مصطفى ملا هذال
يحرص ابو محمد الذي تقدم به العمر كثيرا على مشاهدة نشرات الأخبار على رأس كل ساعة، وكعادته يتصفح التلفاز باحثا عن الأخبار المهمة والأكثر قربا من اهتمامه، ابو محمد الطاعن في السن وذو الشعر الأشيب يود الجلوس لوحده بعيدا عن ضوضاء البيت الممتلئ بالأحفاد.
بعدما انتهى المذيع من قراءة عناوين النشرة المتعلقة بالأمور السياسية والجوانب الاقتصادية، اكمل وصولا الى العنوان الأخير الذي يبين عملية قتل رجل لابنته التي لا تتجاوز الربيع الخامس، قطب ابا محمد حاجبيه وتسمر في مكانه…
وكاد ان تتوقف انفاسه لهول ما سمع، اصابه الهلع والدوران معا! سقط جهاز التحكم من يده التي أخذت ترتجف اشبه بسعفة النخيل، لم تمض سوى دقائق معدودة على سماعه الخبر المشؤم، خرج من غرفته التي اصبحت كزنزانته المسجون فيها حينا من الدهر، خرج والشحوب يملئ وجهه المتجعد، هطلت دموعه حين رأى احفاده يلعبون في باحة المنزل المتهالك، الذي هاجمته الشقوق من كل الجوانب.
رفع رأسه نحو السماء طالبا المغفرة لمن قتل ابنته، حال ابا محمد لا يختلف عن الملايين من البشر الذين يسمعون بشكل دوري قيام احد الآباء بقتل واحد من فلذات أكبادهم، اذ اصبحت هذه المشاهد تتكرر بشكل اشبه باليومي، والأسباب المؤدية لمثل هذه الأفعال معروفة ومشخصة بشكل جيد من قبل المختصين.
العراق من البلدان التي عانت كثيرا من الحروب التي انهكت بناه التحتية والنظم الاقتصادية والاجتماعية، ما ادى الى جعل الأفراد يعانون من اختيار الاسلوب الأمثل للتخلص من آثار الحرب والتدهور الذي استمر من ثمانينيات القرن المنصرم ولغاية اليوم.
هذه البيئة تعد من اكثر الظروف ملائمة لتنامي بعض الظواهر غير المقبولة اجتماعيا، ومن بينها ظاهرة قتل الآباء للابناء التي تضاعفت في الحقبة الزمنية المذكورة، نتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية وانعكاساتها على الجوانب النفسية لكلا الطرفين، فمن غير المعقول ان يقدم احد على قتل ولده ما لم يكن وصل مرحلة اللاعودة في اتخاذ القرار مهما كانت التبعات والعواقب.
لم تكن عملية قتل الآباء والأمهات لأطفالهم، من الظواهر حديثة العهد، فقد كان العرب قبل ظهور الإسلام يقتلون ابنائهم وتحديدا البنات بحجة الفقر، وهذا ما عمل على إيقافه الدين الإسلامي الحنيف حين أنذرت الآية الكريمة من يقدم على هذه الفعلة وقالت، (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31).
وهذا يعني انها ظاهرة عالمية، ضاربة بجذورها في عمق المجتمعات البشرية، ففي مدينة الإسكندرية بمصر قامت أحدى الأمهات بشنق طفلتها، وذهب ام أخرى الى رمي طفليها في بحر يوسف بالمنيا، وألقى أحد الآباء بطفليه في نيل الدقهلية. وتذكر الصحافة المصرية أن إحدى الأمهات قامت بقتل طفلتها (13 سنة) لانخفاض مستواها الدراسي.
كما الحال يتشابه مع ذلك تماما في أميركا، فقد أجريت دراسات على مدى ثلاثة عقود (1976 – 2007)، أفادت أن هذه الحوادث تكررت 500 مرة في العام الواحد؛ وأن ثلاثة ارباع الضحايا كانوا أقل من ست سنوات، وربعهم بعمر أقل من عام.
وتبيّن أيضاً، أن نسبة 57.4% قُتلوا على يد الآباء، و42.6% قُتلوا على يد الأمهات. وفي دراسة شملت انكلترا وويلز (2013) أفادت بأن 40% من القتلة كانت لديهم مشاكل في الصحة النفسية. وفي أستراليا أفادت دراسة لمعهد الجريمة الأسترالي بأنه يتم قتل طفل واحد كل أسبوعين، مضيفة بأن 27% من الآباء القتلة قتلوا أنفسهم بعد فعلتهم هذه، والحال يشبه ما ذكرنا في معظم المجتمعات البشرية.
لو أجرينا بحثا مبسطا يمكن العثور على سببين رئيسين وراء انتشار هذه الظاهرة، السبب الأول: هو إصابة الأب او الأم الذي قام بقتل أطفاله بالاضطرابات النفسية او خلل عقلي دفعه لمثل هذا التصرف الذي ينم عن عدم المقدرة على التحكم بالغضب والانفعالات الذاتية.
اما السبب الآخر: يعود الى مزيج مجموعة من العوامل، يأتي في مقدمتها سوء الحالة الاقتصادية، والمحيط الأسري الذي يعيش فيه الفرد، والمنظومة الاجتماعية التي نشأ فيها، الى جانب النظام السياسي الذي يحكم بالبلد، وما يفرضه على المواطنين من تضييق كبير يدفعهم اللجوء لمثل هذه الممارسات.
لا توجد صعوبة في التخلص من هذه الظاهرة، لاسيما وان الحلول جاهزة وتنتظر من يفعلها بشكل سليم، ومن الأشياء الواجب الالتفات اليها هو إعطاء القوانين الوضعية حرية اكثر لإيقاف مثل هذه التصرفات، فمن يعرف هنالك عقوبات صارمة بانتظاره يتوقف عن الفعل وقد لا يفكر فيه مطلقا.
بالاضافة الى زيادة الاعتماد على المؤسسات التربوية لأخذ دورها في المجتمع، الى جانب منظمات المجتمع المعنية بالجوانب الأسرية، كل هذه الجهود تسهم في تقليل هذه الأفعال التي لا تنطبق والتعاليم السماوية التي تريد ان يكون المجتمع خال من الأشياء التي تربك الاستقرار والأمن المجتمعي.