في مقال سابق، تساءلت: هل خسرت الاحزاب الاسلامية الشيعية السلطة؟ وكان جوابي: لا انها لم تخسر السلطة، انما خسرت المنصب. ولم يكن هذا الجواب كافيا، فقد فتح الباب امام ثلاثة اسئلة اخرى هي: لماذا فقدت الاحزاب الاسلامية الشيعية المنصب؟ وهل من الممكن او المحتمل ان تخسر السلطة؟ وما العمل حينها؟
كان السؤال الاساسي والاسئلة الثلاثة الاخرى موضوع نقاش في بعض المجموعات على الواتساب والنقاش المباشر مع بعض الاصدقاء مثل الشاعر نزار حاتم والدبلوماسي محمد حسن الموسوي والكاتب اللامع عمار البغدادي.
ومن الضروري ان اوضح ان هناك فرقا بين فقدان المنصب وبين فقدان ثقة الشعب، رغم وجود ترابط بين الامرين؛ لكن اسباب فقدان المنصب تختلف عن اسباب فقدان ثقة الشعب. ولن ناقش في هذا المقال المسألة الثانية. المادة (76) من الدستور بينت الية الاستحواذ على منصب رئيس مجلس الوزراء حينما نصت في الفقرة الاولى منها على ما يلي: “يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الاكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”.
وبموجب هذه المادة، فان على الحزب الطامع بالفوز بحق الترشيح ان يكون صاحب كتلة برلمانية اكثر عددا من غيرها، وهذا حساب نسبي، لان الدستور لم يحدد الحد الادنى المطلوب للرقم كما فعل الدستور البريطاني غير المكتوب. والحد الادنى البريطاني هو نصف عدد اعضاء البرلمان +واحد.
وهذا ما لم يرد في الدستور العراقي. وهذا هو احد عيوب الدستور. وهكذا فان اي حزب لديه من النواب عدد اكثر من غيره من الاحزاب، حتى لو كان ٥٦ عضوا (على سبيل المثال)، قد يملك هو حق الترشيح، لان المشهد الحزبي العراقي غير قادر على انتاج احزاب كبيرة. وقد بينت في مقالات سابقة ان الاحزاب العراقية اما احزاب متوسطة الحجم، من حيث عدد نوابها في البرلمان، او صغيرة، او صغيرة جدا، او مجهرية لا تكاد ترى بالعين المجردة، فضلا عن الاحزاب الشخصية (الفردية) والموسمية.
وهذا عيب اخر من عيوب التأسيس، وربما من عيوب المجتمع السياسي في العراق. ولما كان مرشح الحزب “الاكثر عددا” في مجلس النواب بحاجة الى الاغلبية المطلقة لتمرير وزارته، اي نصف عدد اعضاء البرلمان زائدا واحد (١٦٥)، حسب الفقرة الرابعة من المادة ٧٦ من الدستور، فان على هذا الحزب ان يشكل تحالفا نيابيا يضمن له الفوز. ولما كانت المحاصصة الطائفية تقضي بان يكون رئيس مجلس الوزراء شيعيا، فان التحالف النيابي المأمول يجب ان يكون شيعيا، وبذلك يكتمل التقسيم الطائفي-العرقي للبرلمان: التحالف الشيعي، التحالف السني، التحالف الكردي.
وغني عن القول ان هذه التحالفات المؤسسة على اساس المكونات وليس على اساس المواطنة والبرامج السياسية ابعد ما تكون عن جوهر الحياة الديمقراطية ومواصفات الدولة الحضارية الحديثة. وهذا ما جرت عليه العادة بعد كل انتخابات تشريعية، حيث تشكل الاحزاب الشيعية الفائزة كتلة نيابية فضفافة هشة على طريقة اللصق وليس على طريقة الاندماج، لتقديم مرشح شيعي متفق عليه لتولي منصب رئيس مجلس الوزراء.
وبهذه الطريقة حافظت الاحزاب الشيعية على المنصب. هذا التقليد السياسي نصف الدستوري-نصف العرفي انفرط عقده بعد انتخابات عام ٢٠١٨، لان الاحزاب الشيعية لم تستطع الاتفاق فيما بينها على تشكيل الكتلة النيابية الاكثر عددا، وهكذا لم يتم ترشيح عادل عبد المهدي من قبل الكتلة النيابية الاكثر عددا، لانها لم تعد موجودة، وتم الاستعاضة عنها باتفاق بعض “امراء السياسة”، وبعض البعض غير منتخبين، على شخص عادل عبد المهدي بوصفه اهون الشرين! وكانت هذه هي المرحلة الثانية في مسيرة خسارة المنصب، حيث كانت الاولى في عام ٢٠١٤ حين صعد حيدر العبادي الى منصة رئاسة مجلس الوزراء بالطريقة المعروفة. وحين وصلنا الى عام ٢٠٢٠، كان الزمام قد فلت من ايدي الاحزاب الشيعية، جزئيا بسبب التظاهرات، وجزئيا بسبب تفاقم خلافاتها.
