في مارس 2021، وقّعت إيران والصين اتفاقًا استراتيجيًا لمدة 25 عامًا شملت بنودُه خططًا طويلة المدى للتعاون في مجالات متعددة. ومن بين أبرز هذه المجالات جاء النفط والغاز ومشاريع للبنى التحتية والنقل والطاقة والموانئ أيضًا. لقد وصف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية في التاريخ نفسه هذه الاتفاقية الشاملة مع بكين بأنها تمثل “خارطة طريق متكاملة وذات أبعاد اقتصادية وسياسية”؛ إذ إن هذه الاتفاقية تنطوي أيضًا على تعاون وتبادل عسكري.
وكانت أولى إرهاصات هذه الاتفاقية تعود إلى زيارةٍ قام بها الرئيس الصيني، شي جين بينج، إلى إيران في 2016، حيث تم وضع أسس هذا الاتفاق خلال الفترة التالية وصولًا إلى التوقيع عليه في مارس الماضي كما سبقت الإشارة. وبدأ دخول هذا الاتفاق الصيني الإيراني حيّز التنفيذ منذ أيام قلائل، وتحديدًا في 15 يناير 2022.
وتزامن بدء تنفيذ بنود الاتفاقية الإيرانية الصينية مع زيارة أخرى مهمة لمدة يومين قام بها الرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي، إلى العاصمة الروسية موسكو وبدأها الاربعاء الماضي 19 يناير. لقد سعت إيران من وراء زيارة “رئيسي” لموسكو إلى التوصل أيضًا إلى عقد اتفاق مشابه مع الأخيرة على غرار الاتفاق مع الصين، ولكن لمدة 20 عامًا. وأكدت الزيارة تطلع الطرفين لتحقيق هذه الرؤى؛ إذ إن مسؤولين من البلدين قالوا إن صيغة الاتفاق جاهزة بالفعل. وأوضح الرئيس “رئيسي” في إطار زيارته وخلال اجتماعه مع رجال الأعمال الروس في موسكو أنه جارٍ الانتهاء من وثيقة الاتفاق الاستراتيجي الشامل.
وقد وقعت طهران وموسكو اتفاقات أخرى على هامش الزيارة بعضها سوف يقود إلى توقيع عقود في القريب العاجل على حد قول وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، بعد لقائه بوزير الطاقة الروسي نيكولاي شولجينوف. ولكن هذه الاتفاقات وغيرها ترمي في النهاية إلى التوصل للاتفاق الاستراتيجي الشامل الذي لا ينطوى فقط على تعاون اقتصادي، بل وعسكري وسياسي على المستوى الإقليمي والدولي. إن وزير الخارجية الإيراني، أمير حسين عبد اللهيان، قد أوجز أبعاد هذه الزيارة إلى موسكو في قوله إنها “فصل جديد في العلاقات”.
وفي ظل هذه الخطوات الإيرانية إزاء الصين وروسيا، يبرز تساؤل مهم يحتاج إلى إجابة: “هل تُعد هذه الخطوات المُشار إليها منفصلة عن بعضها البعض؟، وما تأثيرها على مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية وخاصة ما يتعلق بالولايات المتحدة والغرب؟”.
“توجه نحو الشرق” أم إفلات من العقوبات؟
تتوافق رؤية “التوجه نحو الشرق” التي تتبناها حكومة الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي مع السياسة الاقتصادية الإيرانية الرامية إلى إبطال مفعول العقوبات الأمريكية والغربية والإفلات منها على المدى البعيد.
فمنذ الوهلة الأولى لتوليه الحكم في شهر أغسطس الماضي، أعلن الرئيس الإيراني عن عزمه إجراء تغييرات في مسار السياسة الخارجية الإيرانية، وذلك عن طريق التركيز على تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدول المحيطة بإيران والدول الواقعة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا بوجه عام.
وعلى الرغم من أن هذا التوجه ليس بجديد على السياسة الإيرانية منذ مجيء النظام الحالي عام 1979، إلا أنه يأخذ شكلًا أكثر جدية عما كان قد طرحه الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد (2005-2013). وعلى أي حال، فإن هذا التوجه يختلف بقدر ما عن نهج الحكومة الإصلاحية السابقة بزعامة حسن روحاني، التي وإن لم تعلن عن هذا التوجه، إلا أنها أيضًا هي التي توصلت إلى الاتفاق الاستراتيجي المعروف مع الصين العام السابق.
إن سياسة “التوجه نحو الشرق” التي تُرْجِمَت في انضمام إيران إلى منظمة “شانغهاي” وزيارات إبراهيم رئيسي إلى طاجيكستان (الدولة الأولى التي سافر إليها بعد توليه سدة الرئاسة) وأوزبكستان وروسيا مؤخرًا، تخدم بلا شك مسعىً إيرانيًا آخر يتمحور حول الإفلات من آثار العقوبات الأمريكية، خاصة وأن تلك العقوبات من غير المتوقع أن تنتهي في وقت قريب في ظل علاقات إيرانية متوترة مع الخارج.
إن إيران تطمح لأن تعوّض الاستثماراتُ الهائلة المنتظرة من جانب الصين وروسيا حاجتَها للاستثمارات القادمة من الغرب أو من دول أخرى، ما يعني الحد من آثار العقوبات الاقتصادية عليها. وقد أعلن وزير الخارجية أمير حسين عبد اللهيان صراحة عن عزم بلاده تحقيق هذا الهدف حينما قال، في إشارة إلى زيارة “رئيسي” لموسكو، إن “تنمية أوجه التعاون التجاري وتعزيز التعاون طويل المدى وإزالة العوائق والسعي لتحييد العقوبات الدولية، قد تم إدراجها على جدول الأعمال جديًا”.
ويقودنا هذا بالتالي إلى الحديث عن مستقبل الاتفاق النووي الذي تجري مباحثاته هذه الأيام في العاصمة النمساوية فيينا، إذ “هل سيكون ذا جدوى مستقبلية؟” و”ماذا إذا لم تلتزم إيران ببنوده لاحقًا لو أضحت العقوبات غير موثرة؟”. وبالطبع سنقول إن مثل هذا الأمر قد يعزز من احتمالات العمل العسكري ضد إيران، ولكن هذا الخيار بالأساس سيكون هو الآخر ذا مخاطر أكبر؛ في ظل وجود استثمارات اقتصادية ضخمة داخل إيران لدولتين كبيرتين وقويتين هما الصين وروسيا.
التحالف الرباعي: هل تعقد إيران اتفاقًا مماثلًا مع الهند؟
منذ التوقيع على الاتفاق الإيراني الصيني الشامل العام الماضي، بدت الجارة الهند قلقة بشأن استثماراتها داخل إيران، خاصة في ميناء “تشابهار” الواقع على خليج عمان والذي أبرم الطرفان اتفاقًا لتأجيره وتطوير جزء منه في فبراير 2018 بقيمة 85 مليون دولار أمريكي. ولم يتسبب هذا وحده في بروز مخاوف لدى نيودلهي، بل إن الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط وعزم الصين لملئه قد زاد من هذه المخاوف الهندية.
وعلاوة على ذلك، ترغب الهند في استمرار استيراد مصادر الطاقة من إيران والحفاظ على الأخيرة كممر هندي للوصول إلى الأسواق في أفغانستان وآسيا الوسطى، خاصة في ظل محاصرة بكين لنيودلهي بتحالف مع باكستان ونيبال وأفغانستان. ولذا، تنظر الهند بقلق إلى تعزيز الصين، الخصم المشترك للهند والولايات المتحدة، علاقاتها مع إيران. ولا عجب إذًا في قيام الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الهندي، نريندرا مودي، بزيارة العاصمة طهران في أشهر يناير ومايو من العام نفسه 2016.
ومن ناحية أخرى، لا يجب تجاهل التنافس الاقتصادي بين الهند وباكستان في إيران؛ إذ إنه يشكل سببًا آخر للقلق الهندي الذي يتفاقم عند النظر إلى طبيعة العلاقات الجيدة بين إسلام آباد وبكين ومصالحهما المتنامية في أفغانستان ما بعد سقوط كابول في أغسطس 2021.
أما إيران، فإنها لا ترغب في فقدان الاستثمارات الهندية وتدرك أن الهند مستثمر قوي، فهي من أكبر مشتري النفط الإيراني إلى جانب الصين وثالث أكبر مستورد للطاقة في العالم، وتربطها بإيران حتى في الوقت الحالي علاقات اقتصادية قوية للغاية سيصعب على طهران تعجيزها. وقد تحاول إيران في الوقت نفسه الاستفادة من هذا التنافس الاقتصادي القائم بالفعل والمتوقع ازدياد حدته خلال الأيام المقبلة في السوق الإيرانية بين الهند من ناحية والصين وباكستان من ناحية أخرى.
ولا ننس أن الهند تضم ثاني أكبر عدد من المسلمين الشيعة حول العالم بما يقارب 40 مليون نسمة. وهو يعني للحكومة الإيرانية الكثير على الناحية السياسية والاستراتيجية. وأخذًا في الحسبان اتفاق التعاون بين الهند وإيران أوائل العام 2018 واستثماراتها الكبرى في إيران وميناء تشابهار على وجه الخصوص، ومخاوف نيودلهي من استبعادها لاحقًا من السوق الإيرانية؛ فإن نيودلهي قد تسعى إلى تطوير ذلك الاتفاق أو “الاتفاقيات” المتعددة مع الجانب الإيراني لتتطور فيما بعد إلى اتفاق أكبر طويل المدى يشمل تعاونًا أوثق على أصعدة مختلفة، وذلك على غرار النموذجين الصيني والروسي.
وبهذا الشكل، يصبح لدينا تحالف اقتصادي رباعي بين موسكو وبكين ونيودلهي وطهران يأخذ شكل التحالف السياسي والعسكري أيضًا بين موسكو وطهران وبكين بشكل أكبر؛ نظرًا للتحالف الهندي الأمريكي والعداء بينها وبين الصين.
الاستنتاج
نخلص مما سبق أن الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى روسيا وانتهت أمس الخميس، كانت تمهيدًا للإعلان في المستقبل القريب عن اتفاق استراتيجي طويل الأمد بين موسكو وطهران تبلغ مدته 20 عامًا، وأن هذا الاتفاق لا يمكن فصله عن الاتفاق الإيراني الآخر الموقع مع الصين العام الماضي، علاوة على احتمالية توصل طهران إلى اتفاق مشابه مع الهند خلال الأعوام المقبلة، على الرغم من طبيعة العلاقات الهندية سواء مع حلفاء إيران أو خصومها.
إننا سنجد في هذه الحالة تحالفًا ما بين هذه الدول تستفيد جميعها منه على النواحي التجارية والاقتصادية، بجانب أنه سيحد بشكل كبير من آثار العقوبات الخارجية على إيران. وإن كان هذا الأمر الأخير يحمل في طياته أبعادًا أخرى بشأن مستقبل التعامل الأمريكي مع الحالة الإيرانية.
.
رابط المصدر: