ليبيا.. العودة إلى نقطة الصفر

عبد الستار حتيتة

 

حتى الصديق المقرب إليك يمكن أن يطعنك في الظهر، لهذا يتكهن البعض بأن ليبيا قد تعود إلى نقطة الصفر. يمكن البحث عن رئيس وزراء جديد، كبديل للمتنافسين الحاليين. أو هكذا تطمح أطراف محلية وإقليمية ودولية؛ أي أنها تخطط لليبيا عكس إرادة غالبية الليبيين، على ما يبدو!

الخوف من أن تخرج الأمور عن السيطرة؛ فالكثير من الليبيين غير مطمئنين لما سيكون عليه المستقبل، وقد قطع بعض منهم شوطًا كبيرًا في سبيل توحيد البلاد في حكومة واحدة. لكن للأسف، تعطل كل شيء الآن، وأصبحت رؤوس عدة تفكر في البدء من جديد.

تجري مناقشات في غرف إقليمية حاليًا لبحث أسماء أخرى لتقلد موقع السلطة التنفيذية في طرابلس، منهم ابن العاصمة، المهندس محمد المزوغي، وابن مصراتة، عضو المجلس الانتقالي السابق، محمد المنتصر. وكلاهما كان مرشحًا لرئاسة ليبيا في انتخابات 24 ديسمبر 2021 التي لم تتم.

وتجري مناقشات أيضًا عن وجود خشية من انقسام الدولة وتشظيها بأكثر مما هي عليه الآن! لكن ماذا حدث يوم 26 أغسطس 2022؟ لقد اشتعل فتيل معركة انتقامية بين اثنتين من ميليشيات رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة.

الميليشيا الأولى يرأسها عبد الغني الككلي، وهي ميليشيا تحظى برضا الدبيبة. بل يعتمد عليها في تأمين حكمه الذي يرفض التخلي عنه، في طرابلس. ويقع مقرها في وسط العاصمة، وبالتحديد قرب منطقة سوق الجمعة المكتظة بالسكان. والميليشيا الثانية يرأسها هيثم التاجوري، وهي ليست مصدر طمأنينة للدبيبة، ولا للحلف الإرهابي العابر للحدود الذي أصبح يعتمد عليه.

الدبيبة، بحلفه، كان يسعى منذ شهور إلى التخلص من التاجوري لأنه مزعج له ولمن معه من قادة التطرف، مثل زعيم الجماعة الليبية المقاتلة، عبد الحكيم بلحاج، والمفتي المعزول الصادق الغرياني. بل إن الدبيبة لديه اعتقاد بأن التاجوري أصبح في الفترة الأخيرة من أذرع منافسيه.

خطأ عسكري

كانت ميليشيا الككلي قد استولت على معسكر تابع للتاجوري، فقام الأخير يوم الجمعة الماضي بعملية انتقامية استعاد على إثرها معسكره، وتقدم لاحتلال معسكرات تابعة للككلي. وهنا بدأ الخطأ العسكري؛ فظهر أن تحركات مجموعة التاجوري الرعناء كانت مجرد حجة لكي يقوم الدبيبة عبر حلفائه المخلصين من ميليشيات ومتطرفين بالهجوم عليه وعلى المعسكرات الأخرى التابعة لميليشيات في طرابلس موالية لرئيس الحكومة المنتخب من البرلمان، فتحي باشاغا، أو هذا ما بدا للعيان.

لم يكن الدبيبة قد خطط لهذه العملية باستخدام ميليشيا الككلي فقط، بل ظهر أنه عقد اجتماعات قبلها مع قادة ميليشيات وقادة جماعات إرهابية؛ لكي يستولي على كل المعسكرات التي لا تدين له بالولاء، ومنها معسكرات التاجوري، ومعسكرات أسامة الجويلي، ومعسكرات مصطفى قدور، وغيرها.

الغريب أن وسائل إعلام كثيرة سارت على الموجة نفسها التي يريدها الدبيبة، دون إجراء التحري اللازم للدقة في مثل هذه المواقف، والقول بأن باشاغا كان يحاول دخول طرابلس، وفشل. بينما الحقيقة، أو على الأقل، ما يمكن قوله هنا، هو أن التاجوري لم يكن ضلعًا أساسيًا في حلف باشاغا، والمعسكرات التي يوجد فيها أنصار باشاغا فوجئت بأنها تتعرض للهجوم في ذلك اليوم، الجمعة، وبدأت في محاولة للدفاع عن نفسها، وهو دفاع اقترن بمحاولة يائسة للهجوم، بإمكانيات ضعيفة، على قوات الدبيبة.

ولأن خطة الدبيبة لتفريغ العاصمة من أي قوات معادية له كانت مدروسة، فقد تمكن من التنفيذ وتحقيق نتائج تؤهله للقول إنه انتصر على باشاغا، وعلى حلفائه، وأنه أصدر مذكرة بأسماء المتآمرين ضده للقبض عليهم وإحالتهم للمحاكمة!

طيران مسير

لا شك أن الدبيبة كان يراقب تزايد أنصار باشاغا داخل العاصمة وفيما حولها. لم يكن هو فقط من يراقب.. بل أيضًا أولئك الذين يسعون منذ زمن للانفراد بالعاصمة. فمَن كان يخطط، من البداية، هي تلك المجموعة التي يعتقد الدبيبة أنها موالية له؛ أي مجموعة قوات الردع ومجموعة قوات الككلي، ومجموعة قوات الجماعة المقاتلة، وغيرها. إن أمراء حرب الميليشيات في هذه المجموعات المتطرفة يريدون التخلص من كل الميليشيات الطرابلسية الأخرى التي ترفض الوجود الأجنبي في العاصمة، أو هكذا كان يفكر الدبيبة وبلحاج، والمفتي المعزول وغيرهم.

تفسر هذه النظرية دخول الطيران المُسيَّر المتمركز في قاعدة إمعيتيقة الجوية (مطار إمعيتيقة)، في الحرب، وقصفه للقوات التي يعتقد أنها محسوبة على باشاغا، سواء أكان ذلك صحيحًا أو لًا؛ فقد جرى استهداف قوات التاجوري، وقصف قوات الجويلي، وملاحقة قوات بوزريبة وقدور، ومنع قوات جحا من مواصلة العبور من مصراتة لتعضيد قوات باشاغا في طرابلس. فمن هي القوى الأجنبية القادرة على استخدام ترسانة الطيران المسير لضرب فريق من الليبيين يوم الجمعة الماضي؟

ما يفعله باشاغا

يسعى باشاغا إلى إدارة الدولة الليبية انطلاقًا من طرابلس، بيدَ أن العراقيل تبدو كبيرة. ولكي يتمكن من دخول طرابلس عليه أن يعيد حساباته، بعد ما جرى يوم 26 أغسطس. ويظن البعض أنه ما زال يعاني من وقع الصدمة والمباغتة التي استخدمها خصومه ضده. ليسوا خصومًا محليين بل إقليميين أيضًا. ويفكر باشاغا الآن، مع حلفائه، فيما يمكن عمله. لقد كان قاب قوسين أو أدنى من تسلم مهام عمله في العاصمة، وهو قام طيلة الشهور الماضية بتضييق الخناق على الدبيبة بالطرق السلمية، وبالتدريج.

حلف باشاغا السياسي والعسكري والاقتصادي كبير وواسع، وهو يمكّنه من اقتحام العاصمة، بشرط أن يكون هذه الحلف متماسكًا ونزيهًا ومتفاهمًا. إن إحدى نقاط ضعف باشاغا، على قوته، هو عدم التناغم بين قادة عسكريين أقوياء، سواء في مصراتة، مسقط رأسه، أو في جنوب طرابلس وغربها، أو في الشرق الليبي. وإذا قمنا بتكبير الأصوات التي تهمس من بعيد، فسيبدو أن بعض القوى المحلية، التي يعتقد أنها مؤيدة لخيار البرلمان، دخلت في ترتيبات مع الدبيبة من خلف ظهر باشاغا، ومن خلف ظهر البرلمان الذي انتخبه!

