا ان نبحث عن افضل الرجال واحكمهم؟ وان نعمل على ايجاد وسيلة لمنع عدم الكفاءة والمكر من الوصول الى المناصب العامة، ونختار ونعد افضل الرجال ليحكموا لمصلحة الجميع.
يتحدث افلاطون عن ضرورة ان تكون السياسة تخصصا لا ان تقوم على احراز اكبر عدد من اصوات الشعب، وعلى السياسي ان يكون عارفا بالعمل الذي يقوم به لمصلحة الشعب لا ان يكون مداهنا وماكرا فقط في كسب الاصوات، وهي فكرة ينبذ افلاطون من خلالها النظام الديمقراطي، لكونه يعتقد ان طريقة وصول الحكام الى مناصبهم لا تصب في مصلحة المجتمع، وتسمح بصعود غير الكفوئين، وربما هذه المشكلة الازلية الابدية للديمقراطية، لكننا في بلداننا العربية قد تجاوزناها وقبلنا بصعود غير كفوء لكنه من اختيار الشعب، بعد ان تذوقنا مرارة حكم غير الكفوء والديكتاتوري معا والذي يبقى جاثما على الشعب فترات طويلة ياخذ البلاد فيها الى الخراب.
بمعنى اننا اليوم نجد ما يحدث في العراق على سبيل المثال انجازا رغم الحقيقة المؤلمة للديمقراطية العرجاء، في هذا النظام الجديد لم نستبدل الحكام الطغاة بحكام سفهاء لكنهم من اختيار الشعب وحسب، بل ابقينا المنظومة بكاملها، بقيت السياسة نفسها، والادارة نفسها، والقوانين تشرع ولا تنفذ، مثلما كان الحاكم الطاغية يعين اي شخص في اي مكان، نجد اليوم اي شخص يمكن ان يحصل على اي وظيفة اذا كان مقربا من السلطة، فرغم اننا نملك عددا كبيرا من الجامعات، وفيها عدد اكبر من التخصصات، تعلم طلبتها كيف يمارسون اختصاصهم بكل دقة واتقان، الا ان هذه التخصصات لا معنى لها، بل باتت بعض التخصصات غير محترمة اصلا، خذ على سبيل المثال اهم هذه التخصصات، وهو “الادارة” فرغم ان مشكلة العراق ادارية في اغلبها، الا ان هذا التخصص انخفض تصنيفه من كونه ضمن كليات الصفوة الى الكليات العادية او ما دون ذلك.
لا يستطيع خريج الادارة في العراق ان يجد وظيفة في القطاعات الحكومية، الا اذا امتلك علاقات قوية مع احد الاحزاب، لان ابناء الحزب وجيرانهم واصدقائهم هم وحدهم من يمتلكون حق الوصول الى تلك الوظائف المحورية، لان الحزب الذي يحصل على شعبية كبيرة يمكنه ان يحصل على مقاعد اكبر في البرلمان، ومن ثم اقتطاع جزء من وزارات الدولة لصالحه، وعددا من المدراء العامين وحاشيتهم، كل أولئك لا ينظر الى شهادتهم الجامعية وهل لديهم تخصص في مجال الادارة ام لا؟ المهم انهم من ضمن حصة الحزب.
اذا كان قطاع الادارة يعاني من ازمة حقيقة منذ سنوات فلا يمكن ان يحله الانتهازيون واقطاعيات الاحزاب، ومثلما لا يمكن ان يداوي المرضى سوى الطبيب لا يمكن كذلك للادارة ان تعالج الا من خلال اهل الاختصاص، وان يتم الارتقاء اولا بكليات الادارة وان تكون موازية لكليات الطب والهندسة، وان تخضع هذه الكليات الى معايير صارمة في التدريس، لتخرج لنا جيلا يستطيع ادارة الدولة العراقية، اما البقاء على سفهاء الاحزاب، فانك تاخذ المريض الى شخص غير مختص لانه يتمتع بنوع من الجاه الاجتماعي، هذا لا يداويه لكنه يقنعك انه سوف يداويه، وقد ينتشر المرض ويعدي من حوله دون ان تدري.
هل نستطيع ان نتخيل كليات الادارة فيها من الصرامة العلمية مثلما موجود في الطب، او في المعاهد القضائية، ربما هذه الاخيرة هي الاكثر شبها بالادارة، فالقضاء هو الذي يحفظ الحدود بين السلطات، وكذلك الحدود بين المواطنين انفسهم، اليست الادارة تقوم بهذا العمل؟ اليس المدير هو قاضٍ يقوم بتطبيق القانون بكل حيادية، لكنه قاضٍ من نوع اخر، فهو بالاضافة الى كونه مستقلا وعادلا فهو يعرف جميع اسرار المهنة التي يتواجد فيها، وهو الحاكم الفعلي والمنفذ وهو الذي يصدر الاوامر الى من هم اقل منه مرتبة ادارية.
هذه ليست دعوة مثالية، ولا هي دعوة لمدينة افلاطونية، نحن نريد ان توضع الامور في نصابها الطبيعي التقليدي، فقد دمرت الفوضى هذا البلد، واقتربنا كثيرا من شريعة الغاب، واذا لم نستطع الانتباه والالتفاف بعيدا عن المسار السابق فنحن ذاهبون الى الخراب الاكبر، حيث العشوائية هي السمة البارزة، والغلبة للاقوى، او الاكثر التصاقا باصحاب المصالح الخارجية الذين يستطيعون تحريك الاساطيل من اجل رئيس خلعه الشعب، او الاستيلاء على منطقة طالب اهلها بان تكون حرة بعيدة عن كل اشكال العبودية الى الانتهازيين.
رابط المصدر: