علي عاطف
في 25 أغسطس 2021، أعلنت حكومة المحافظين الجديدة آنذاك في إيران عن تعيين “سيد إسماعيل خطيب” وزيرًا للاستخبارات. وكان اختيار حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي له بمثابة مؤشر يحمل دلالات عدة فيما يتعلق بمآلات الصراع الاستخباراتي الإيراني مع بعض الدول المعنية، والذي لا تنحصر ميادينه بالضرورة خارج إيران، بل في داخلها قبل كل شيء.
وعند البحث في سوابق خطيب العلمية، سندرك أنه يختلف نسبيًا عن أسلافه الذين ترأّسوا هذه الوزارة قبله. فعلى الرغم من اشتراكه معهم فيما يخص الدراسة الدينية والتتلمذ على يد مراجع معروفة من بينهم المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، إلا أن خطيب قد عمل قبل تنصيبه هذا مسؤولًا في جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري. بل كان خطيب في طليعة مسؤولي استخبارات الحرس بعد تأسيسه في بدايات ثمانينيات القرن الماضي.
إن تولّي خطيب جاء في أعقاب انتقادات محلية شديدة، حتى من جانب مسؤولين وشخصيات بارزة إيرانية من بينهم الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، إثر فشل أجهزة الاستخبارات الإيرانية في التصدي لبعض العمليات التي تمت في الداخل، مثل العملية الشهيرة التي سرقت خلالها ملفات ضخمة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني في يناير 2018، والتي وصفت حينها بـ”غير المسبوقة”.
وتنم هذه العملية حقًا عما يبدو اختراقًا واضحًا في مجال الأمن الاستخباراتي الإيراني، حتى أن رئيس “الموساد” الإسرائيلي السابق يوسي كوهين قد كشف في يونيو 2021 عن أن أرشيف البرنامج النووي الإيراني قد وصل إلى إسرائيل رقميًا قبل مغادرة العملاء لمقر العملية في العاصمة طهران نفسها. وليست هذه العملية وحدها هي الكاشفة لمدى الاختراق الأمني في إيران من قبل إسرائيل، فقد مثل استهداف العالم النووي الإيراني السابق محسن فخري زاده في نوفمبر 2020، بعد أشهر من مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، دليلًا آخر جديدًا على حجم ذلك الاختراق.
وعلى أي حال، نجد أن هناك رابطًا ما بين تعيين إسماعيل خطيب وزيرًا للاستخبارات في طهران وتنفيذ هذه العمليات الأمنية داخل إيران من قبل جهات خارجية وتلك الانتقادات التي أشار إليها كبار المسؤولين في ذلك البلد. حيث إن ذلك التنصيب قد نحسبه دليلًا على رغبة النظام الإيراني في تطوير قدراته الاستخباراتية وتعزيزها أو تلافي أخطاء الماضي، خاصة وأن المحافظين الذين يسيطرون بالأساس على الجهات الاستخباراتية في إيران أصبحوا منذ أغسطس الماضي على رأس أركان الدولة الإيرانية، من سلطة تشريعية إلى قضائية إلى تنفيذية.
وبالتزامن مع ذلك، نجد أن الدعوات داخل إيران لتعزيز القدرات الاستخباراتية صاحبتها- ولا تزال- مطالبات بما يسمونه “الانتقام” من منفذي العمليات الاستخباراتية التي تمت داخل إيران، وحتى خارجها ضد إيرانيين خلال السنوات القليلة الماضية والتي أشير إلى بعضها، وعلى رأسهم إسرائيل. كما أن بعض الدوائر المتشددة داخل إيران لا تزال تنادي في هذا الإطار بـ”الانتقام” لمقتل سليماني في 3 يناير 2020.
أما من جانب آخر، فإن بعض المتشددين في طهران يرون أن رد الفعل الاستخباراتي الإيراني بهذا الشكل قد يبعث برسائل ردع للاستخبارات الأجنبية المتنفذة داخل إيران، كما يرى بعضهم الآخر أنها “انتقامية” فقط. ولهذا، فقد أثيرت بعض المخاوف لدى بعض دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة من إمكانية إقدام النظام في طهران على تنفيذ اعتداءات ضد أعضاء الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، ولذلك طالب بعض السياسيين الأمريكيين بتعزيز إجراءات الحماية لهذه الشخصيات على وجه التحديد، علاوة على القيام بالأمر ذاته بشأن السياسيين الحاليين؛ في ظل استمرار مخاطر قيام إيران باستهدافهم. وما قد يزيد هذا الأمر خطورة هو افتقاد بعض أجهزة الأمن في إيران للتنسيق بين بعضهم البعض، أو ربما للمنافسة بين بعضهم البعض. وقد تأتي مثل هذه الخطوات الإيرانية في إطار الرد على بعض العمليات الاستخباراتية الأجنبية وكذلك في إطار محاولات “الردع الاستخباراتي” الإيراني.
كيف طورت الاستخبارات الإيرانية مؤخرًا بعض طرق عملها
أظهرت عدة عمليات أخيرة للاستخبارات الإيرانية، على اختلاف مسمياتها، في الخارج إدخال تطويرات على بعض طرق العمل. فحتى سنوات قريبة مضت، كان المعمول به هو قيام عناصر “إيرانية” من الاستخبارات الإيرانية بتنفيذ المهمة المطلوبة على أرض الميدان باستخدام طرق تقليدية مثل إطلاق النار على الهدف. ومن بين هذه الأمثلة، تجيء محاولة الدبلوماسي الإيراني السابق في النمسا أسد الله أسدي تفجير اجتماع لمنظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة في باريس والتي تصنفها إيران إرهابية، حيث اعتقل على إثرها في يونيو 2018.
أما مؤخرًا، فإن بعض العمليات التي أُحبِطت أو أُعلن عنها تُظهر أن الاستخبارات الإيرانية قد حاولت تغيير بعض طرق عملها، ومن بين هذه العمليات:
أ-عمليات اعتقال دولية معقدة:
عملت الاستخبارات الإيرانية خلال السنوات القليلة الماضية على اختطاف معارضين من بلدان مختلفة من خلال استدراجهم تدريجيًا إلى إيران. وكان من بين أبرز هذه العمليات اختطاف الصحفي الإيراني “روح الله زم” في عملية نوعية دولية معقدة.
فقد تم استدراجه من فرنسا إلى الأردن ثم إلى العراق فإيران. وحسبما نُشر، فقد تم إيهام زم برغبة بعض الشخصيات في العراق في دعمه إعلاميًا، حتى وصل بالفعل إلى هناك في النصف الثاني من عام 2019، ثم جرى نقله إلى إيران ومحاكمته أمام محكمة الثورة التي قضت بإعدامه، لينفذ الحكم في ديسمبر 2020.
ب-الاستعانة بعناصر معارضة للنظام لتنفيذ عمليات في الخارج:
أعلن القضاء الأمريكي في يوليو من العام الماضي توجيه اتهام إلى أربعة “عملاء للاستخبارات الإيرانية” بالتآمر لخطف صحفية أمريكية شهيرة من أصول إيرانية، اتضح لاحقًا أنها “مسيح علي نجاد”.
إن الأمر اللافت في هذه العملية أن الاستخبارات الإيرانية حاولت توظيف “معارض” للنظام في طهران للتجسس على نجاد في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة. فقد خطط الإيرانيون لنقل مسيح علي نجاد من نيويورك إلى فنزويلا عن طريق البحر ثم في النهاية لإيران، وكان ذلك بمساعدة من إيرانية مقيمة في الولايات المتحدة تُدعى “نيلوفر بهادري فر”.
ولم تكن فر ذات علاقة وثيقة بشؤون السياسة بوجه عام، حيث كانت تعمل لدى شركة فرنسية تختص بمستلزمات التجميل، إلا أنها عملت على تقديم الدعم المالي للعملاء الإيرانيين الأربعة (المُشار إليهم في الصورة أعلاه) والذين خططوا لاختطاف مسيح علي نجاد. وفي المقابل، تم إرسال مبلغ 472 ألف دولار إلى حساب نيلوفر البنكي.
ج- توظيف التنافس داخل هيكل الجماعات المعارضة:
تعمل الاستخبارات الإيرانية على توظيف الاختلافات بين الجماعات المعارضة في الخارج أو بين أفراد الجماعة الواحدة من أجل تنفيذ مهامها ضد بعض الأفراد أو الشخصيات الأخرى. حيث تستفيد وزارة الاستخبارات الإيرانية من هذه الدوافع الشخصية وتختار عميلًا لها على هذا النحو ثم تمده بالمال.