لهذا تتركز اتصالات باشاغا حاليًا على ضرورة إيجاد صيغة للعمل المشترك، والكشف عن أولئك الذين يريدون الاستمرار بالإمساك بالعصا من المنتصف، وهو أمر غير مطلوب في ظل التداعيات الحالية. مثلًا.. ما معنى أن تستمر تدفقات النفط والغاز من تحت قدميه، بينما الذي يستفيد من إيراداتها المالية هو الدبيبة، ويحاربه بها؟ يمكن تلخيص القول بأن باشاغا يسعى حاليًا إلى وضع الأمور في نصابها، ويمكن أن يحدث الأسوأ، وهو التلويح بالخروج من المشهد في حال ظل حلفه غير متماسك الأطراف!

تلاعب بالميليشيات

أخطأ الدبيبة، كما يرى البعض. ومع ذلك يظهر أنه ليس أمامه غير ارتكاب مزيد من الأخطاء. أو كما يقال: ماذا تنتظر ممن يضع يده في أيدي جماعات متطرفة، مثل الجماعة المقاتلة؟ بل ماذا تنتظر ممن حاك التحالفات في الغرف المظلمة للبقاء في السلطة، ولو بالدم؟

إن تركيبة الميليشيات المسلحة في العاصمة أصبحت من الأمور شديدة الحساسية. وكان الكثير منها ضد جماعة الإخوان، وضد الجماعة المقاتلة، وضد التنظيمات الإرهابية.. وكلها جماعات لها ارتباطات عابرة للحدود؛ أي أنها، في النهاية، لا ترى في ليبيا إلا بيت مال لأنشطتها الإقليمية والدولية.

بينما كانت باقي الميليشيات الطرابلسية (الوطنية، إن صح هذا التعبير)، ضد الوجود الأجنبي في طرابلس. وهذا لا يمنع من التذكير بأن كل تلك القوى المشار إليها حاربت في بعض الأحيان معًا.. مثلًا ضد الزنتان (2014) وضد الجيش الوطني (2019).

ويوجد اليوم متغير جديد، أو بالأحرى، يقوم الفريق الميليشياوي المتطرف والمنسجم مع بعض القوى الإقليمية بمحاولة طرد أولئك الذين يكرهون التدخل الأجنبي والقواعد الأجنبية في العاصمة. هل توجد قواعد عسكرية أجنبية في طرابلس؟ نعم، في قاعدة إمعيتيقة التي كان يخرج منها الطيران المسير في حرب يوم 26 أغسطس لضرب الفريق الميليشاوي الوطني (سواء أكان مواليًا لباشاغا أم لا).

اليوم، وبعد الحرب التي يقال إن باشاغا خسرها في طرابلس، أصبح يوجد داخل العاصمة الليبية اثنتان من الميليشيات القوية، وهما لا تلتقيان: الأولى برئاسة عبد الرؤوف كارا المتحصن مع الطيران المسير ومع القواعد الأجنبية في إمعيتيقة، والثانية برئاسة عبد الغني الككلي الذي يتمدد منذ شهور داخل العاصمة، بدعم من الدبيبة، انطلاقًا من منطقة أبو سليم.

لقد تحالفت ميليشيا كارا مع ميليشيا الككلي في حرب يوم الجمعة. واليوم تسعى إحداهما إلى ابتلاع الأخرى. بينما يعتقد الدبيبة أنه انتصر في الحرب، لكن يبدو الأمر مغايرًا؛ إن من انتصر هو القوى المتطرفة الموالية للأجنبي في ليبيا. وهي، في نهاية المطاف، لا يعجبها تمدد الككلي في طرابلس. لهذا يبدو أن الدبيبة كلما تقدم إلى الأمام، كلما اقترب من نهايته.

يمكنك أن تسمع في الوقت الراهن العسكريين الأجانب وهم يتجادلون حول الخرائط الحربية في قاعد إمعيتيقة. إنهم يحرضون كارا –الذي يبدو كالمغلوب على أمره- لكي يستعد لشن الحرب على الككلي، أي تحطيم أحد الأذرع القوية للدبيبة، والبحث عن خيار جديد، كرئيس للحكومة بدلًا عنه، وعن باشاغا أيضًا، أو هذا ما يدور في أروقة المتطرفين في العاصمة الليبية، إلى حين!

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72641/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M