كشفت الانتخابات الإقليمية التي أُجريت خلال شهر سبتمبر 2024 في كلٍّ من ولاية تورينغن، وساكسونيا، وبراندنبورغ بشرق ألمانيا من إجمالي 16 ولاية على مستوى البلاد، عن تصاعد التحديات التي تواجهها الحكومة الألمانية برئاسة المستشار الألماني “أولاف شولتز”، نتيجة تراجع أحزاب الائتلاف الحاكم بعد الخسائر التي تعرضت لها في الانتخابات الأوروبية، وذلك في ضوء تحقيق اليمين المتطرف المزيد من المكاسب الانتخابية بجانب الصعود المفاجئ لأقصى اليسار والذي تبنى موقفًا مُتقاربًا -من بعض الملفات المُلحة مثل: الهجرة والحرب في أوكرانيا- مع موقف اليمين المتطرف.
عكست هذه الانتخابات مدى التراجع النسبي في السياسات التي تتبناها الحكومة الائتلافية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي وذلك في سياق الأوضاع الاقتصادية المتراجعة وتحديدًا فيما يتعلق بالأمور المالية والتي كانت أحد أسباب التوتر بين الأحزاب الحاكمة. لذا، يحاول التقرير توضيح دلالات هذا التصويت، والعوامل التي دفعت الناخبين في شرق ألمانيا إلى اختيار الأحزاب ذات التوجهات المتطرفة، وتداعيات ذلك على مستقبل الحكومة الحالية.
المشهد الانتخابي
تراجعت أحزاب الائتلاف الحاكم في الانتخابات الإقليمية التي أُجريت في ولاية تورينغن –أصغر الولايات- في الأول من سبتمبر الجاري؛ إذ احتل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المركز الخامس بنحو 6.1% من الأصوات، فيما لم يتمكن حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر من الوصول إلى نسبة 5% كعتبة انتخابية للمشاركة في برلمان الولاية، وذلك مقابل حصول حزب “البديل من أجل ألمانيا” على 32.8% من الأصوات متقدمًا على الحزب المسيحي الديمقراطي الذي نال حوالي 32.6%، ويُضاف لذلك تحقيق حزب “تحالف زهرا فاغنكنخت” اليساري الشعبوي المُعروف بـ (BSW) لأول مرة فوزًا بنحو 15.8% من إجمالي الأصوات بعد ثماني أشهر من تأسيسه، بحسب ما نشرته “دويتشه فيله“.
وفي ولاية ساكسونيا، تمكن الحزب المسيحي الديمقراطي من الحفاظ على نفوذه في الولاية التي تعتبر أحد معاقله منذ إعادة التوحيد، بعد أن فاز بنحو 31.9% بفرق طفيف على حزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي حصل على 30.6% من الأصوات، فيما جاء حزب (BSW) في المركز الثالث حاصلًا على 11.8% من الأصوات، فيما أتى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في المركز الرابع بنحو 7.3% من الأصوات، تلاه الخضر بحوالي 5.1% من الأصوات.
أما في ولاية براندنبورغ، جاء الحزب الاشتراكي الاجتماعي في صدارة المشهد في أحد معاقله منذ عام 1990، بعد أن حصل على 30.9% من الأصوات -متفوقًا بنسبة ضئيلة- على حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي نال 29.2% -تعد هذه النسبة أكبر مقارنة بانتخابات عام 2019 بنحو 6%- وقد جاءت هذه النتائج مُخالفةً لاستطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات وشهدت تصدر اليمين المتطرف، فيما استطاع حزب (BSW) من الفوز بـ 13.5% من الأصوات ليكون في المركز الثالث، متقدمًا على الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي احتل المركز الرابع بـ 12.1% من الأصوات، بحسب التوقعات الأولية. فيما لم يتمكن حزبي الخضر والديمقراطي الحر من تجاوز نسبة 5% من الأصوات، إذ حصل الأول على نحو 4.1%، والثاني على 0.8% من الأصوات. ويذكر أن الولاية شهدت أعلى نسبة مشاركة منذ إعادة التوحيد وصلت لنحو 73%.
دلالات التصويت
عكست نتائج الانتخابات التي عُقدت في ولايتي تورينغن وساكسونيا في الأول من سبتمبر 2024 العديد من الدلالات التي قد كانت بمثابة مؤشر مُحتمل لاتجاهات التصويت في انتخابات ولاية براندنبورغ التي أجريت في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، ولكن نتائج الولاية الثالثة جاءت لتكشف عن المزيد من التحولات في المشهد السياسي الألماني تتمثل أبرز مظاهرها فيما يلي:
- انخفاض شعبية الحكومة: أظهرت نتائج التصويت أن هناك حالة من عدم الرضا عن أحزاب الائتلاف الحاكم، وتراجع شعبيتهم، وقد يكون ذلك نتاجًا لعدم اقتناع الناخبين بسياسات الحكومة والتي أسهمت في تنامي التحديات التي يواجهها الألمان، كانت أبرز مظاهرها خروج احتجاجات المزارعين في بداية العام الحالي؛ مما جعل التصويت للقوى الشعبوية أو المتطرفة خيارًا بديلًا وعقابًا لأحزاب الائتلاف الحاكم، فعلى سبيل المثال، أوضحت بعض نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة “إنفراتست ديماب” لمحطة “إيه آر دي”، وأشارت إليها صحيفة “بوليتيكو” أن: “كل ناخب ثانٍ من حزب البديل من أجل ألمانيا في تورينغن وساكسونيا صوت لصالح الحزب لأنه يؤمن برسالته، كما اعتبر الناخبون أن الحزب سيكون أفضل من يمثل مصالح الناس في ألمانيا الشرقية، علاوة على اتباع سياسات أفضل للجوء واللاجئين”.
لذا كانت نتائج الانتخابات مؤشرًا للحكومة بأهمية احتواء الوضع الراهن، والتقليل من فرص تنامي اليمين المتطرف، وهو ما دفع المستشار الألماني إلى دعوة الأحزاب الديمقراطية بعدم تشكيل حكومات مستقرة مع “المتطرفين اليمينين”، واصفًا النتائج بأنها “مريرة” و”مقلقة”، وذلك بعد انتخابات تورينغن وساكسونيا.
اتصالًا بذلك؛ واصلت الحكومة في اتخاذ تدابير أكثر حزمًا بشأن ملف اللجوء والهجرة لعرقلة صعود القوى المتطرفة في انتخابات ولاية براندنبورغ أيضًا؛ حيث حظيت بعض القضايا منها: الهجرة والتنمية الاقتصادية والضمان الاجتماعي باهتمام الناخبين في الولاية، كما أن خسارتها كانت ستزيد من التحديات التي يشهدها الحزب الاشتراكي، وسيكون بمثابة إحراج للمستشار في دائرته الانتخابية، لذا فإن حسم الولاية لصالح الاشتراكيين كان أمرًا ضروريًا رغم استمرار التحديات التي يواجهها.
وبالفعل فقد تمكن الاشتراكيون من الفوز بالولاية بفارق ضئيل نتيجة محاولة “ديتمار فويدكي” رئيس وزراء الولاية الاشتراكي قيادة حملته الانتخابية بمنأى عن المستشار، وتعهده بتقديم استقالته في حالة فوز حزب “البديل من أجل ألمانيا” على حزبه بعد نحو أكثر من عقد من توليه منصبه في عام 2013، بجانب رغبة بعض الناخبين في “منع وصول اليمين المتطرف للسلطة، وليس من أجل التوافق مع الحزب”، فضلًا عن دعم كبار السن للاشتراكيين.
- صعود اليمين المتطرف: اعتبرت “أليس فايدل” الرئيسة المشاركة لحزب “البديل من أجل ألمانيا” أن نتائج الانتخابات في ولايتي تورينغن وساكسونيا بمثابة “تفويض” من قبل الناخبين للمشاركة في الحكم، داعيةً الأحزاب إلى تجاهل تصريحات المستشار. كما عكست النتائج مدى قدرة الحزب على توسيع قاعدة ناخبيه وخاصة من الشباب. ففي تورينغن، وفقًا لمجموعة أبحاث الانتخابات، صوت 36% من أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا لصالح حزب “البديل من أجل ألمانيا”، بزيادة تُقدر بنحو 11% مُقارنة بانتخابات عام 2019 في الولاية نفسها.
أما في ساكسونيا؛ فقد بلغت نسبة من صوتوا لصالح الحزب من الفئة نفسها حوالي 30% بزيادة عن الانتخابات السابقة بحوالي 9% من الأصوات بحسب ما نشرت “دير شبيجل” الألمانية. ولذلك بالرغم من تصنيف الاستخبارات الداخلية الذراع الشبابي للحزب باعتباره حالة “مؤكدة من التطرف”، والحزب نفسه باعتباره مجموعة “مشتبه بها في التطرف”.
أما في براندنبورغ؛ فقد علقت السيدة “فايدل” على النتيجة قائلةً: “إن حزبها هو القوة الأقوى في الشرق”. فيما أشاد “تينو شروبالا” الرئيس المشارك للحزب بالنتائج موضحًا: “فاز بالميدالية الذهبية مرة والفضية مرتين” في ثلاثة انتخابات في شرق البلاد. ورغم ذلك ليس من المُتوقع أن يتحالف أي حزب مع اليمين المتطرف لتشكيل حكومة على مستوى الولايات.
والجدير بالذكر أن اتهام الحزب بعداء المهاجرين قد يكون عامل جذب لكونه انعكاسًا لمدى مصداقيته تجاه هذا الملف في ضوء تنامي المخاوف من المهاجرين في الولايات الثلاثة، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال الصعود المُتدرج للحزب خلال الانتخابات السابقة ففي تورينغن، على سبيل المثال، فاز بنحو 10.6% في انتخابات عام 2014، ثم حصل على 23.4% في انتخابات عام 2019، ثم تمكن من الفوز بالمركز الأول في الولاية بحوالي 32% من الأصوات، ليكون بذلك أول حزب يميني متطرف يفوز في انتخابات الولاية منذ الحرب العالمية الثانية، برئاسة “بيورن هوكه” الذي أُدين نتيجة استخدامه شعارات نازية محظورة.
أما في ولاية براندنبورغ، فقد تمكن حزب “البديل من أجل ألمانيا” من الفوز رغم تصنيف الاستخبارات الحكومية فرع الحزب باعتباره “منظمة يشتبه في أنها متطرفة يمينية”، كما أن “هانز كريستوف بيرنت” المرشح الأساسي للحزب لا يزال على تواصل مع بعض المنظمات المتطرفة، خاصة أنه كان قبل انضمامه للحزب “مؤسسًا مشاركًا ورئيسًا لمجموعة متأثرة بالنازيين الجدد”، بحسب “دويتشه فيله“.
- تقدم اليسار الشعبوي: استطاع حزب (BSW) -المُنشق عن حزب “دي لينكا” اليساري خليفة الحزب الشيوعي الحاكم في ألمانيا الشرقية سابقًا- الفوز بالمركز الثالث في الولايات الثلاثة بعد تأسيسه في شهر يناير 2024 على يد أحد أعضاء الحزب اليساري الألماني التي أطلقت اسمها على اسم الحزب، محددة توجه باعتباره “يساري محافظ” – أي لا يتبنى سياسات أحزاب أقصى اليسار الغربية في “تمكين ثقافي” للأقليات الإثنية والجنسية، وفي تشجيع الهجرة، مفضلًا التركيز على إعادة التوزيع ودعم دولة الرفاة. وهنا يمكن تفسير هذا الفوز في ضوء عدّة اعتبارات منها، تراجع الثقة في الحكومة واستمرار الخلاقات بين الأحزاب التقليدية، وتزايد صعود القوى المتطرفة؛ الأمر الذي قد مهد الطريق أمام هذا الحزب ليستفيد من الناخبين الرافضين للوضع الحزبي الراهن، في ضوء التحديات الاقتصادية التي تزايدت منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وتفاقمت مع استمراريتها بدون حسم.
وبالفعل؛ فقد نوهت رئيسة الحزب عن اعتقاده بأن: “الأحزاب اليسارية أضحت لا تخدم الطبقة العاملة، ومستسلمة بشكل متزايد للسياسات البيئة، ومُتسامحة مع الهجرة”. علاوة على ذلك من المُتوقع أن تمنح هذه النتائج الحزب قوة دافعة لبناء تحالفات أو يتحول لما يُطلق عليه “صانع الملوك” وخاصة أنها قد صرحت بعدم العمل مع اليمين المتطرف، كما أن “ائتلافها مع أي شريك ينبغي أن يرتكز على الاعتراف بمطالب حزبها المتمثلة في “التوجه نحو المزيد من الدبلوماسية تمهيدًا لوقف الحرب، علاوة على الاعتراض على نشر الصواريخ الأمريكية في ألمانيا، مُبررة أن: “نصف الناس في ألمانيا خائفون من الانجرار إلى حرب كبيرة”. وأن: “ثلثي سكان الشرق يعارضون الصواريخ الأمريكية”، وذلك بحسب “رويترز“.
لم يكن هذا التوجه بجديد، فقد سبق وأن اعترضت على سياسة العقوبات المفروضة على روسيا، ودعم أوكرانيا عسكريًا، وهو ما يتقارب مع موقف اليمين المتطرف بشكل عام. كما اعتبرت أن التعامل مع الهجرة يضر بالطبقة العاملة، مُشيرة لذلك في كتاب لها صادر في عام 2021، والذي تضمن رؤيتها حول الهجرة. يُضاف إلى ذلك مناهضتها لسياسات المستشارة الألمانية السابقة “إنجيلا ميركل”، بشأن الهجرة. وذلك بحسب ما نشرته “يورو نيوز“.
عوامل مُؤثرة
كانت الانتخابات مؤشرًا كاشفًا عن تطورات الوضع الداخلي في ألمانيا، كما ألقت الضوء على مجموعة من العوامل التي قد تكون لعبت دورًا في إعادة تشكيل المشهد السياسي الحالي، والتي من المُحتمل أن تؤثر أيضًا على الانتخابات الفيدرالية المُقرر عقدها العام المُقبل، تأتي في مقدمتها:
- خلافات داخلية: أسهمت الأوضاع الاقتصادية وتحديدًا المالية التي تمر بها ألمانيا خلال السنوات الأخيرة، في تزايد الخلافات بين أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة، الوصول إلى توافق بينها في ظل التباين الشديد في توجهاتها يمثل تحديًا في حد ذاته، خاصة أن الحكومات الألمانية المتعاقبة كانت مكونة من حزبين فقط، وهو ما تجلى في مناقشات إقرار ميزانية عام 2025، للحد من اتساع فجوة التمويل التي بلغت ما يقرب من 17 مليار يورو وذلك قبل إقرار اتفاق الميزانية في يوليو 2024.
فعلى سبيل المثال، اقترح وزير المالية “كريستيان ليندنر” رئيس الحزب الديمقراطي الحر تجميد الإنفاق الاجتماعي لمدة ثلاث سنوات بهدف زيادة المخصصات المالية للدفاع، وتجنب ارتفاع معدلات التضخم، وهو ما رفضه الاشتراكيون والخضر، في المقابل خصص مبلغ 1.2 مليار يورو كزيادة في ميزانية الدفاع الأساسية، بجانب خفض المساعدات المقدمة لأوكرانيا إلى النصف لتبلغ نحو 4 مليارات يورو.
وفي محاولة لاحتواء الوضع الراهن تم زيادة إعانة رعاية الأطفال بحوالي 108 يورو سنويًا لمدة عامين، وفي هذا الإطار صرح “روبرت هابيك” وزير الاقتصاد “أن الفكرة القائلة بأننا نقوم بتفكيك دولة الرفاهة لأننا نحتاج إلى المزيد من الأموال للجيش فكرة قاتلة”. مُبررًا أهمية الإنفاق الاجتماعي باعتباره ضرورة لضمان التماسك الداخلي. بحسب “وول ستريت جورنال“.
وقد سبق ذلك أن أدى قرار عدم دستورية محاولات الحكومة الرامية لإعادة توجيه حوالي 60 مليار يورو كانت مخصصة لمجابهة جائحة “كوفيد-19” للمساعدة في مكافحة تغير المناخ، وتحديث البلاد، في نوفمبر 2023، إلى عودة الخلافات الداخلية نتيجة سعي الحكومة لخفض الإنفاق في بعض المجالات بما في ذلك إعانات المزارعين، فيما حث الديمقراطيون الأحرار والخضر إلى التوجه نحو الاقتراض الطارئ، داعين البرلمان إلى تعليق ما يعرف بـ “فرملة الديون“، وكنتيجة لذلك فقد قامت الحكومة بإعادة صياغة ميزانية عام 2024 والتصويت عليها من قبل البرلمان في فبراير 2024، بدلًا من ديسمبر 2023.
- استمرار الحرب: احتلت تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية أولوية على أجندة الأحزاب المُنتمية لأقصى اليمين واليسار، ووظفت خلال الانتخابات الإقليمية، عبر الدعوة إلى تبني حلول دبلوماسية لتسويتها بدلًا من اللجوء للخيارات العسكرية، وذلك مقابل رفض استمرار الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا، وذلك في الوقت الذي تعد فيه ألمانيا ثاني أكبر دولة مقدمة للمساعدات العسكرية لكييف بعد الولايات المتحدة. وبرغم أن المواقف الداخلية لأحزاب المعارضة قد لا تؤثر بشكل كبير في توجهات السياسة الخارجية الألمانية، فإن الاستحقاقات الانتخابية المتتالية، التي تزامنت مع استمرار الحرب بدون حسم، قد جعلت من هذه المواقف صدى متصاعدًا، انعكس بشكل غير مباشر على موقف الحكومة الألمانية من أوكرانيا، في محاولة للحد من توظيف هذا الملف من قبل قوى اليمين واليسار المتطرف داخليًا، بما يضمن تحقيق قدر من الموازنة بين مواصلة دعم أوكرانيا واستقرار الداخل الألماني.
الأمر الذي قد يُفسر قرار الحكومة بتخفيضها لحجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا إلى النصف في ميزانية العام المقبل، بعد ضمان تأمين تقديم قروض لكييف من أرباح الأصول الروسية المُجمدة، باعتبارها مُحاولة لتقليل تنامي التحديات الاقتصادية الناجمة عن الحرب بما في ذلك قرار التخلي التدريجي عن واردات الطاقة الروسية والتي أدت إلى ارتفاع أسعار الكهرباء بنسبة تتراوح من 60% إلى 75% مُقارنة بما كانت عليه قبل جائحة “كوفيد-19” بحسب “وول ستريت جورنال“.
اتصالًا بذلك؛ فقد انعكست أيضًا ارتفاع أسعار الطاقة على القطاعات الاقتصادية مثل: صناعة الكيماويات لأول مرة في عام 2022، استوردت ألمانيا مواد كيميائية من الصين أكثر مما صدرته إليها. كما تسببت أيضًا تكاليف الإنتاج المرتفعة، بجانب تصاعد المنافسة مع الصين، إلى التأثير في شركات صناعة السيارات مثل: شركة “فولكس فاجن” التي أعلنت في العاشر من سبتمبر 2024 عن خفض عدد الوظائف في ضوء إنهائها اتفاقية الأمن الوظيفي التي عقدتها مع النقابات العمالية.
برغم محاولة الحكومة البحث عن موارد بديلة للطاقة الروسية، فلا تزال الشركات تواجه ارتفاع التكليف الإنتاج بالتوازي مع الالتزام بالمعايير البيئية، فعلى سبيل المثال، تسعى شركة “تيسين كروب” للصلب للموازنة بين الحفاظ على قدرتها التنافسية والتحول بعيدًا عن الانبعاثات الكربونية عبر التعهد بتقديم حوالي 2 مليار يورو من الإعانات الحكومية لتسهيل هذا المسار. بحسب “بوليتيكو“.
ومن الجدير بالذكر أن هذه التحديات الاقتصادية امتدت تبعاتها إلى قطاع الإسكان، إذ تصاعدت أزمة نقص السكن على خلفية تأثير ارتفاع أسعار الفائدة، وتزايد تكلفة البناء، بجانب ارتفاع أسعار الطاقة وهو ما انعكس بشكل سلبي على وفاء الحكومة بالتزاماتها السنوية، وأيضًا على المطورين العقاريين والمواطنين؛ الأمر الذي مثّل فرصة أمام اليمين المتطرف استغلت خلال الحملات الانتخابية.
- تبعات ممتدة: لا يزال صدى تداعيات سياسات الهجرة المتبعة منذ المستشار السابقة “أنجيلا ميركل” ذا تأثير في اتجاهات التصويت وخاصة في الولايات الواقعة في شرق البلاد، فوفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات كانت الهجرة، والجريمة، والحماية الاجتماعية أكبر ثلاثة مخاوف لدى المستجيبين في الولايتين. الأمر الذي وظفه اليمين المتطرف، وتجلى في الدعاية الانتخابية لحزب “البديل من أجل ألمانيا” عبر نشر صور عليها “طائرات ركاب في أثناء تحليقها وشعار الحزب: “الصيف، أشعة الشمس، الهجرة مرة أخرى!”، بجانب توزيع بالونات على شكل “طائرات ترحيل” في تجمعات للحزب. وفقًا لـ “فايننشال تايمز“.
كما دعت إحدى الناشطات خلال تجمع بولاية تورينغن إلى “إعادة الهجرة”، قائلةً: “نحن لا نريد مجتمعًا متعدد الثقافات- نريد إنقاذ ألمانيا”. ويُضاف إلى ذلك، انتقاد رئيسة الحزب “أليس فايدل” أحزاب الائتلاف بجانب الاتحاد المسيحي الديمقراطي لـ “سياستهما بشأن الهجرة” في سياق حادثة القتل التي وقعت قبل الانتخابات بمدينة زولينغن وأودت بحياة ثلاثة أشخاص، ونفذها سوري كان يفترض ترحيله. وبرغم محاولة الحكومة احتواء الوضع عبر إعلانها عن جُملةِ من التدابير الرادعة والوقائية، فإن نتائج التصويت في تورينغن وساكسونيا كشفت أن هذه التدابير لم تكن مُتناسبة مع مخاوف الناخبين.
انعكاسات متتالية
انطلاقًا من إدراك الحكومة الائتلافية لخطورة صعود قوى اليمين المتطرف على الديمقراطية الألمانية، فمن المحتمل أن تواصل الحد من تأثير هذا الصعود وتطويق تبعاته على القرار الألماني داخليًا وخارجيًا، مع العمل على استعادة ثقة الناخبين الألمان خاصة في الولايات الشرقية لتضييق الفجوة بين الشرق والغرب، وللحد من تحديات عملية الاندماج، علاوة على تقليل فرص استقطاب الشباب من قبل أحزاب المعارضة وخاصة المتطرفة وذلك من خلال تبني مجموعة من الإجراءات تتجلى في توفير فرص معيشية متكافئة بين الشرق والغرب، بجانب زيادة عدد الألمان الشرقيين المُعينين في المناصب القيادية، وذلك وفقًا لما أشار إليه المستشار الألماني خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الرابعة والثلاثين لإعادة التوحيد.
هذا بجانب تسريع وتيرة عمليات ترحيل اللاجئين مُرتكبي الجرائم، علاوة على الحد من تدفقات موجات الهجرة عبر الحدود من خلال مواصلة إغلاق الحدود مع أربع دول أوروبية وهم: لوكسمبورج، وهولندا، وبلجيكا، والدنمارك، من جانب واحد لمدة ستة أشهر بدءًا من السادس عشر من سبتمبر 2024، ليصل عدد الدول التي قررت ألمانيا إغلاق الحدود البرية معهم تسع دول أوروبية ثمانٍ منهم أعضاء في نظام شنغن.
رغم ذلك من المُتوقع أن يتحول حزب “البديل من أجل ألمانيا” إلى ما يطلق عليه “الرقم المُعطل” في معادلة استقرار الداخل الألماني. وذلك نتيجة تخوف باقي الأحزاب من العمل معه بالتزامن مع تمكنه من الاستحواذ على المزيد من المقاعد داخل برلمانات الولايات، فعلى سبيل المثال، من المُحتمل أن يحصل على حوالي 32 مقعدًا من إجمالي 88 مقعدًا في ولاية تورينغن، وهو ما قد يمنحه القدرة على تعطيل القرارات التي تتطلب ثلثي الأصوات لتمريرها مثل: تعيين كبار المسئولين الأمنيين والقضاة، أما في ساكسونيا فمن المُرجح أن ينال حوالي 40 مقعدًا من إجمالي 120 مقعدًا، وهو ما يعتبر رقمًا مؤثرًا أيضًا. بينما ولاية براندنبورغ فمن المرجح أن يحاول الاشتراكيون تقليل فرص حزب “البديل من أجل ألمانيا” في التأثير في قرارات الولاية، أما من خلال العمل مع حزب (BSW) أو عبر التعاون مع الاتحاد المسيحي الديمقراطي، وبرغم ذلك سيتطلب الأمر تقديم المزيد من التفاهمات للحد من المواقف الخلافية بينهما.
في المقابل؛ من المُرجح أن يحاول حزب (BSW) اليساري تبني موقف حزب “البديل من أجل ألمانيا” نفسه حول بعض الملفات مثل، الهجرة والحرب في أوكرانيا، ولكن باعتباره حزبًا “محافظًا” وليس “متطرفًا”، قادرًا على المشاركة في تشكيل الحكومات الإقليمية، وهو ما نوهت عنه زعيمته بأنها ترفض التعاون مع حزب “البديل من أجل ألمانيا” وترغب في العمل مع حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي لتشكيل حكومة.
وعليه، قد يتحول الحزب الجديد إلى ما يُعرف باسم “صانع الملوك” بمعنى أن يصبح شريك محتمل سواء للمحافظين في الانتخابات المقبلة على المستوى المحلي أو الوطني، في حالة إذا ما رغب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في عدم الانفتاح على العمل مع يسار الوسط واليسار في ضوء تراجع شعبيتهم خاصة حزب الخضر والديمقراطي الحر، الذين عانوا من خسائر انتخابية كبيرة في الولايات الثلاث أدت، على سبيل المثال، إلى إعلان زعيمي الخضر في الخامس والعشرين من سبتمبر عن استقالة الهيئة التنفيذية بحلول شهر نوفمبر المُقبل، في محاولة للبحث عن قيادات جدد لاستعادة ثقة الناخبين.
ختامًا، بالرغم من أن نتائج الانتخابات التي أُجريت في الولايات الشرقية الثلاث ليست مؤشرًا كافيًا للحكم على تراجع الاندماج بين الشرق والغرب، فإنها كاشفة عن المزيد من التحديات التي تشهدها أحزاب الائتلاف الحاكم بعد انتخابات البرلمان الأوروبي. كما أوضحت أن الفروق بين أقصى اليمين واليسار الشعبوي أضحت طفيفة في إطار الاستحقاقات الانتخابية، علاوة على ذلك من الواضح أن التحولات الداخلية وتبعات التطورات التي يشهدها النظام الدولي ستفرض على القوى السياسية الألمانية المختلفة إعادة صياغة توجهاتهم الداخلية والخارجية للوصول إلى توافقات تسهم في تشكيل حكومات إقليمية مستقرة، بجانب بناء ائتلافات حاكمة قادرة على تعزيز مكانة ودور الدولة الألمانية، في ظل تنامي صعود اليمين المتطرف واليسار الشعبوي.