ولم يعد امر ترشيح رئيس مجلس الوزراء منوطا او محصورا بها. وهذا هو الذي يفسر سبب خسارتها للمنصب: فقد بلغت خلافاتها درجة اصبح من المتعذر معها اتفاقها على ترشيح رجل من بين صفوفها لتولي المنصب. بلغت الاحزاب الشيعية من التمزق والضعف الى درجة لا تستطيع معها تقديم احد اشخاصها لتولي المنصب الاثير. وهكذا جاء مصطفى الكاظمي، وبغض النظر عن شخصيته، فهو ليس مرشح الاحزاب الشيعية المشاركة في السلطة. وفي نقاش بيني وبين الصديق الشاعر نزار حاتم قال:”ان الصراع فيما بين الاحزاب الشيعية من اجل مصالح فئوية ضيقة” هو الذي ادى الى خسارتها للمنصب.
واني اتفق في ذلك مع نزار الذي يضيف اسبابا اخرى لخسارة “رأس الهرم الحكومي” كما قال منها: “عدم النجاح في التعاطي السياسي على الصعيد الدولي والاقليمي، و الاخفاق في انجاز مشروع وطني واضح المعالم والاهداف، و الاستغراق في وهم السلطة كما لو كانت دائمة، و الانشطارات بين القوى الشيعية بسبب الانانية ومجانبة مصالح الجمهور”. واذا كانت هذه الاحزاب تخجل من الاعتراف بهذه الحقيقة، المرة بالنسبة لها، فان التاريخ سوف يخجل من عدم ذكرها، لانها واضحة كالشمس في رابعة النهار. وبذا نجيب عن السؤال الاول. لكن هذه الاحزاب مازالت في السلطة، ولذا يطرح السؤال الثاني نفسه: هل من المحتمل ان تفقد السلطة ايضا؟ اليا، في بلد يشهد انتخابات دورية، فان البقاء في السلطة يعتمد على الفوز بالانتخابات، والفوز بالانتخابات يتوقف، من بين امور اخرى، على مشاركة الناخبين، وعلى ثقتهم بمرشحي الاحزاب الشيعية.
لذا لا يمكن ان احكم من الان على نتائج اية انتخابات مقبلة، لكن الانطباعات العامة قد لا تبشر بالخير بالنسبة للاحزاب الشيعية. لا يمكن نكران القول ان التظاهرات الاحتجاجية قد لا تمثل رأي اغلبية الناخبين، لكن انتشارها في المحافظات الشيعية حصريا يؤشر الى حالة عدم رضا الجمهور الشيعي عن حكامه الشيعة. وقد ينعكس عدم الرضا انتخابيا في المرة القادمة، لكن مثل هذه النتيجة تحتاج الى مقدمات اخرى قبل ان تتحقق.
وليس من وظيفة هذا المقال الحديث عن المقدمات المطلوبة لفوز بدائل الاحزاب الشيعية المشاركة بالسلطة، او لبقائها فيها. لكن القدر المتيقن ان المزاج الانتخابي في العراق وغيره متقلب ولا يمكن استباقه والتنبوء به لفترات طويلة. غير ان الصديق محمد الموسوي يرى ان “الخسارة الكبرى” التي خسرتها الاحزاب الشيعية “هي “ثقة قواعدهم الشعبية، وثقة المرجعية العليا”. وان صح هذا الحكم فهو يحمل بين طياته توقع خسارة انتخابية، وبالتالي خسارة للسلطة ايضا. والسؤال الاخير: ما العمل؟ ليس من وظيفتي تقديم النصح واقتراح الخطط في هذا المجال، لكني اقول بصورة عامة ان كل القوى السياسية العراقية امام خيارين هما: اما الاستمرار في سلطة المكونات التي خسرت فيها الاحزاب الشيعية حصتها المفترضة، او التوجه نحو بناء دولة المواطنة، وهذه هي الدولة الحضارية الحديثة، التي لا يخسر فيها أحد.
رابط المصدر: