د. توفيق أكليمندوس
يوم ١١ أكتوبر ألقى وزير خارجية ودفاع بولندا السابق السيد راديك سيكورسكي محاضرة بالغة الأهمية أمام المجلس الألماني للشئون الخارجية، تناول فيها عدة موضوعات وخلفياتها التاريخية تدور كلها حول الحرب الروسية الأوكرانية ومستقبل الاتحاد الأوروبي والعلاقات الألمانية البولندية، ونرى فيها عرضًا جيدًا لموقف الصقور الغربيين من الصراع الحالي. ورغم انتمائه إلى المعارضة البولندية فإنه أجاد عرض موقف دولته عرضًا جمع بين الدفاع عنه وانتقاده.
سيناريو مستبعد
قال السيد راديك سيكورسكي في كلمته، إن الحرب الحالية تشكل تحديًا كبيرًا للاتحاد الأوروبي وإنه لا يعرف إن كانت أوروبا ستخرج من المواجهة أقوى بكثير مما كانت عليه أم أضعف بكثير، وإن هذا يتوقف على أدائها وقرارات القادة خلال الأزمة. ولفت النظر إلى أهم تحدٍ يواجه الغرب وهو الانهيار السريع للاقتصاد الأوكراني، مذكرًا بأن هذا الانهيار سريع ومن الصعب التعامل معه، وفي المقابل بدا واثقًا في قدرة أوروبا على تجاوز أزمة اقتصادها.
الأرقام وطبيعة الأمور تؤيد هذا الكلام. أوكرانيا في حاجة إلى دعم مالي شهري لا يقل عن ٤ مليارات دولار إلى جانب مصادر الإنفاق الأخرى من تسليح وارتفاع الأسعار وإيواء اللاجئين، والاقتصاد الأوكراني أسرع بكثير في الانهيار من الاقتصاد الروسي، حتى لو أخذنا بالتقديرات المتشائمة لأداء روسيا، وهذا طبيعي لأن أوكرانيا تتعرض لقصف مكثف يخرب كل المنشآت، ولأن الولايات المتحدة فرضت لاعتبارات مفهومة عدم قيام أوكرانيا بقصف داخل روسيا، وقلل “سيكورسكي” من احتمال لجوء روسيا للسلاح النووي قائلًا إن استخدام “النووي التكتيكي” ليس كاستخدام “النووي الاستراتيجي” وأنه يتم من خلال التراتبية العسكرية وسلم القيادة، ومن المستبعد موافقة كل المعنيين من الضباط الروس على طاعة أمر باستخدام النووي، وقد يقنع هذا الكلام بعض الخبراء والمراقبين ولا يقنع البعض الآخر، ولكن حجته الثانية أقوى نسبيًا، وهي أن استخدام النووي التكتيكي يحتاج إلى عدة أيام وسيلاحظ الجميع الخطوات الأولى، وستتدخل الصين بحسم لمنع هذا التطور، وقال إنه “سمع” أن الصين أجبرت موسكو على سحب قواتها من كازاخستان وأن روسيا نفذت صاغرة.
ولكن استبعاد سيناريو لجوء روسيا إلى النووي نهائي وغير ممكن، فالرجل يقول إن نهاية الأزمة ستكون إما بالإطاحة بالرئيس بوتين أو بانهيار الجيش الروسي انهيارًا شاملًا. ووفقًا له، فالروس –تحت قيادة الرئيس بوتين- لن يستسلموا ولن يتفاوضوا بجدية. وحتى لو تفاوض الرئيس بوتين بجدية فإن كلمته وتوقيعه فقدا كل مصداقية. لا يمكن لأي فرد ولا سيما إن كان أوكرانيًا أن يقبل بأن مستقبل بلده رهن كلمة هذا الرجل. ويقول إنه سيترتب غالبًا على الإطاحة بالرئيس بوتين سقوط حكم الرئيس البيلاروسي لوكاشنكا، وإن ضم البيلاروس للاتحاد الأوروبي سيكون أسهل وأقل كلفة من ضم أوكرانيا.
يمكن فهم هذا المنطق –القائل بإطاحة الرئيس الروسي- لا سيما إن استمعنا إلى ما يقوله الروس وفي مقدمتهم الرئيس بوتين في بحثه المنشور على موقع الكرملين وفي مناسبات أخرى عن أوكرانيا، يرون فيها كيانًا مصطنعًا لا وجود حقيقي له ولا حق له في الوجود. على أحسن الفروض الهوية الأوكرانية فولكلور يمكن الحفاظ عليه كفولكلور يعجب السائحين، ولكن الهوية الحقيقية للأوكرانيين هي الهوية الروسية، ويجب فرضها عليهم ونزع الفكرة الشيطانية التي تزعم وجود شيء اسمه أوكرانيا.
نظرًا لسيادة هذا المنطق في روسيا فإن أي تفاوض –وفقًا لسيكورسكي والصقور- مع الرئيس الروسي يقدم تنازلًا لموسكو ولو كان ضئيلًا أو يكتفي بتقليص الأوضاع ووقف إطلاق النار هو إضاعة وقت، فهو سيجني ثمر التنازل ويستفيد من التقاط الأنفاس ويستأنف العدوان في أول فرصة، هذا التفكير مقبول مع تحفظ، قد تكون الخسائر التي لحقت بالجيش الروسي درسًا تعلمه الزعيم الروسي و/أو رجاله، حتى لو شكك الصقور في هذا لأنهم يرون أن آليات عمل النظام الروسي وأسس شرعيته تحتم الخوض في مغامرات خارجية، وفي المقابل يمكن إضافة أن الرئيس الروسي لم ولن يقبل الانسحاب من الأراضي التي قام باحتلالها، وأنه سيتفاوض بمنطق كسب الوقت لا بمنطق حل المشكلة. ذلك أن أي تراجع يعرض النظام والرئيس لهزات شديدة قد تطيح به أو بهما. وكما هو واضح يرفض الصقور منطق فرق التهدئة القائل “بإيجاد مخرج مشرف للرئيس الروسي”، ليس فقط لأن لا عهد له، بل أيضًا لمسئوليته هو ونخبته عن عدد من الجرائم توصيفها القانوني الأضعف أنها “جرائم حرب”.
ولكن هذا الكلام معناه وجوب تدمير الجيش الروسي و/أو الإطاحة بالرئيس بوتين، وهو أمر صعب ومحفوف بالمخاطر، ويفترض مثلًا أن الجيش الأوكراني قادر على استرداد كافة الأراضي وفي مقدمتها خيرسون وماريوبول، إضافة إلى ذلك فإن هذا الكلام قد يقوي موقع المنادين في موسكو بضرورة اللجوء إلى السلاح النووي. وما يزيد الطين بلة قول الوزير السابق إن الخطابات النخبوية والإعلامية وربما الشعبية الروسية عن أوكرانيا متطرفة وشبه نازية وغير مقبولة، وهو محق في هذا، ولكنه يقول إنه يجب الإصرار على وجود أو فرض سياسات “تنزع التطرف” وتظهر فساد الخطاب المتطرف.. إلخ. وتظهر التجارب الغربية أن لا أحد يعرف بدقة كيف يجب التعامل مع ملف “نزع التطرف”، وإضافة إلى ذلك يمثل هذا الكلام اعتداءً واضحًا على السيادة الروسية قد يقوي المتطرفين ولا يضعفهم.
حجج الكرملين
يمضي الوزير السابق وقتًا يفند فيه حجج الكرملين حول حماية الأقليات الروسية الموجودة في دول أخرى، قائلًا إن هناك محكمة أوروبية لها كفاءة في التحكيم في هذه النزاعات، ثم يقيم حكم الرئيس بوتين تقييمًا بالغ السلبية فيقول إنه قام بتدمير جيشه وهو في طريقه إلى تدمير قطاع الطاقة الروسي، وكان مخيرًا بين التحالف مع الغرب والتبعية للصين واختار الثانية مرتكبًا “خطأ استراتيجيًا كارثيًا”، فالتحالف مع الغرب كان –وفقًا لسيكورسكي- الطريق الذهبي لتحديث الاقتصاد الروسي ولتأمين أقصى شرق روسيا وحمايته من المطامع الصينية، ويمكن الرد على هذا الحكم بالقول إن التعامل مع الغرب أمر بالغ الصعوبة واختبار كبير للعزة الوطنية وللصبر وأنه يتعين على الغرب أن يتساءل: لماذا يفضل الكثيرون بدائل غير الاصطفاف معه؟ ولماذا فضل الرئيس الروسي بعد عقد كامل من التعاون مع الغرب الانقلاب عليه سنة ٢٠١١، ويُحمد سيكورسكي على ذكره تفاصيل التعاون الروسي الغربي والروسي البولندي ومبادرات بوتين لتحسين العلاقات، منها ما كان مكلفًا وقاسيًا له في العقد الأول من الألفية.
يمكن طبعًا رفض السؤال ونسبة كل مسئولية التدهور للطبيعة الشكاكة للرئيس الروسي أو لميله الدائم منذ أول يوم إلى استخدام العنف لحل نزاعات روسيا، ولكنني أعتقد أن الوضع أكثر تعقيدًا. يمكن أيضًا القول إن الروس كانوا يريدون تعاونًا قائمًا على الاعتراف بهم كقوة عظمى شأنهم شأن الولايات المتحدة، في حين أن روسيا لم تعد قوة عظمي وإن كانت نووية. ولكن هذا المطلب الروسي (إدارة مشتركة للنظام العالمي بين موسكو وواشنطن) لا يبرر تصريحات الرئيس أوباما المقللة دائمًا من شأن الروس. وأيًا كان الحال، في نهاية سنة 2011 قرر الرئيس بوتين صرف النظر عن منهج مخاطبة ود الغرب وسعى إلى تشكيل نظام إقليمي أوراسي، ووفقًا لسيكورسكي فهم بسرعة بوتين أن هذا النظام لن يكون بديلًا عن المنظومة الغربية ما لم يضم أوكرانيا، ولكن أوكرانيا لم تكن راغبة في الابتعاد عن أوروبا والولايات المتحدة، ويقول الوزير أيضًا إن الرئيس الروسي كان يستطيع أن يحول بلده إلى صين صغيرة ولكنه فضل أن تكون إيران كبيرة، أي –وفقًا له- “دولة مارقة لها قنابل نووية”. ويضيف أن حكام روسيا المتعاقبين ضلوا الطريق منذ سنة ١٩١٣ ولو كانوا حرصوا على تحقيق نمو سنوي مثل نمو كندا لكان الاقتصاد الروسي اليوم في قوة الاقتصاد الأمريكي.
ويقول أيضًا إنه يجب الاعتراف بأن مصالح النظام الروسي تناقض دائمًا مصالح روسيا والشعب الروسي. ولصياغة أخرى لنفس الفكرة، يمكن القول إن الأنظمة الروسية المتعاقبة فشلت دائمًا في إيجاد صيغة توفق بين منطق الأمن -وهو منطق مشروع- ومنطق الاقتصاد والتنمية، ويعود هذا إلى ضعف نسبة السكان إلى مساحة الأرض، وقولي هذا لا يعفي تلك الأنظمة من المسئولية.
وبعد ذلك يخاطب المسئول البولندي السابق الألمان منددًا بسياساتهم تجاه روسيا وبعدم إدراكهم حقيقة وحجم التهديد الروسي حتى آخر لحظة، ويتقدم بعدة اقتراحات، يقول أولًا إن دول شرق أوروبا فهمت بسرعة جدًا وجود خطر كبير عندما غير الرئيس بوتين محتوى كتب التاريخ التي تدرس في العملية التعليمية ليمجد عصور الإمبراطورية والستالينية، وزادت شكوكهم عندما سمعوه في ميونخ سنة 2008 وبوخارست سنة 2010 يتكلم عن الماضي القريب وعن أوكرانيا، وتأكد هو شخصيًا من نوايا الرئيس الروسي عندما كتب الأخير في صيف 2021 دراسته عن أوكرانيا التي أنكر فيها وجود كيان أوكراني متفرد وأمر كل ضباط الجيش بقراءتها. ويفند سيكورسكي الرواية الروسية حول مخاطر انضمام أوكرانيا للناتو، ويقول إن أوكرانيا وعدت في مباحثات سرية بينها وبين روسيا أن تظل محايدة وألا تنضم أبدًا للناتو (لم يحدد تاريخ هذه المفاوضات)، وقال إنه من المعروف أن المستشار شولتز وعد الرئيس بوتين علنًا وفي السر أن ألمانيا ستستعمل حقها في الفيتو في الناتو لتمنع دخول أوكرانيا في الحلف الأطلسي. وتساءل سيكورسكي لو يخطط الرئيس الروسي لغزو فنلندا والسويد، وقال إن الرئيس بوتين يريد ضم أوكرانيا إلى ممتلكاته، وهذا ما أكده البيان الروسي المرعب في بدايات الحرب، ويوبخ البولندي ألمانيا وفرنسا قائلًا: “أيوجد في عواصمكم شخص جاد يعتقد فعلًا أن بوتين سيتخلى عن حلمه بضم كييف؟”. ويضيف أن الرئيس الروسي رفض أن يترك الوقت والأجيال القادمة تحل قضية العلاقات الروسية الأوكرانية، وحاول حسمها بالقوة الغاشمة، ويتحمل مسئولية تاريخية.
.
رابط المصدر: