لم يعد ممكناً تجاهل “اليسار الأميركي”

غسان زقطان

 

ثمة ما يشبه الإجماع على أن الخروج المزري لدونالد ترامب من البيت الأبيض لا يعني بالضرورة “الخلاص” من أثره في الحياة الأميركية وآثار السنوات الأربع من حكمه في النظام العالمي. لقد أحدث خلال تلك الفترة القصيرة ضرراً عميقاً، سواء في حياة الأميركيين، أم في القيم والمبادئ التي راكمها العالم واحتفى بها ويواصل السعي لتعزيزها.
البوق الذي نفخ فيه طوال أربع سنوات أيقظ الحركات الشعبوية في العالم ومنحها دفعة قوية على الأرض ومركزاً للقيادة وزعيماً، من الحليفة الأقرب بريطانيا الى شبه القارة الهندية والبرازيل والمجر وأوروبا الشرقية… والحركات الأكثر “عراقة” في فرنسا وألمانيا والنمسا …، انسحب هذا الضرر على علاقة البشرية بكل شيء تقريباً، المناخ والطبيعة والثقافة والاقتصاد والإيمان بقوة التنوع ومفهوم العدالة الإنسانية، ما ترك أثراً عميقاً ومتدحرجاً في مكانة الولايات المتحدة وتحكمها في غرفة قيادة العالم. هذا لا يعني بالطبع أن العالم كان قبل ترامب عالماً مثالياً، ولكن الحديث هنا عن السعي والتراكم والمناطق المشتركة التي اتفقت حولها الإنسانية بعد حربين عالميتين وعشرات ملايين الضحايا وقنبلتين نوييتين ألقيتا على عشرات الآلاف من البيوت وهدمتا مدينتين عريقتين، وهي بالمصادفة قنابل أميركية ألقتها طائرات أميركية بقرار من سياسيين أميركيين كانوا يعيشون في البيت نفسه الذي يرفض ترامب مغادرته، ويجلسون أمام المدفأة نفسها التي علق فوقها شاشة بمساحة 60 بوصة ليتابع القنوات الفضائية التي أعلنت فوز منافسه وخسارته.
قبل ذلك بزمن طويل، أطلقت قبائل الهنود الحمر على جورج واشنطن الذي أشرف على بناء “البيت” ولكنه لم يسكنه، لقب “هادم المدن”، بعدما هدم العديد من مدن القبائل الهندية الواقعة شمال البحيرات الكبرى، مدن الموهوك والكايوغا شمالاً حتى نهر الموهوك. قاد واشنطن زمناً طويلاً من القتل والإبادة، استطاع عبره تحطيم عالم من الجهد البشري، ما دفع زعيم قبيلة “الأيروكوا”  كومبلانتر ليخاطبه: “عندما يذكر اسمك، أيها السيد، تتلفت نساؤنا وراءهن بذعر، وتشحب وجوههن، ويتعلق أطفالنا بأعناق أمهاتهم”، كان ذلك عام 1792، السنة التي باشر فيها واشنطن بناء البيت الأبيض، البيت الذي لم يسكنه، البيت الذي لا يريد ترامب أن يغادره.
“ترامب” جاء من هناك، من نقطة عميقة تقع تحت سطح الأحاديث الطويلة عن الحقوق، من حفرة لم يجر ردمها ولكنها بقيت هناك تتنفس بانتظار الوقت الملائم لعودتها الى سطح الأرض، حيث تتخفى حفر كثيرة منذ إبادة السكان الأصليين تحت شعارات “أرض الميعاد”، في استعارة دموية من “العهد القديم”، الى تاريخ العبودية الطويل الذي يتنفس في أفكار “تفوّق العرق الأبيض”، وتجوّل سلاح الميليشيات في شوارع الغرب الأوسط. ائتلاف الإنجيلية الصهيونية والنيوليبرالية المنفلتة وهواجس العنصرية البيضاء أمام التنوّع وتداخل الثقافات وجدلها، ائتلاف عشوائي يقوده الجشع والخوف والخرافات.
ترامب كان الإشارة التي انتظرتها كل هذه الحفر والأخاديد في جسد أميركا لتعاود الظهور على السطح، وهو يعرف ذلك جيداً، وسيكون من الصعب ردمها ودفعها وإعادة تأهيلها، لقد منحته أكثر من سبعين مليون صوت.