وعلى سبيل المثال، دفعت إيران 226 ألف يورو إلى الإيراني “مهرداد عارفاني” من أجل رصد تحركات عناصر “مجاهدي خلق”، حيث تورط في قضية “أسد الله أسدي” المذكورة آنفًا. وكان عارفاني من مؤيدي “مجاهدي خلق” بالأساس إلا أنه أسند إليه مهمة رقابة هذه التحركات. ولذلك، فقد ألقت الشرطة الفرنسية في 30 يونيو 2018 القبض عليه ورحّلته إلى بلجيكا في 20 يوليو من العام نفسه.
استجواب الموساد عميلًا في الداخل الإيراني يثير قلق رفقاء ترامب
بثّت قناة “إيران إنترناشيونال” منذ أيام أخبارًا تفيد بقيام “الموساد” الإسرائيلي بإحباط خطة إيرانية لاستهداف ثلاث شخصيات أجنبية خارج إيران. وحسب ما نشرته أيضًا وسائل إعلام إسرائيلية، فإن الخطة التي تبنتها على ما يبدو (الوحدة 840) في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني قد اشتملت على قتل دبلوماسي إسرائيلي في تركيا وجنرال أمريكي في ألمانيا وصحفي آخر في فرنسا.
ونشرت بعض وسائل الإعلام في إسرائيل ملفًا صوتيًا يفيد بأن “عناصر منظمة الاستخبارات والعمليات الخاصة في إسرائيل، الموساد، اعتقلت واستجوبت منصور رسولي العنصر التابع لقوة فيلق القدس الإيراني داخل إيران، حيث كان يخطط لاغتيال 3 أشخاص”.
وأضافت هذه التقارير أن عضوًا آخر في الوحدة (840) بـ”فيلق القدس”، وهو معتقل الآن في إحدى الدول الأوروبية، قد أقر بمشاركته في الإعداد لهذه العملية الواسعة وأنه تلقى 150 ألف دولار في البداية وسيحصل على مليون دولار أخرى بعد الانتهاء من العملية.
لقد جاء الإعلان عن هذا الاستجواب الإسرائيلي في الداخل الإيراني في وقت ترفض فيه الولايات المتحدة رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية؛ لأسباب عدة من بينها الأمنية، ما قد يجعل واشنطن مُصرة بشكل أكبر على هذا الرفض. وقد أتى الإعلان أيضًا في وقت تعزز فيه الولايات المتحدة، علاوة على إسرائيل، من إجراءات حمايتها لأتباعها خشية استهداف شخصيات بعينها من جانب إيران. ومن بين أبرز هذه الشخصيات سياسيون في إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مثل وزير خارجيته مايك بومبيو.
لذا، فإننا نجد في هذا الصدد وزير الخارجية الأمريكي الحالي أنتوني بلينكن يحذر منذ أيام، خلال جلسة للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، من “التهديد المستمر” من قِبل طهران ضد المسؤولين الأمريكيين السابقين بل والحاليين أيضًا. فقد وجّه النواب الأمريكيون سؤالًا لبلينكن خلال الاجتماع حول ما إذا كان الحرس الثوري الإيراني يخطط لقتل مايك بومبيو أو أحد أعضاء الإدارة الأمريكية السابقة أم لا، فرد بلينكن قائلًا إن “التهديد المستمر ضد المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين قائمٌ”. وأكد بلينكن على أن أحد أهم الرسائل التي بُعثت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المسؤولين في إيران كانت تركز على “ضرورة أن تتوقفوا عن استهداف مواطنينا”.
وعليه، فإن التخطيط لاستهداف جنرال أمريكي، كما اتضح من استجواب الموساد لعنصر إيراني في إيران، يزيد المخاوف في الوقت الحالي من إمكانية استهداف سياسيين أمريكيين آخرين، سواء سابقين أو حاليين، خاصة لأنه يتزامن مع مواصلة بعض المتشددين في إيران الدعوة لـ”الانتقام” لمقتل سليماني. وقد يتركز الخطر بشكل أكبر حول مسؤولي إدارة ترامب السابقة؛ نظرًا لأن عددًا من العمليات الناجحة الموجهة ضد إيران قد تمت في عهدها من بينها مقتل قاسم سليماني.
.
رابط المصدر: