تعتبر الانتخابات ساحة تتفاعل فيها العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية بشكل معقد. فإلى جانب الدور الذي يشكله مواقف وتوجهات المرشحين إزاء القضايا المختلفة، تلعب العوامل النفسية والاجتماعية دورًا كبيرًا أيضًا في جذب الناخبين لاختيار إحدى المرشحين.
تساهم العوامل النفسية والاجتماعية في تشكيل آراء الناخبين وتعزز المشاركة السياسية، وفهم تلك العوامل هو مفتاح لفهم الأسباب الكامنة وراء تصويت الناس وانجذابهم لمرشح عن الآخر، ويمكن أن تعد تلك العوامل هي القوة الخفية غير المباشرة في الانتخابات، فلا تلعب الحملات الانتخابية بشكل مباشر على الترويج لمرشحيها من خلال عواملهم النفسية أو الاجتماعية، لكن دورها لا يقل عن العوامل السياسية. وبالتطبيق على الانتخابات الأمريكية، يُثار التساؤل حول الدور الذي تشكله الأبعاد غير السياسية، وبشكل أكثر تحديدًا، النفسية، للمرشحين في عملية اجتذاب أصوات الناخبين. وفيما يلي عرض للعوامل غير السياسية التي قد تكون لها دور في شعبية كلا المرشحين “دونالد ترامب” وكمالا هاريس” واستقطاب الأصوات لهم.
أولًا المرشح الجمهوري دونالد ترامب
بجانب مواقفه المختلفة من أهم القضايا السياسية التي يهتم بها الناخب الأمريكي، وشعبيته التي تأتي من ولايته السابقة، فإن لشخصية ترامب دور كبير في جذب واستقطاب الناخبين، فبالرغم من الانتقادات التي تعرض لها ومواجهته لعدة تهم في المحكمة، إلا أنه مازال يحظى بشعبية كبيرة في الشارع الأمريكي، وقد ترجع تلك الشعبية إلى بعض العوامل مثل:
- النرجسية الجماعية: والتي تعني الاعتقاد المشترك غير الواقعي بعظمة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد، ويلعب ترامب باستمرار بشكل واعي أو لا واعي على استغلال النرجسية الجماعية للناخبين الأمريكيين الطامحين لجعل الولايات المتحدة الأفضل والأقوى في العالم، فشعار حملته الرئيسة “جعل أمريكا أفضل مرة أخرى”، يغذي النرجسية الجماعية الأمريكية، التي تسعى لاستعادة أمريكا لمكانتها العظمى.
- التواصل المباشر: يرى الكثير من الخبراء أن عفوية ترامب ووجوده على وسائل التواصل الاجتماعي المستمر سببًا في شعبيته، فلم يسبق أن رأينا رئيسًا للولايات المتحدة موجود باستمرار بنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي كما كان ترامب في ولايته السابقة، حتى وإن كان ينشر أكاذيب، فلا شك أن تواصله بشكل مباشر وتواجده بشخصه الحقيقي طوال الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل له قاعدة جماهيرية كبيرة تشعر بأنه قريب منهم بسبب تواصله الدائم.
- شجاعة في مواجهة الاغتيال: إن محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب في يوليو الماضي كان لها دور في زيادة شعبيته، فبجانب التعاطف والدعم الذي حصل عليه بسبب تعرضه للعنف السياسي، استطاع ترامب أن يظهر شجاعته وقوته على الملأ أمام الجميع حيث أن وقوفه بشجاعة وإبعاد قوات الأمن بعد إطلاق النار، قد يكون ساهم في تدعيم صورته المهيمنة والشجاعة، كما ساهم في دعم نظرية ترامب التي تفيد أنه مستهدف ومعرض للمؤامرات بغرض تدميره والتخلص منه ومن نجاحاته، وقد جذبت تلك الحادثة لترامب قاعدة جماهيرية جديدة تدعمه، وتجلى ذلك في تقديم رجل الأعمال “أيلون ماسك” الدعم إلى ترامب، وذلك بعدما كان داعمًا للديمقراطيين بشكل مستمر منذ أن أصبح مواطنًا أمريكيًا، وبرغم الخلافات التي كانت بينهم في الولاية السابقة.
ثانيًا المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس
ليست هاريس أول امرأة تترشح للسباق الانتخابي في الولايات المتحدة، لكن كون هاريس سيدة من أصول عرقية متنوعة، يجعلها محط اهتمام للعالم ككل وليس للولايات المتحدة فقط، بجانب خبرتها السياسية الطويلة بداية من عملها كمدعية عامة ووصولًا لكونها نائبة الرئيس الحالي “جو بايدن” فهناك عدد من العوامل التي قد تكون في صالح هاريس وفيما يلي نعرض أبرزها:
السن: يعد سن المرشح إحدى أهم العوامل التي يضعها الناخب الأمريكي في الاعتبار عند اختياره للرئيس، الأمر الذي كان محل جدال في الأشهر القليلة الماضية قبل انسحاب مرشح الحزب الديمقراطي “جو بايدن” فقد كان عامل السن أحد عوامل انخفاض الدعم للحزب وإحدى الأسباب الرئيسية لانسحاب بايدن، بسبب ما واجهه من نقد على سنه وكيف أنه يؤثر سلبًا في كفاءته البدنية والعقلية.
فيما لم يقتصر النقد الموجه لسن المرشح على بايدن فقط، حيث انتقد البعض سن ترامب الذي يصغر بايدن بثلاثة أعوام، كما كان هناك دعوات تناشد بتشريع قانون يحدد حد أقصى لسن المرشحين، لكن أدى ترشح هاريس إلى تغيير مجرى الانتخابات للحزب الديمقراطي وأعاد له الدعم من جديد. ففي استطلاع أجرته كلية ماركيت للحقوق، يعتقد 57% من الناس أن ترامب البالغ من العمر 78 عامًا كبير جدًا في السن، مقارنة بـ 79% يقلقون بشأن عمر بايدن البالغ 81 عامًا. وفي المقابل، يعتقد فقط 13% أن هاريس، البالغة من العمر 59 عامًا، كبيرة جدًا في السن، ومع انسحاب بايدن ودخول هاريس في السباق الرئاسي من المحتمل أن يكون عامل السن إحدى عوامل جذب الناخبين لصالح هاريس.
إعادة الحيوية: لم يكن الناخبون قبل ترشح هاريس في غاية الحماس للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، ويصف الكثير أن ترشح هاريس للانتخابات أعاد الحيوية للسباق الرئاسي الذي لم يكن يتسم بالحماس قبل انسحاب جو بايدن من السباق. فيما لم يُبدي مؤيدو الديمقراطيين حماسًا لإعادة انتخاب بايدن لولاية ثانية، وهو الأمر الذي ظهر في استطلاع Pew reaserch center حيث بعدما كان هناك 43% من الديمقراطيين مؤيدين لبايدن في يوليو الماضي ارتفعت النسبة إلى 62% لصالح هاريس، كما ارتفعت نسبة المتحمسين للإدلاء بصوتهم والمشاركة في الانتخابات إلى 70% بعدما كانت 63% في يوليو الماضي.
الهوية العرقية: بالرغم من عدم استغلال هاريس لهويتها العرقية وأصولها (الهندية اللاتينية) في حملتها الانتخابية بشكل مباشر، فقد يكون لهويتها دورًا كبيرًا في جذب الكثير من الناخبين ذوي الأصول العرقية المختلفة لصالح التصويت لها، إذ قد يقع الناخبين من أصول عرقية مختلفة وخاصة في الولايات المتأرجحة التي لا يميل فيها الناخبين لأحد الحزبين تحت تأثير التشابهات، وهو تحيز إدراكي يفسر الميل إلى تفضيل الأشخاص الذين يشبهوننا سواء في الشكل أو التفكير أو الهوية. فقد يرى الناخبون من أصول عرقية مختلفة أن تواجد امرأة غير بيضاء في البيت الأبيض في صالحهم، كونها تشبههم وتشعر بمشكلاتهم التي كانت هي ذاتها تعاني منها كمواطنة سمراء متعددة الهوية في الولايات المتحدة. وما ذكرته في مناظرتها في عام 2019 مع الرئيس الحالي جو بايدن قبل أن تنسحب من السباق الرئاسي للحزب حينها، وتصبح نائبة الرئيس يؤيد ذلك، حيث ذكرت أنها عانت من العنصرية في طفولتها بسبب الفصل العنصري الذي كان يحدث في السبعينات في حافلات المدارس العامة بين الطلاب البيض والطلاب السود واللاتينيين.
قدوة للنساء: إن مسيرة هاريس السياسية تمثل علامة فارقة في التاريخ السياسي للنساء في الولايات المتحدة، فهي أول امرأة سوداء تُنتخب مدعية عامة في تاريخ كاليفورنيا، وأول امرأة تشغل منصب المدعي العام في كاليفورنيا، وأول عضو في مجلس الشيوخ من أصل هندي أمريكي، وأول امرأة سوداء وأول أمريكية آسيوية تُنتخب نائبة للرئيس. وبناءً عليه، من الممكن أن تصبح هاريس أول امرأة تتولى منصب رئيسة الولايات المتحدة، ويبدو أن حافز هاريس الرئيسي النابع من تشجيع والدتها لها باستمرار “قد تكوني أول امرأة ولكن لست الأخيرة” قد أصبح دافعًا لكثير من السيدات والفتيات الصغار، خاصة من أصول عرقية غير أمريكية، ويفتح مجالًا للمزيد من الفتيات اللاتي يتطلعن للمناصب الكبيرة والدور السياسي، وقد يكون تطلع الفتيات والسيدات وانجذابهم بشخصيتها عاملًا في زيادة الأصوات لصالح هاريس في الانتخابات.
دعم مؤثر: إن الدعم الذي حصلت عليه هاريس من عدة شخصيات محبوبة ولها شعبية في الشارع الأمريكي قد يكون عامل جذب قاعدة جماهيرية لهاريس، خاصة من الناخبين المتأرجحين، فقد يخضع الكثير من الناس لتأثير الأشخاص المشهورين في المجتمع. وبعد توحيد صفوف الحزب الديمقراطي خلفها، ودعم أبرز الديمقراطيين لها مثل “باراك أوباما” وزوجته، فإن دعم شخصية مشهورة مثل نجمة البوب” تايلور سويفت” لهاريس قد يكون له دور في جذب شريحة كبيرة من المعجبين لدعم هاريس، خاصة من الجيل الجديد الذي يسجل صوته في الانتخابات لأول مرة وقد لا يكون لديهم الاهتمام الكافي بالقضايا السياسية التي تجعلهم يميلون لاختيار أحد المرشحين.
عوامل مضادة
رغم أهمية العوامل غير السياسية السابق الإشارة إليها، والتي قد يكون من شأنها أن تكون في صالح كلا المرشحين فإن هناك أيضًا جزء من العوامل التي قد تكون سببًا في خسارة المرشحين لبعض الأصوات، يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
مصداقية ترامب: لطالما أثارت مصداقية ترامب الجدل. فنشره المستمر للأكاذيب والشائعات ليس جديد، الأمر الذي برز في المناظرة الرئاسية الأولى مع هاريس في سبتمبر 2024، من خلال مهاجمته للمهاجرين وزعمه أنهم يأكلون الحيوانات الأليفة في أوهايو. كما زعم ترامب أن الديمقراطيين في بعض الولايات يسمحون بقتل الرضيع بعد ولادته ويسمحون بالإجهاض حتى في الشهر التاسع، ونشرت صحيفة واشنطن بوست أن إجمالي ادعاءات ترامب الكاذبة أو المضللة يصل إلى 30573 على مدى 4 سنوات حكم فيهم الولايات المتحدة، وقد يكون هذا الأمر سببًا في خسارة ترامب لقاعدة جماهيرية كبيرة من الناخبين الذين لا يعتقدون أن ترامب شخص صادق ولا يمكن الثقة فيه.
هاريس والصورة النمطية: بالرغم من أن هاريس ذات شخصية قوية واستطاعت أن تحقق الكثير من النجاح في عملها السياسي إلا أن مازال هناك فئة من الناس خاصة من الأجيال الأكبر سنًا، لا يرون أن المرأة تصلح لأن تكون رئيسة لدولة كبيرة مثل الولايات المتحدة. فمازالت الصورة النمطية للقائد التي يتوقعها الجمهور هي أن يكون شخص قوي ذو خلفية عسكرية ويتمتع بالهيمنة والقوة والشجاعة والقدرة على الإدارة، وغيرها من المفاهيم التي عادةً ما تكون مرتبطة في أذهان الأفراد بالرجال. وبحسب استطلاع Pew Research centerحولكيفية تأثير عرق هاريس وترامب وجنسهما وعمرهما في انتخابات، يرى نحو 30% أن كون هاريس امرأة ليس في صالحها في الانتخابات، لذا حتى إذا كان برنامج هاريس الانتخابي فعال وذو أهداف قوية قد تقف الصورة النمطية للقائد الراسخة في الأذهان كعقبة في وجه هاريس للوصول للبيت الأبيض.
وختامًا، قد لا تمثل العوامل غير السياسية عنصر الحسم في تفضيل الناخبين أحد المرشحين، وذلك بالنظر إلى محورية التأثير الذي يتأسس بناءً على موقف المرشح الرئاسي من مختلف القضايا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والبيئية، وما قد يحققه فوزه من مكسب ومصلحة لقطاعات مجتمعية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار تأثير العوامل غير السياسية في العملية الانتخابية، وإن كان تأثير على المستوى اللاواعي، حيث قد تلعب العوامل النفسية والاجتماعية دورًا كبيرًا في جذب شريحة جديدة ومختلفة من الناخبين، خاصة من بين الناخبين المتأرجحين، والناخبين غير المهتمين بالقضايا السياسية، والأجيال الجديدة التي تُدلي بصوتها لأول مرة في الانتخابات.