محمد هيكل
اختار حزب المحافظين البريطاني وزيرة الخارجية البريطانية ماري إليزابيث تراس لمنصب رئيسة الوزراء البريطانية، لتكون بذلك ثالث سيدة تحوز المنصب الرفيع بعد كل من “المرأة الحديدية” مارجريت تاتشر وتيريزا ماي، ورابع رئيس وزراء عن حزب المحافظين منذ سيطرته على مجلس العموم في 2010.
يأتي اختيار تراس في وقت تمر فيه المملكة المتحدة بتحديات كبرى تتعلق بالاقتصاد والطاقة وتصحيح الأوضاع الداخلية، واستعادة المكانة الدولية بعد “البريكست”. لكن قبل الخوض في التحديات التي تنتظر رئيسة الوزراء الجديدة ذات الـ47 عامًا، كان من الضروري دراسة توجهاتها وخلفيتها لمعرفة أي السبل ستنتهج لحل الأزمات الداخلية، وكيف ستبني مواقفها الخارجية بالأخص في هذا التوقيت الذي يشهد تحولات عالمية حادة.
منذ بداية الأزمة السياسية في لندن هذا الصيف والتي أدت إلى استقالة بوريس جونسون، رأى المحللون والخبراء أن وزيرة الخارجية في حكومة جونسون ستكون المرشح الأكثر حظًا لنيل المنصب على الرغم من ترشح أسماء أخرى لها ثقلها في حزب المحافظين مثل تومي توجندات وبيني موردونت، بالإضافة إلى وزير الخزانة والمنافس الأشرس لها على المنصب ريشي سوناك.
الصعود داخل أروقة السياسة
تمكنت تراس خلال الـ 12 سنة الماضية من بناء اسمها داخل أروقة مجلس العموم البريطاني وصولًا لأن تشغل عددًا من الحقائب الوزارية في حكومات ديفيد كاميرون وتريزا ماي وأخيرًا بوريس جونسون الذي استقال بعد فضائح سياسية أدت إلى غضب أعضاء الحزب واستقالة عدد من الوزراء ما أجبره بنهاية المطاف على الاستقالة. وأمس، اختار “المحافظون” ليز تراس لإنهاء صيف بريطاني ساخن سياسيًا، لتبدأ مرحلة إعادة ترتيب الأوراق الضرورية لعبور المرحلة المقبلة.
درست تراس الفلسفة والسياسة والاقتصاد بكلية ميرتون بأوكسفورد، وشغلت عددًا من المناصب بالقطاع الخاص قبل أن تبدأ مغامرتها السياسية، حيث حازت منصب نائب مدير أحد أكبر الشركات التجارية البريطانية وعملت في مجال الطاقة والاتصالات، بالإضافة إلى خبرات عملية في مجالات الاقتصاد والعلاقات التجارية.
دخلت مجلس العموم البريطاني العام 2010 كنائبة عن دائرة جنوب غرب نورفلوك، وعُينت في سبتمبر 2012 وزيرة للتعليم ورعاية الأطفال. ومن يوليو 2014 إلى يوليو 2016، شغلت منصب وزيرة البيئة. وشغلت منصب وزيرة العدل من يونيو 2016 إلى يوليو 2017، ووزيرة الخزانة من يوليو 2017 إلى يونيو 2019، وعُيّنت في 15 سبتمبر 2019 وزيرة للمرأة والمساوة، ثم وزيرة للخارجية في 15 سبتمبر 2021.
توجهاتها
ليز تراس -التي ترأس حزب المحافظين الآن بعد فوزها على منافسها ريشي سوناك بنسبة 57% في تصويت أعضاء الحزب- لم تبدأ حياتها السياسية مع ذات الحزب؛ إذ كانت عضوًا بالحزب الليبرالي الديمقراطي، وهو حزب يساري وسطي، وكانت رئيسة اتحاد طلبة حزب الليبراليين الديمقراطيين بجامعة أوكسفورد خلال سنواتها الدراسية، وكان لها موقف رافض لاستمرار الملكية في بريطانيا وهو ما صرحت به خلال خطاب لها في مؤتمر لحزب اللبراليين الديمقراطيين العام 1994 في مدينة برايتون قالت فيه ” نحن الليبراليون الديمقراطيون نؤمن بأن الفرصة للجميع، لا نؤمن أن هناك من ولدو ليحكموا”.
عقب ذلك، انضمت إلى حزب المحافظين في 1996، وخلال انتخابات البريكست كانت ضمن المؤيدين للبقاء ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي، وكان لها دور في الحملة الانتخابية وكتبت مقالًا في صحيفة “ذا صن” وصفت فيه البريكست بـ “الكارثة الاقتصادية”، قبل أن تغير موقفها لتأييد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
وقد دعمت مساعدة بريطانيا أوكرانيا في الحرب، وأبدت موافقة على سفر مواطنين بريطانيين للمشاركة في الحرب الأوكرانية، قبل أن تتراجع على عن ذلك. وبسبب هذه التناقضات في المواقف تعرضت “ليز تراس” لانتقادات حول ما إذا كانت تتبنى المواقف الرابحة بغض النظر عن معتقداتها، فمواقفها المتناقضة تعبر عن تفضيلها لما تقتضيه المصلحة، وتشير إلى مرونة في المواقف، وبحسب وصف المقربين منها فإنها تحب الفوز مهما كلفها الأمر، وهو ما ربطه البعض بمواقفها المتناقضة.
وعن توجهاتها يقول زميلها السابق بجامعة أوكسفورد والمدير بوحدة دراسات السوق بمعهد العلاقات الاقتصادية مارك ليتلوود: “مسيرتها السياسية تعكس توجهاتها، دائمًا ما كانت متشككة للغاية في المؤسسات الحكومية الكبيرة وترى أنها تعرف أفضل منهم”. وعن تغييرها لانتمائها الحزبي يقول ليتلوود: “نوع من الحكمة منها، فهي استقلت السفينة التي ستوصلها لمبتغاها وهو النجاح في العمل السياسي”.
شاركت في كتاب ” فك القيود عن بريطانيا” مع 4 أعضاء من الحزب الذي أوصت فيه بسحب اللوائح التنظيمية الحكومية بهدف تعزيز مكانة بريطانيا العالمية، مما جعلها أحد أهم المدافعين عن سياسات السوق الحرة في الحزب.
الطالبة ماري إليزابيث تراس خلال خطابها الذي عبرت فيه عن رفضها للملكية، برايتون 1994
كيف تمكنت من الوصول للمنصب؟
وعودها بإعادة القيم الأساسية لحزب المحافظين وخفض الضرائب وتقليص الدخل الحكومي هو تحديدًا ما أراد أعضاء حزب المحافظين الذين أطاحوا بجونسون سماعه، وهو ما زاد من قبولها للمنصب لدى أعضاء الحزب، بالإضافة إلى أنها وخلال أزمة استقالة الوزراء في حكومة بوريس جونسون لم تتخل عن منصبها كوزيرة للخارجية إلا في اللحظات الأخيرة؛ ما ساهم في قبولها لدى داعمي جونسون على حساب منافسها ووزير المالية السابق ريشي سوناك الذي بدأ مع وزير الصحة السابق ساجيد جافيد الانقلاب على جونسون من خلال سلسلة الاستقالات في 5 يوليو الماضي.
وخلال توليها حقيبة الخارجية خلفًا لدومنيك راب في حكومة بوريس جونسون في 2021، تمكنت من تحقيق اختراقات في عدد من الملفات، فطرحها لحل مشكلة البروتوكول التجاري مع أيرلندا الشمالية من خلال إلغاء بعض التزامات بريطانيا تجاه اتفاق البريكست أكسبها شعبية في الداخل، وتمكنت من تأمين الإفراج عن معتقلين بريطانيين في طهران.
ومع بداية دخول القوات الروسية لأوكرانيا، اتخذت موقفًا واضحًا، وطالبت بخروج القوات الروسية، إلا أنها تعرضت لانتقادات قوية بعد إعلانها دعم مشاركة البريطانيين الراغبين في الذهاب للحرب الأوكرانية، ويذكر لها صورتها داخل مدرعة حربية خلال زيارتها للقوات البريطانية في إستونيا، وهو ما قال عنه مراقبون إنها تحاول أن تسلك مسلك “المرأة الحديدية مارجريت تاتشر” وصولًا إلى المنصب الرفيع.
تحديات صعبة
وفقًا لصحيفة “ذا جارديان” البريطانية، فإن رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس لن تعطي منافسها على المنصب ريتشي سوناك أي منصب في حكومتها؛ إذ تسعى تراس إلى تشكيل حكومة من شخصيات محل ثقة لها. ووفقًا للتسريبات الصحفية، ستقوم بتعين سويلا بريفمان بمنصب وزيرة الداخلية وجيمس كليفرلي بمنصب وزير الخارجية، وستعين الصديق المقرب لها كواسي كوارتينج بمنصب مستشارها ونائبها، وهو ما يعني أن المناصب الأربعة الأهم في الحكومة لن يشغلها شخص بريطاني أبيض (تعرضت تراس لانتقادات نتيجة تحدثها عن العرقيات والخلفيات الثقافية لمنافسيها في الانتخابات). تشير هذه الاختيارات إلى إدراك ليز تراس حجم التحدي المقبلة عليه؛ فهي تختار فقط من تستطيع الوثوق بهم، مستفيدة من الدرس الذي أتيح أمامها خلال عملها بحكومة بوريس جونسون.
