الشيخ الحسين أحمد كريمو
مقدمة
كل مَنْ درس أو اطلع على المولد النبوي الشريف يجده أنه رافقه عدد من المعجزات التي نمر عليها مرور المسلمات، وننبهر بها ونتركها ونمضي عنها لأننا نعتبرها من المعجزات والخوارق لعالم الطبيعة والمادة، وكأنها لا تعنينا إلا بما يُعزز فينا إيماننا ويقوي محبتنا وارتباطنا بهذا المولود المكرَّم والقادم المعظم، شاكرين الله على هذه النعمة الكبرى علينا.
معجزات المولد الشريف
ذكر العلماء والمؤرخون، وأرباب السير أنه في ذلك اليوم العظيم (17 ربيع الأول من عام الفيل)، شهد أشياء ومظاهر عظيمة لم يعهدوها حتى قَالَتْ قُرَيْشٌ: (هَذَا قِيَامُ السَّاعَةِ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُ أَهْلَ الْكُتُبِ يَذْكُرُونَهُ)، فيذكرون أنه وقعت أربعة عشر معجزة عظيمة، داخل مكة وخارجها، وظواهر طبيعية واجتماعية وأخرى كونية تتعلق بالنظام العام للكون، وحسب عقيدتنا أنه لا يوجد صدفة في هذا الكون بل حكمة من الحكيم الحميد هي التي تسيِّرنا ولكن قد تخفى علينا نحن البشر فنظن أنها صدفة جرت، ومن تلك المعجزات المشهودات كان:
1- النور والهداية تعمُّ الكون
أولى المعجزات كانت من الأم العظيمة حيث قَالَتْ آمِنَةُ: إِنَّ ابْنِي وَاللَّهِ سَقَطَ فَاتَّقَى الْأَرْضَ بِيَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسَمِعْتُ فِي الضَّوْءِ قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّكِ قَدْ وَلَدْتِ سَيِّدَ النَّاسِ فَسَمِّيهِ مُحَمَّداً.. وَانْتَشَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نُورٌ مِنْ قِبَلِ الْحِجَازِ ثُمَّ اسْتَطَارَ حَتَّى بَلَغَ الْمَشْرِقَ (المَغربَ).
فهل هذا إلا بشارة عظيمة بعموم النور الكاشف للحقائق العلمية والاجتماعية وهي تُشير إلى أن هذا المولود المبارك سيكون عصره عصر التفجر العلمي وبدء الحضارة الإنسانية على أسس علمية وستعمُّ العالم بأسره، كما أنه سيطرد الجهل والجاهلية التي تفتك بالبشرية ويبني لها صرحها العلمي فينتقل بها من الظلمات إلى النور، ومن الضلال والغواية إلى الرشاد والهداية؟
2- عموم التوحيد الخالص لله
يقال أنه: (وَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ كُلُّهَا صَبِيحَةَ وُلِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لَيْسَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَهُوَ مُنْكَبٌّ عَلَى وَجْهِهِ.. وَخَمَدَتْ نِيرَانُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ).
ألا يعني ذلك أن هذا المولود يأذن للبشرية بولادة دين جديد يستكمل ويُكمل كل رسالات السماء يتمحور على التوحيد، الذي يشكل رأس القيم وأساس الحضارة الراقية، لأن الشرك ظلم عظيم للخالق والمخلوق في نفس الوقت، فالولادة المحمدية المباركة أذان بسحق كل معبود وضرب كل طاغوت يُعبد من دون الله سبحانه، لأن ذلك خروج عن الفطرة والعقل والإنسانية، فالمعبود هو الله المستحق للعبادة شكراً لخلقه ورزقه وذاته المستكملة لصفات الجمال والجلال، ولذا كل معبود يُلقى على وجهه في الدنيا، وفي نار جهنم يوم القيامة، قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) (الفرقان: 18)
3- عموم الخيرات والبركات
وظهر من المظاهر الطبيعية غير المعهودة أنه: (غَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ.. وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ).
والعجيب أن بحيرة ساوة (وهي بحيرة مغلقة ذات ماء مالح تقع في محافظة المثنى، جنوب العراق على بعد عدة كيلومترات من مدينة السماوة مركز المحافظة)، في جنوب العراق هي ربما البحيرة الوحيدة التي يكون ماءها مالحاً كماء البحر، فأين ذهب ماءها، كما أن وادي السماوة فاض بماء عذب هو دلالة على عموم الخير في الأرض لا سيما أرض الخيرات والبركات والرافدين.
4- سقوط الطغاة والحكام الظلمة
ومن الظواهر الاجتماعية الكبرى سقوط دول الشر والطغيان والتكبر والتجبر فيها: (لَمْ يَبْقَ سَرِيرٌ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا إِلَّا أَصْبَحَ مَنْكُوساً، وَالْمَلِكُ مُخْرِساً لَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَهُ ذَلِكَ).
وكمثال واقعي حدث يومها: (وَارْتَجَسَ (الاضطراب والتزلزل) فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِيْوَانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً.. وَانْقَصَمَ طَاقُ (قصر) الْمَلِكِ كِسْرَى مِنْ وَسَطِهِ.. وَانْخَرَقَتْ عَلَيْهِ دِجْلَةُ الْعَوْرَاءِ)، لأنه (يُروى أن كسرى كان سكَّر جزء من نهر دجلة وبنى عليها قصراً، ولذلك وصفوا دجلة في تلك المنطقة بالعوراء لأنه طُمَّ بعضه وظهر البناء وفي يوم المولد الشريف انخرقت عليه المنطقة وانهدم القصر).
أليس ذلك من أعظم المعجزات الإلهية والنعم الربانية على البشرية بأن يقلب تلك الكراسي، ويُنكِّس تلك الرؤوس والتيجان، ويُسقط تلك التيجان التي أُخذت من أموال وحقوق الفقراء، ويُدمِّر تلك القصور التي بُنيت على جماجم وأشلاء الشعوب والبسطاء منها بالخصوص؟ فهؤلاء الفراعنة الجبارون الذين اتخذوا مال الله دولاً بينهم وعباده خولاً يذبحون الرجال ويستخدمون النساء والأطفال في خدمتهم، فالخلاص منهم سيكون أعظم هدية للبشرية وهذا ما أشار إليه المولد النبوي الشريف في تلك الليلة.
5- إبطال السحر والكهانة
من أهم القضايا الاجتماعية أيضاً أن يُبنى المجتمع البشري على الحقائق لا الدجل والسحر والقيافة والكهانة وغيرها من أدوات الشعوذة في الجاهلية، ولذا: (وَانْتُزِعَ عِلْمُ الْكَهَنَةِ.. وَبَطَلَ سِحْرُ السَّحَرَةِ.. وَلَمْ تَبْقَ كَاهِنَةٌ فِي الْعَرَبِ إِلَّا حُجِبَتْ عَنْ صَاحِبِهَا.. وَرَأَى الْمُؤْبَذَانُ (قاضي القضاة للمجوس) فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْمَنَامِ إِبِلًا صِعَاباً تَقُودُ خَيْلًا عِرَاباً قَدْ قُطِعَتْ دِجْلَةُ وَانْسَرَبَتْ فِي بِلَادِهِمْ).
فالحقيقة التاريخية والاجتماعية تقول: أن المجتمعات المتخلفة والمتأخرة يكثر فيها الشعوذة وأعمال الدجالون من السحر، والكهانة، والمندل، وقراءة الفنجان، والكف، والرمل وغيرها من الطرق والأساليب التي يمارسها الدجالون والكذبة للسيطرة على عقول الناس وبالتالي التأثير بهم لسرقتهم والاستيلاء على أموالهم وأنفسهم في كثير من الأحيان.
وأما المجتمعات العلمية والفكرية والعقلية والحضارية فإنها تعتمد على المنطق والعلم في حياتها وليس على الدجل والكذب والتخمين، وقراءة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وتسخير الأرواح والجن لمعرفة ما يجهلونه، فعندما ولد الحبيب المصطفى وظهرت تلك المعجزات الحضارية كان من المحتَّم والطبيعي أن يبشرهم بانتهاء عهد الشعوذة الدجل وانتقالهم إلى عصر العلم والتقدم والتطور ببركة آيات القرآن الحكيم، وسنة الرسول العظيم الذي فجَّر ينابيع العلم والفهم في أمته ليقودوا العالم إلى بحبوحة التقدم العلمي والتطور الحضاري.
وربما من ذلك ما روته بعض المصادر أيضاً أنها من بركات ومعجزات المولد النبوي الشريف كان حجب الشياطين عن استراق السمع من الملائكة في السماوات المختلفة، فلقد حُجب إبليس عن السموات السبع، فكان إبليس – لعنه الله – يخترق السماوات السبع ، فلما وُلد عيسى (عليه السلام) حُجب عن ثلاث سماوات، وكان يخترق أربع سماوات، فلما وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في تلك الليلة حُجب عن السماوات السبع كلها ورميتْ الشياطين بالنجوم، ونأخذها كاملة من الإمام الراحل السيد الشيرازي (رحمه الله) حيث يروي ويقول: (وفي يوم مولد النبي (ص) صاح إبليس (لعنه الله) في أبالسته فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟
فقال لهم: ويلكم لقد أنكرتُ السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رُفع عيسى بن مريم (ع)، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث؟
فافترقوا ثم اجتمعوا إليه، فقالوا: ما وجدنا شيئاً.
فقال إبليس (لعنه الله): أنا لهذا الأمر.. ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم، فوجد الحرم محفوظاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصر ـ وهو العصفور ـ فدخل من قبل حِرى.
فقال لـه جبرئيل (ع): وراك لعنك الله)، أي إرجع إلى الوراء.
فقال لـه: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟
فقال له: وُلد محمد (ص).
فقال له: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا.
قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيتُ. (من حياة النبي محمد (ص): ص12، عن البحار)
إبليس الرجيم ليس له على عباد الله المخلَصين طريق ولا يد لأنهم من المعصومين المكرَّمين، وأما البشر العاديين الذين هم من أمة الحبيب المصطفى (ص) فهو مسلَّط عليهم، بل ويجري مجرى الدم في عروقهم، ولكن سلطته بالتزيين، والوسوسة، والإغراء بالمعصية، والعمل بالباطل، وهذا ديدنه وما يُرضيه بحيث يخطف البصار ويسيطر على القوب فيتبعه البشر في خطواته التي تؤدي إلى جهنم وبئس المصير والعياذ بالله.
الاحتفال بالمولد الشريف
إن الاهتمام والتحضير للاحتفال والاحتفاء بالمولد الشريف هذا بحد ذاته مطلوب ومرغوب وربما واجب علينا تجاه رسول الله محمد (ص) الذي نفتخر بالانتساب إليه، وإلى رسالته الراقية، ودينه الكامل، ودعوته الشاملة، ولكن ما أُفكر به اليوم وفي هذا العصر العلمي والتقني والمتطور جداً في التقنية والصناعات الرقمية الهائلة الإمكانيات، الذي بهر العيون بلمعانه وسلب العقول بمنجزاته وراح الناس يخرجون من دين الله أفواجاً، ظناً منهم أنهم ليسوا بحاجة إلى رسول ورسالة السماء، بل ولا حتى للرب سبحانه وتعالى، فقد قتلوا الإله منذ زمن التنوير، ثم قتلوا الإنسان في مرحلة التحرير الكامل من القيم والمثل العليا، فما أحوج العالم والإنسانية للتعرف على هذا الرسول العظيم، والنبي الكريم (ص) في سيرته وسُنته، وكل ما يرتبط فيه لأنه سيكون المنقذ لهم والذي يُخرجهم مجدداً من الظلمات إلى النور، ومن حضن الشيطان، إلى ساحة قدس الرحمن.
طغيان الجاهلية الرقمية
فما أشبه اليوم بالأمس البعيد، حيث كانت الجاهلية الجهلاء تُخيم على الحياة الاجتماعية في كل العالم في حينها، رغم وجود إمبراطوريات كبيرة وعملاقة، كالفارسية في الشرق، والرومانية في الشمال والغرب، إلا أنها كانت على أشدها في الجزيرة العربية، وقلبها مكة المكرمة، حيث البيت العتيق، ومحج الخلق ومركز عبادتهم، وتجارتهم، ومعاشهم، وأسواقهم، وأدبهم ومعلقاتهم، ولكنهم كانوا لا يجيدون القراءة والكتابة فيحفظون الخطب والأشعار عن ظهر قلب، ولذا انتشر فيهم الجهل والتخلف وتولدت لديهم الطبقات الاجتماعية المبنية على أسس العصبية، والقبلية، ويحكمها القوة والمال.
فترى المجتمع الجاهلي مؤلف من طبقة الكبراء من السادة والطغاة من أصحاب المال والجاه الذين يسيطرون على الآخرين فيسرقون منهم جهدهم وحياتهم ويستعبدونهم فتجد الفرق كبيراً جداً والمسافة شاسعة بين الفقير والغني، وبين السيد والعبد، وهذا ما نراه اليوم ولكن بشكل متناسب مع الحضارة الرقمية، فكم لدينا من الأفراد الذين يملكون المليارات، والمليارات من البشر الذين لا يملكون قوت يومهم، ولا سكن ولباس عيالهم؟ وإمبراطور دولة الشر والعولمة يُريد أن يفرض نفسه وثقافته وكل ما لديه من تفاهات وشذوذ ومياعة على شعوب العالم بالقوة ويأخذ منهم ما يُريد لأنه الأقوى، فلديه الآلاف من الرؤوس النووية، وعنده الأسطول السادس، الذي يجوب البحار ويوزع الموت والدمار في كل مكان لا يرضخ لإرادته.
فالجاهلية اليوم عادت وبقوة إلى المجتمعات الإنسانية، وراح الضلال عن الحق، والظلم والظلام يلفُّ العالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه، فما أحوجنا إلى ذلك النور الأنور، والنبي الأطهر أن يولد فينا ليُعيد لنا الأمل بالنور والهداية والرشاد، فقد ضقنا ذرعاً بما نعيشه من الظلم والجور.
.
رابط المصدر: