د. ابتسام الكتبي
أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في 18 ديسمبر 2022، أنه “عقب توجيه دعوة رسمية لرئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمشاركة في قمة “بغداد 2″، المقرّر عقدها في الأردن في 20 ديسمبر، سيشارك الدكتور حسين أمير عبداللهيان في هذا الاجتماع، مُمثِّلاً للجمهورية الإسلامية”. وكانت مصادر متعدّدة توقّعت أنْ يشارك الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في اللّقاء الذي بذلت الحكومة الفرنسية، والحكومة العراقية، وأطراف إقليمية عدّة، جهوداً لتحويله إلى منصة حوار إقليمي للخروج من دوامة الاضطرابات التي تشهدها المنطقة مُنذ أكثر من عقدين. ويمكِنُ القول بكثير من الثقة، إنّ هناك وعياً مستقراً ومتنامياً في اللحظة الراهنة، لدى غالبيّة مراكز التفكير ومراكز صناع القرار في المنطقة، بضرورة التوصُّل إلى آلية إقليميّة مُستدامة لحلّ الخلافات تحت وطأة هاجس إرادة الاستقرار، بوصفه شرطاً أولياً لتحقيق التنمية المستدامة.
الحاجة إلى الحوار الإقليمي
شهدت المنطقة العديد من مشاريع الحوار الطموحة التي لم تجد -حتى الآن- طريقها إلى طاولة أعمال صُنّاع القرار الإقليميين والعالميّين. وتردّدت على مدار السنوات الماضية مُبادرات ووساطات عدّة، تعكس هيمنة هاجس الاستقرار، والرغبة الجماعيّة في الحصول على آلية إقليميّة مُستدامة لفضّ الخلافات، وامتصاص الاحتقان، بُغية ضمان مسارٍ سياسيٍّ أكثر انسجاماً مع المشاريع التنموية الطموحة التي أطلقتها أطراف إقليمية وازنة. ولا شك في أنّ فكرة الحوار الإقليمي المستوفي لبعض الشروط، يُمكن أنْ تكون البوّابة الحقيقيّة لتجاوُز “حالة اللاأمن”، وتخطّي وضعيّة “عدم الاستقرار” التي وضعت الشرق الأوسط على حافّة الحرب أعواماً متعدّدة، تعززت خلالها الاضطرابات الإقليمية، نتيجة تعارُض رؤى اللاعبين، والافتقار إلى آليّة إقليميّة أو دوليّة لفض الخلافات. وكانت بعض الأطراف الإقليمية سعت إلى بلورة مثل هذه الآليّة، عبر الانخراط في مفاوضات ثنائيّة، كان أبرزها نموذج “طاولة بغداد للحوار بين الرياض وطهران”، والتي توقّفت بفعل اشتعال موجة الاحتجاجات الأخيرة في إيران.
وتُظهِرُ مُقاربة أعمَق لطبيعة الملفات الخلافيّة في منطقة الخليج، ومنطقة الشرق الأوسط، بأنّ التّوصُّل إلى حلولٍ للملفات الخلافيّة الرئيسة، لا يمكن أنْ يتأتّى عبر حواراتٍ ثنائيّة، ببساطة لأنّ هذه الملفات تتجاوز كونها خلافاً بين طرفين، بلْ هي ذاتُ طبيعةٍ متعدّدة الأطراف، تتداخلُ فيها مصالح وهواجسُ جهاتٍ إقليمية ودولية عديدة. ويصعبُ تصوُّرُ أن يصمد أيُّ اتفاقٍ ثنائيّ حول أيٍّ من الملفات الإقليميّة العالقة أمام ضغوط الأطراف الأخرى التي تمتلك مصالح في هذه الملفات، سواءً كانت مصالح جيواقتصادية أو مصالح جيوسياسية مُتعلقة بتدافع مشاريع الهيمنة الإقليمية. كما أنّ تداخُل الملفات الرئيسة العالقة على مستوى المنطقة، يتطلَّبُ حواراً شاملاً، لأنّ أيّ حوارٍ حول أيٍّ من الملفات الخلافية، في ظل الارتباط العضوي بين أجزاء خريطة الخلافات، سوف يستدعي نقاشاً حول الملفات الخلافيّة الأخرى، ما يحُول دون حلِّ أيٍّ ملفٍ، بمعزلٍ عن الملفات الأخرى.
وعلى هذا الأساس، لكي تكون فكرة المفاوضات الإقليميّة ناجعة، يتعيّنُ أنْ تُجمَع غالبيّة الأطراف المؤثرة حول طاولة واحدة، وأنْ تُخضِعَ غالبية الملفات الخلافيّة لأجندة الحوار. وباعتبار منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، أحد أهمّ المجالات الاستراتيجية للتنافس بين القوى الدولية، فإنّ طاولةَ مفاوضاتٍ كهذه لابُدَّ من أنْ تأخُذَ بالحسبان آلياتٍ لإشراك تلك القوى الدولية، من دون أن يعني ذلك انكشاف الحوار الإقليمي والمشهد الإقليمي أمام مزيد من إرادات الهيمنة الدوليّة، أو إشعار هذه القوى الدوليّة أنّه بإمكانها فرض رؤيتها للحلول، والتي تضع بطبيعة الحال، الأولوية لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط.
وكانت “قمّة بغداد الأولى” في أغسطس 2021، نموذجاً أوّليّاً واعِداً لحوار إقليميٍّ يجمع أطرافاً إقليميّة ودولية مؤثرة في الملفات الخلافيّة. واليوم، تعملُ الهواجسُ المُشترَكة على الدّفع قدُماً بالنسخة الثانية من هذا الحوار في العاصمة الأردنية عمّان التي تأمل أنْ تنجح في إذابة الثلوج بين صُنّاع القرار الإقليمي.
ولتحقيق الغاية المرجوّة من طاولة الحوار هذه، لا بُدَّ من إقناع الجارتين، إيران وتركيا، بالانخراط في حوارٍ جادٍّ يجمعهما معاً، إلى جانب البلدان العربية التي تمتلك آليّةً دوريّة للحوار، تتمثل بجامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولذلك فإن الدعوة إلى “منظومة إقليمية” خارج إطار “الجامعة العربية”، أو “مجلس التعاون” إنما تستهدف إشراك أنقرة وطهران. وتبدو هذه الفكرة منطقية، إذ لا يُمكن البتّ في أيّ من الملفات الإقليمية من دون التفاهم مع أنقرة وطهران، اللتين تمتلكان مصالح ورؤى و”طموحات هيمنة” إقليمية واضحة. وبشكلٍ خاص، يبدو انخراط طهران في مثل هذا الحوار الإقليمي مصيريّاً؛ إذْ تُعدُّ إيران الطّرفَ الذي تدور معه الخلافات الأساسية في أهمّ الملفات. وطالما أن محاولات الحوار الثنائي لم تنجح في بلوغ مرحلة التوافق الإقليمي، فقد تكون طاولة حوار إقليمي هي الحلّ المنشود.
محددات إيرانية أمام الانخراط في الحوار الإقليمي
لكنْ على الرغم من ترحيب طهران بفكرة الحوار، واستعدادها للمشاركة في قمة “بغداد 2″، نتيجة مزيح من الضرورات الناجمة عن موقع إيران المنعزل في المجتمع الدولي، وتغيُّر أولويات الدبلوماسية الإيرانية في عهد حكومة المحافظين، إلا أن ترحيبها بالمشاركة لا يعني بالضرورة ترحيبها بالانخراط في “حوار إقليميّ شامل”، يهدف إلى وضع حلول للملفات الخلافيّة. ولا ينبغي أن يدفعنا التفاؤل نحو تجاهل معطياتٍ ووقائع أساسية.
وعلى الرغم من طرح الحكومة الإيرانية “سياسة التجاور”، واتّخاذها بعض الخطوات الرمزيّة إزاء المحيط العربي، لكنّها كانت خطوات انتقائيّة، وغيبت البلدان العربيّة التي تمثل الخلافات معها بؤرة العقدة الإقليمية. كما أن الحكومة أعلنت منذ يومها الأول، عزمها تعزيز سياسة دعم الميليشيات باعتبارها “أحد ركائز السياسة الخارجية في العهد الجديد” بحسب تعبير الوزير عبداللهيان؛ ما يعني استمرار تجاهل السياسة الإيرانية للدول، ومواصلة التعامل مع مستويات “دون الدولة”. كما أنّ المعطيات تُظهِر أن الهوة الكبيرة بين “موقف الحكومة” و”موقف الدولة العميقة” لا تزال قائمة، وذلك على الرغم من العلاقات الجيدة التي تجمع الحكومة الجديدة بأجهزة الدولية العميقة. ولا يزال زمامُ المبادرة في الملفات الإقليمية الرئيسة، خارج يد الحكومة، تحت سيطرة أجهزة الدولة العميقة. وكان وجود قائد فيلق القدس في بغداد أثناء محاولات تشكيل الحكومة العراقية، مثالاً بارزاً على استمرار تدخل “الحرس الثوري” في الملفات الإقليمية؛ ما يعني استمرار بقاء هذه الملفات خارج صلاحيات وزارة الخارجية الإيرانية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك، حقيقة أنّ الحكومة لا تزال بعيدة كلُّ البعد عن التأثير في برامج الصواريخ والمسيرات، وهو ما ظهر بوضوح في “غياب المعلومة” لدى وزير الخارجية الإيراني حول تقديم السلاح للجانب الأوكراني، ثم اضطراره لتغيير تصريحاته، نستنتج بوضوح أن التعامل مع الحكومة الإيرانية في الملفات الخلافية الإقليمية، يعني الحوار مع الجهة التي لا تملك الصلاحيات، فيما “الدولة العميقة”، لا تُبدي حتى الآن استعداداً لوضع هذه الملفات الخلافية على طاولة الحوار. وفي هذا السياق يمكن وضع تأكيد القائد الإيراني الأعلى في 26 من نوفمبر الماضي، أن فكرة انخراط إيران في مفاوضات حول الحدّ من نفوذها الإقليمي (أو الانسحاب من المنطقة بحسب تعبيره)، والحد من تطلعاتها في امتلاك الصواريخ والمسيّرات فكرة مرفوضة تماماً.
وكما كان الحال في قمة بغداد الأولى، تشير المعطيات إلى أنّ فرنسا تقف خلف الدعوة إلى هذه المفاوضات؛ ما يجعل من الصعب في المرحلة الراهنة، توقُّع أن يرتقي هذا الحوار إلى مستوياتٍ جدية؛ إذ تشهد العلاقات بين إيران وفرنسا هذه الأيام واحدة من أصعب محطاتها. وتقود باريس إلى جانب لندن وبرلين حملةً ضد إيران على الصعيد النووي، وتلمح إلى احتمال إحالة ملفها على “مجلس الأمن الدولي”، كما تتحدث عن “تجميد” المفاوضات النووية، وضرورة توسيع العقوبات بداعي الخروقات الإيرانية، وتقود، إلى جانب بلدان أوروبية أخرى، حملة واسعة ضدّ النظام الإيراني على خلفيّة الاحتجاجات التي اعتبرها الرئيس الفرنسي ماكرون ثورة شعبيّة خلال لقائه بعض الناشطات الإيرانيات. وقد أدان البرلمان الفرنسي سلوك طهران في قمعها للمحتجين، ودعا إلى فرض عقوبات عليها. وبالفعل، فرضت الحكومة الفرنسية حزمة عقوبات على طهران بالتعاون مع شركائها الأوروبيين. وفي المقابل، ألقت طهران باللوم على باريس في تحريك المحتجين، واعتقلت عدداً من أتباع فرنسا على خلفية الاحتجاجات، وأحالت اثنين منهم بشكل رسمي إلى المحاكمة بتهمة “التخابر مع المخابرات الفرنسية بغية تأجيج الاحتجاجات”. وفي ضوء تعثُّر العلاقات بين إيران وفرنسا فإن أي حديث عن وساطة فرنسية، في مفاوضات تشارك فيها إيران باعتبارها الطرف الخلافي الرئيس يبدو مستعصياً. وبعيداً عن الأزمة التي تشهدها العلاقات بين طهران وباريس، فإن فرنسا لا تعتبر جهة دولية تمتلك نفوذاً كبيراً على طهران، يدفع الأخيرة إلى التنازل في ملفات أساسية، أو تلتزم بمخرجات أي مفاوضات إقليمية. وكان هذا تماماً، هو رأى المحليين عن هشاشة قمة بغداد الأولى (أغسطس 2021) التي حضرتها فرنسا من دون القوى العالمية الأخرى، مؤكدين أن غياب الأطراف الدولية المؤثرة على يجعل القمة هشة.
خلاصة واستنتاجات
على الرغم من حاجة المنطقة، وحاجة مختلف الأطراف، إلى مثل هذه المنصة للحوار الإقليمي، فلا ينبغي توقُّع الكثير من قمة “بغداد 2″، إلّا إذا عملت مختلف الأطراف على استيفاء شروطٍ أساسيّة، يمكن معها إحداثُ تغييرٍ في طبيعة الحوار، وأساسه المنطقي. ويبدو هذا “التشاؤم” معقولاً في ظلّ تأكيد وجوه الدولة العميقة في إيران أنّ البلدان الغربية تريد جرّ إيران إلى اتفاق إقليمي تخسر فيه إيران نفوذها في المنطقة. وكذلك في ضوء، العلاقات المتأزمة بين طهران والرياض التي تتهمها طهران بإدارة الاحتجاجات (الحرب المركبة بحسب تعبير القائد الإيراني الأعلى) عبر ترسانتها الإعلامية. وهي اتّهاماتٌ تجعل أيّ تقارب بين إيران والسعودية صعباً للغاية. وأخيراً، فإنّ فكرة الانخراط في حوارٍ شامل مع الأطراف الإقليمية، تتعارض مع استراتيجيات إيران التقليدية المتمثّلة في تجزئة الملفات، وعزل اللاعبين، والتعامل مع الفاعليين الإقليميين، كلٍّ على حدة. ولعلّ مبادرة إيران للمشاركة في “قمّة بغداد 2″، بمستوى وزير الخارجية، لا تتجاوز كونها محاولة لكسر العزلة الدولية التي تعيشها طهران هذه الأيام.
.
رابط المصدر:
https://www.epc.ae/ar/details/brief/mutamar-baghdad-2-hal-nashhad-antilaqat-hiwar-iiqlimiin-fi-emman