منذ الأسابيع الأولى لشن إسرائيل هجومها على قطاع غزة قبل نحو عام بدأ الحديث عن ترتيبات “اليوم التالي” للحرب، وكان الأميركيون أول من باشر هذا السجال ومع الإسرائيليين تحديدا على نحو بدا معه أن الحرب وإن طالت أكثر من المرات السابقة فلن تطول كثيرا. لكن ما حصل كان العكس تماما، إذ طالت الحرب ودخلت المنطقة معها في وضع غير مسبوق بالمرة تتزايد فيه كل يوم احتمالات العنف واتساعه، وبالتزامن لا يزال الحديث عن “اليوم التالي” قيد التداول سواء في غزة أو في لبنان، وبذلك يصبح هذا الحديث وكأنه تسليم باستطالة الحرب وتغطية عليها.
ما يجب استخلاصه هنا أن العنف بالشكل الذي تبادر إليه إسرائيل وتوسعه أكثر فأكثر لا يمكن أن يكون مدخلا للاستقرار والسلام في المنطقة، وهو ما يرخي بظلال ثقيلة وبستار من السوداوية على “اليوم التالي” الذي لا يمكن أن تكون ترتيباته سلسة وتلقائية وكأنها معادلة منطقية وسياسية يمكن أن يقيمها الطرف الأقوى والمنتصر في الحرب على حساب الطرف المهزوم. إذ إن مجريات الحرب نفسها ومقدار العنف الذي تشهده والمتفلت من أي عقال تؤشر إلى أن “اليوم التالي” سيكون عسيرا لكونه أقرب إلى فرض أمر واقع بالقوة منه إلى تسوية بين الأطراف المتحاربة.
وعليه لا يمكن الظن بأنّ تغيير المعادلات الصراعية القديمة في الشرق الأوسط من خلال الحرب سينتج عنه معادلات استقرار جديدة. بمعنى آخر فإن توجيه ضربة قوية إلى النفوذ الإيراني في المنطقة لا يعني حكما أن المنطقة مقبلة على هدوء وتعافٍ من كل النكبات التي حلت بها وما تزال. إذ إن النكبات الجديدة التي تسببت بها الحرب هي أشد خطرا وهولا من كل نكباتها السابقة والتي كانت في أكثريتها نتيجة “حرب الظل” بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة ثانية والتي تسببت في انهيار دول المنطقة بدءا من العراق مرورا بسوريا ولبنان ووصولا إلى اليمن “البعيد”.
مآلات الحرب ويومها التالي سواء في لبنان أو غزة لا تقتصر فحسب على ما يحصل الآن وعلى موازين القوى الراجحة لصالح إسرائيل بدعم أميركي وغطاء أوروبي
غالب الظن أن هذه الحرب لن تطوي صفحة الصراع بل ستعيد إنتاجه بأشكال أخرى ربما تكون أعنف وأشد وطأة على دول ومجتمعات المنطقة بل وعلى إسرائيل نفسها التي تحاول أن تغيّر الواقع المحيط بها والمهدد لها بالقوة وحدها من دون أي أفق للسياسة وللدبلوماسية. تلك القوة التي لا ضوابط ولا رادع لها، وكأنها الأداة الوحيدة، وذلك وحده كاف لاستبعاد الحلول السياسية ولاستبعاد أي أفق لتسوية حقيقية.
وهذا العنف العاري الذي تستخدمه إسرائيل والذي أصبح مرادفا لها لا يمكن أن يستولد سوى مشاعر الثأر والمظلومية والتي تستولد بذاتها وفي ظرف معين عنفا مقابلا، وهذا أيضا استبعاد إضافي للسياسة وإمكاناتها. والشواهد التاريخية على ذلك ليست بقليلة، وفي هذا الصراع تحديدا، فإخراج ياسر عرفات و”منظمة التحرير الفلسطينية” من بيروت بالقوة في عام 1982، لم يمنع خروج الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد سنوات في عام 1987 داخل الأراضي المحتلة، ولم يمنع أيضا دخول لبنان في جولة جديدة من الحرب الأهلية وبمسارات وديناميات جديدة لم يكن الفلسطينيون الذين بقوا في لبنان خارجها كما حصل في حرب المخيمات بدءا من عام 1988.
أ ف ب
صورة التقطت من مدينة صور في جنوب لبنان تظهر تصاعد الدخان من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية صديقين في 21 أكتوبر
رب قائل إن الضربات التي تلقتها “حماس” وكذلك “حزب الله” أقوى من تلك التي تلقتها “منظمة التحرير” في عام 1982، وإنّ الظرف الإقليمي والدولي الآن مختلف عما كان عليه مطلع الثمانينات، لكن الصحيح أيضا أنه لا يمكن بناء خلاصات نهائية على ما يحصل الآن لناحية سعي إسرائيل للقضاء على كل من “حماس” و”حزب الله”. مع العلم أنه حتى الآن لا يمكن مقارنة وضع “حماس” بوضع “حزب الله”، فإذا كانت قوة الحركة الفلسطينية قد تآكلت على مدى عام من الحرب فإن “الحزب” وعلى الرغم من الضربات المفاجئة وغير المتوقعة التي تلقاها أخيرا وخلال أقلّ من ثلاثة أسابيع لا يزال موجودا في المعادلة وبدعم وإدارة إيرانية مباشرين.
لكن مرة جديدة، فإن توقع مآلات الحرب ويومها التالي سواء في لبنان أو غزة لا يقتصر فحسب على ما يحصل الآن وعلى موازين القوى الراجحة لصالح إسرائيل بدعم أميركي وغطاء أوروبي. حيث إن تل بيب التي برهنت عن تفوقها العسكري والتكنولوجي تبدو وكأنها لا تمتلك سوى هذا التفوق الذي سيتحول عاجلا أم آجلا إلى عبء عليها ما دامت لا تبحث عن/ ولا تريد مخارج سياسية للصراع، بل إنها تريد أن تنهي هذا الصراع، ولا سيما مع الفلسطينيين بالقوة وحدها، أي أن تجعلهم غير قادرين على مقاومة شروطها ومخططاتها لا في غزة ولا في الضفة الغربية. بمعنى آخر هي تريد أن يستسلم الفلسطينيون مرة واحدة وأخيرة، وهذا لا يبدو أنه سيحصل، حتى مع استخدام إسرائيل كل هذا العنف ضدّهم طوال عام كامل، وهو ما يفسّر حقيقة المعضلة التي يطرحها تحوّل القوة والعنف إلى أداة وحيدة في أيدي إسرائيل.
بيد أن الأمر مختلف مع “حزب الله” لأن طبيعة الصراع بينه وبين إسرائيل مختلفة ولأن أهداف تل أبيب في لبنان مختلفة عنها في الأراضي الفلسطينية، وبالتالي فإنّ التسوية بين إسرائيل و”الحزب” تبقى ممكنة ومحتملة وإن كانت تل أبيب تحاول الآن إضعاف “حزب الله” ودفعه إلى القبول بشروط تناسبها لوقف إطلاق النار، لكن في الأصل فإن التسوية بين الطرفين غير مستحيلة، وهذا فارق أساسي عما يحصل في غزة وحتى في الضفة الغربية باعتبار أن إسرائيل لا تريد أي تسوية مع الفلسطينيين بل على العكس تماما فهي تريد تصفية قضيتهم نهائيا.
المنطقة كلها تعيش الآن أكثر اللحظات خطورة مع الاقتراب أكثر فأكثر من احتمال توسع المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران
والحل فإن قراءة الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل لا تستقيم من دون قراءة الصراع الإيراني الإسرائيلي، وهو صراع لا يزال حتى الآن (!) محكوما بضوابط معينة كجزء من معادلات دولية وإقليمية ترعاها أميركا. ولو كانت الحرب الدائرة حاليا في المنطقة ومن ضمنها سلسلة الردود المتبادلة بين إسرائيل وإيران تعيد إنتاج هذه الضوابط في ظل مسعى تل أبيب- وبدعم أميركي- لجعلها في مصلحتها سواء من خلال تقليص نفوذ طهران في المنطقة، أو من خلال جعل الرد على الهجوم الإيراني الأخير مؤلما للنظام في طهران وربما جعله مهددا له حتى. أو بأقل تقدير جعل هذا الرد يؤسس لمعادلة ردعية جديدة تجعل طهران أكثر استعدادا لتقدم خيار التفاوض على خيار المواجهة، ولاسيما أنها منهمكة بأولويات داخلية جعلتها حذرة جدا في التعامل مع الحرب الحالية، وهذا ما دفع ثمنه حلفاؤها في غزة ولبنان ولا يزالون.
أ ف ب
رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يلتقي المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكشتاين في بيروت في 21 أكتوبر
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن المنطقة كلها تعيش الآن أكثر اللحظات خطورة مع الاقتراب أكثر فأكثر من احتمال توسع المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، في ظل انتظار رد تل أبيب على هجوم طهران ضدها والذي لا يمكن توقع أهدافه ومداه، ولا يمكن أيضا- وهذا هو الأهم- توقع مدى التأثير الأميركي فيه في حال أخذ في الحسبان أن واشنطن تخشى توسع هذه المواجهة ولا سيما عشية الانتخابات الرئاسية بعد نحو أسبوعين.
بيد أن نجاح واشنطن في إبقاء المواجهة مضبوطة بين إيران وإسرائيل في حال حصل، لا يؤسس بالضرورة لنجاح أميركي في لبنان وغزة لناحية قدرة واشنطن على التوسط وصياغة تصور لـ”اليوم التالي” فيهما، خصوصا أن أميركا لا تبدو حتى الآن مستعجلة لبتّ هذا التوسط وهذه الصياغة، وإن كانت الإدارة الحالية تقوم راهنا بمحاولات أخيرة وخصوصا في لبنان من خلال الزيارة “الأخيرة” لآموس هوكشتاين، لكنها محاولات محكومة بالفشل ما دامت إيران غير مطمئنة بعد على مستقبل ضوابط الصراع مع إسرائيل وأميركا. وكل ذلك يؤشر إلى العنف الحاصل اليوم لم يبلغ نهاياته وأنّ “اليوم التالي” ضبابي وبعيد.