ثمة تفسير تداوله نشطاء لـ”الهجوم” الذي يشنّه ترامب ضد فكرة خسارته، وتصعيد هذا الهجوم الى حواف الهاوية، وهو عادة ما يفعل ذلك، في أنه يفتتح حملته الانتخابية لعام 2024، إلا أن التفسير الأكثر قرباً لطريقة الرجل وسلوكياته هو بحثه عن صفقة تنقذه من أحداث اليوم التالي لتسليمه المفاتيح، فهو يعرف أن المطاردة ستبدأ مباشرة وأن ملفات كثيرة ستفتح ويعاد فتحها ونبشها، من الملف الضريبي الى شبهات الفساد واستثمار الموقع السياسي، وصولاً الى قضايا التحرش. لعل الطلب الذي قدمته الأغلبية الديموقراطية في مجلس النواب للبيت الأبيض بالحفاظ على “سجلات الرئيس” لمراجعتها، هو إشارة البدء لعملية المطاردة.
هو يعرف، أكثر من غيره، أن “المؤسسة” لن تكتفي بإخراجه وعائلته ومريديه من البيت الأبيض، يعرف جيداً أنهم سيحاولون القضاء عليه، وأن ممثلي المؤسسة في حزبه سيكونون ضمن فرقة المطاردة تلك. لهذا سيواصل قتاله في خندقه وبحمولة مضاعفة من الشراسة، ويواصل بناء أسيجة الدفاع من جهة، وتكريس نفسه كقائد شعبي مظلوم يمثّل أكثر من سبعين مليوناً من الأميركيين من جهة أخرى.
لقد توقع الكثير من المحللين “المعركة”، كان ذلك احتمالاً مرجحاً في حالة خسارة ترامب، ولكن معظمهم لم يتوقع الشراسة التي يخوض بها قتاله، وقدرته على التحكم بمراكز القوة في “الحزب الجمهوري”، حتى الآن على الأقل.
ربما لهذا يمكن النظر الى وصول بايدن وهاريس الى البيت الأبيض كرد فعل مدروس لـ”المؤسسة” الأميركية التقليدية للخلاص من الفوضى التي تسبّب بها تسلل هذه المجاميع بحمولاتها الى البيت الأبيض، وتحت الضوء نفسه يمكن فهم الدعم الذي أحيط به هذا الوصول من أجنحة الحزب الديموقراطي وتياراته، أوباما المحافظ الذكي وساندرز اليساري الشعبوي الذي أعلن أنه “لن يرفض وزارة العمل” لو عرضها عليه بايدن.
في المشهد الأوسع يمكن أيضاً القول إن ترامب وهو يوقظ  أسوأ ما في أميركا كان يوقظ، من دون قصد، أفضل ما في هذه البلاد، قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق النساء والإثنيات وثقافة التنوّع، الشعب الأميركي هو من حقق فوزاً على الفاشية بمظهرها الأميركي المعاصر، هكذا يمكن رؤية المشهد أيضاً.
ستنشغل إدارة بايدن طويلاً في تعزيز هذا الفوز داخل الولايات المتحدة قبل أن تنظر بثقة نحو العالم، وسيكون من الصعب على “المؤسسة” تجاهل الدور المؤثر الذي لعبه “اليسار الأميركي” في تحقيق كل ذلك، وهو تحوّل جديد سينعكس في سياسات الإدارة الديموقراطية، تحديداً في منظومة الحقوق المدنية وبرامج التأمين الاجتماعي والصحي والحد الأدنى من الأجور.
لم يعد ممكناً، وهذه إحدى النتائج الأساسية في انتخابات 2020، تحييد التيارات اليسارية التي تضاعف حضورها ونفوذها في قواعد الحزب الديموقراطي ومفاصله، وتكرار كارثة انتخابات 2016، عبر إبعاد بيرني ساندرز وتياره القوي لمصلحة ممثلة التقليديين هيلاري كلينتون، الكارثة التي وفّرت لترامب عربة الوصول الى البيت الأبيض.
الضربات التي تلقتها “القيم” الأميركية، التي طالما تغنّت بها هذه البلاد، كانت قوية، والندوب التي تركتها حقبة ترامب كانت عميقة.
سينتظر العالم، وهذا يشملنا، وقتاً أطول قبل وصول ورشة الترميم الى منطقتنا، سينشغل بايدن وفريقه بإعادة ترتيب البيت الداخلي وردم الحفر وإغلاق الشقوق وتفكيك الشاشة الضخمة فوق المدفأة، ثمة أولويات كثيرة على جدول الأعمال، أهمها، من دون شك، الحصول على المفاتيح والانتقال من الشارع الى الداخل.
ثمة وقت في الطرق ستتدفق فيه فوضى كثيرة.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M