وتبقى أزمة الأسعار والتضخم هي أهم التحديات التي ستواجهها حكومة تراس، فقد ارتفعت أسعار فواتير الكهرباء للمنازل بنسبة أكثر من 50%، وزاد التضخم بنسبة 10% لأول مرة منذ 40 عامًا متأثرًا بارتفاع المحروقات السلع الغذائية. ومما يضاعف حجم التحدي هو حقيقة أن المملكة المتحدة في طريقها إلى الركود بحلول نهاية العالم، فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.01% في الربع الثاني من العام الحالي، ويتوقع الخبراء أن يستمر الانخفاض في الربع الثالث، ووصل الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له أمام الدولار منذ عام 1985 قبل أن يتعافى جزئيًا.
وتشكل مشكلة نقص الخدمات أزمة أخرى تواجه الحكومة القادمة؛ فوفقًا لتقارير صادرة عن اتحاد الأطباء البريطانيين، قد وصلت مدة انتظار المواطنين حتى حصولهم على الرعاية الصحية مدة قياسية هي الأطول في تاريخ قطاع الرعاية الصحية ببريطانيا؛ ذلك بسبب الضغط الذي سببته الجائحة على القطاع، ونقص الأطقم والعاملين بالقطاع الطبي، والتمويل غير الكافي. وهي ذات المشكلة في قطاعات خدمية أخرى كمراكز خدمة المواطنين، والرعاية الاجتماعية، والمدارس والجامعات.
هذا بالإضافة إلى المظاهرات الفئوية التي شهدت زيادة ملحوظة هذا العام متأثرة بالأوضاع الاقتصادية وزيادة التضخم العام، الأمر الذي قد يعطل خطط الحكومة الجديدة، فقد شهد العام الحالي مظاهرات للصحفيين والمحامين، والعمال، والسائقين، والعاملين بخدمة البريد الملكية وغيرها من المظاهرات التي أثرت على الأداء الاقتصادي. وتقول النقابات العاملة إن فشل الحكومة في تلبية مطالب المتظاهرين هو السبب الرئيس وراء غليان الشارع واستمرار المظاهرات. وفي حال استمرار هذه الإضرابات والمظاهرات ستؤثر على النمو الاقتصادي والإنتاجية في البلاد، وهي أمور وعدت ليز تراس بأن تشهد تحسنًا كبيرًا حال تنفيذ خطتها الاقتصادية.
علاوة على ما سبق، لا يمكن نسيان المسرح الدولي والذي سيشكل تحديًا بدوره لرئيسة الوزراء الجديدة للمملكة المتحدة الساعية في الأساس إلى إعادة دورها العالمي في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي. ولكونها وزيرة الخارجية في الحكومة السابقة، تعي تراس حجم التغيرات على المسرح العالمي، إلا أن منصبها الجديد كرئيسة للوزراء يفرض عليها الالتزام بالدبلوماسية بدلًا من السياسات والتصريحات الحادة التي استخدمتها سابقًا مع روسيا والصين.
ختامًا، يمكن القول إن رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ماري إليزابيث تراس هي شخصية مرنة وفريدة غير جامدة فيما يتعلق بالمعتقدات والتوجهات، بل تتسم بذكاء اجتماعي يتيح لها التصرف وفق المعطيات بأفضل صورة وصولًا إلى لهدف المنشود. إلا أن التحديات التي ستواجهها تستدعي حلولًا سريعة لإرضاء نواب المحافظين الذين أطاحوا بجونسون، فالنسبة التي فازت بها على منافسها سوناك تعني أن عددًا ليس بالقليل من أعضاء الحزب لا يثقون في قدرتها على شغل المنصب المهم، ومن ثم فعلى تراس تحقيق نجاحات سريعة وتقدم على مستوى عدد من الملفات خلال الأشهر الأولى لها؛ لكسب ثقة أعضاء الحزب، وتفادي مصير بوريس جونسون. وربما يكون ذلك مبررًا لتغليبها معيار الثقة على المعايير الأخرى عند اختيارها للمجموعة الوزارية التي ستشاركها مواجهة هذه التحديات.
.
رابط المصدر: