اللواء محمد إبراهيم الدويري
من المؤكد أن الأحداث الأخيرة التي وقعت في الداخل الإسرائيلى وكذا تلك التي شهدتها الضفة الغربية المحتلة ولازالت بعض جوانبها تجري في بعض مدن الضفة ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك تطرح تساولاً شديد الأهمية مفاده ماذا تريد إسرائيل وماذا تنتظر وماذا تتوقع ؟ وهل عمليات العنف التي وقعت قد إرتبطت بأسبابٍ معينة ؟ وهل ستكون هذه العمليات هي الأخيرة أم أنها سوف تتواصل وتتطور خلال المرحلة المقبلة ؟ وحتى أكون موضوعياً لابد أن أعمم نفس التساؤل على الجانب الفلسطين، فماذا يريد الفلسطينيون وماهي مطالبهم وماهي رؤيتهم للمستقبل ؟.
لا أريد أن أركز فقط في هذا المقال على أسباب التصعيد الأخير سواء داخل إسرائيل أو في المناطق الفلسطينية والأسباب والدوافع المرتبطة بهذا التصعيد ، ذلك أن الأهم فى رأيى أن أتناول هذا الموضوع بصورة أشمل وأعمق وصولاً إلى تحديد طبيعة جذور الأزمة كيف يمكن معالجتها من أساسها حتى لا تتكرر مثل هذه العمليات وحتى نتوصل في النهاية وقدر المستطاع إلى حالة من الهدوء والسلام .
وإذا بدأت بالتعرض بالشرح والتوضيح للموقف الفلسطينى فإنى أجزم هنا ودون أى تحيز بأن مطالب الفلسطينيين واضحة ومحددة ومشروعة ولاتتضمن أية مبالغات حيث يمكن القول أن أقصى طموح الشعب الفلسطيني يتمثل يى أن تكون له دولة مستقلة ذات سيادة متواصلة الأطراف على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية تعيش جنباً إلى جنب بجوار دولة إسرائيل في أمن وسلام وإستقرار وأن يتم تحقيق هذا الهدف من خلال المفاوضات .
ومن الضروري أن أشير هنا إلى أن الدولة الفلسطينية المزمعة سوف تكون في هذه الحالة – إذا تحقق ذلك الهدف – على حوالى 22% من مساحة فلسطين التاريخية وهذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فإن الجانب الفلسطيني تأكيداً لمرونته لا يمانع من حيث المبدأ في أن تضم إسرائيل بعض الأراضى الفلسطينية المقام عليها بعض المستوطنات ولكن بشرط رئيسى وهو أن يضم الفلسطينيون في المقابل بعض الأراضى الإسرائيلية وذلك في إطار ما يسمى بعملية تبادل الأراضى بين الجانبين SWAP على أن يتم هذا التبادل بنفس القيمة والنسبة وألا يزيد عن 2% على الأكثر .
وفي هذا المجال من الإنصاف أن أشير إلى أن الجانب الفلسطينى قد أبدى كل أوجه المرونة الممكنة خلال سنوات طويلة من التفاوض بدأت منذ إتفاقات أوسلو التي شهدت إعترافاً واضحاً وصريحاً من جانب منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ومروراً بما يسمى بتفاهمات أولمرت / أبو مازن عام 2007 ووصل الأمر إلى تقديم الرئيس الفلسطينى محمود عباس “أبو مازن” خلال خطاب ألقاه في مجلس الأمن فى شهر فبراير 2018 رؤية سلام شاملة تتضمن حلولاً واقعية لكافة قضايا الحل النهائى بما فيها القدس واللاجئين والأمن والحدود، ولايزال الموقف الفلسطيني حتى الآن يتبنى بكل صدق التوجه نحو السلام ونبذ العنف والإرهاب .
وإذا إنتقلنا إلى الموقف الإسرائيلي فسوف نجد أن كافة تحركات وسياسات ومواقف القيادة الإسرائيلية تشير إلى أن قضية السلام قد أسقطتها الحكومات المتعاقبة وحتى حكومة “بينيت” الحالية من أجندتها ، ليس ذلك فقط بل لا توجد أية دلائل حتى الآن على أنه يمكن أن يكون هناك تغييراً إيجابياً فى الموقف الإسرائيلى خاصة مع تزايد قوة التوجهات اليمينية والدينية المتشددة بالإضافة إلى ضعف التوجهات اليسارية التي تشارك في الحكومة الحالية، في الوقت الذي تتحين فيه المعارضة بزعامة رئيس الوزراء السابق “بنيامين ناتانياهو” الفرصة للإنقضاض على الحكم مرة أخرى وبالتاي نستمر في نفس الحلقة المفرغة .
والأمر الغريب أن إسرائيل لم تقم حتى الآن ببلورة رؤيتها الرسمية للسلام التي لا يعرف أحد معالمها أو حدودها بشكل قاط، كما لم تقبل تل أبيب بمبادرة السلام المعتدلة التي طرحتها الدول العربية فى قمة بيروت عام 2002 والتى تتبنى مبدأ التطبيع والسلام الشامل مع إسرائيل في مقابل الإنسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة .
وفي نفس الوقت فإن كل ما يمكن أن نستخلصه من مواقف وتصريحات القيادة الإسرائيلية لا يخرج عن معارضة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ورفض مبدأ حل الدولتين طبقاً للمفهوم الدولى الذى تم إقراره فى العديد من القرارات والمبادرات ، حتى أن إسرائيل ترفض مبدأ الدولة الواحدة أيضاً رغم أنني أعارض تماماً هذا الحل الغير واقعي الذى سوف يجعل من الفلسطينيين مواطنين من الدرجة الثانية .
ولاشك أن أحد الجوانب السلبية في مواقف إسرائيل يتمثل في أنها لم تستثمر حتى الآن وجود قيادة فلسطينية معتدلة برئاسة رجل سلام يتبنى التوجهات السلمية الواقعية ويرفض العنف وهو الرئيس “أبو مازن”، الأمر الذي يثير تساؤلاً من نوعٍ آخر وهو ماذا تتوقع إسرائيل في مرحلة مابعد الرئيس أبو مازن ؟ وهل تؤجل خطواتها إنتظاراً لهذه المرحلة ؟ وفي رأيى أن القيادة الإسرائيلية سوف تكون واهمة للغاية إذا إعتقدت أن هناك قائداً أو زعيماً أو رئيساً أو مسئولاً فلسطينياً رسمياً يمكن أن يتنازل عن أىٍ من الثوابت الفلسطينية المعروفة حيث أن هذه الثوابت لا يملكها فرد أو شخص واحد بل كانت وسوف تظل ملكاً فقط للشعب الفلسطينى فى الداخل والشتات والتى لن يجرؤ أحد على التفريط فيها تحت أية ظروف .
وفي رأيي أن الأوان قد حان أن تراجع إسرائيل سياساتها التى تطبقها في المناطق الفلسطينية التى تتراوح بين الإعتقالات ومصادرة الأراضى والقتل وهدم المنازل والإقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى الذى يمثل أهمية دينية خاصة ليس للفلسطينيين أو للعرب فقط بل للعالم الإسلامى أجمع ، كما يجب على إسرائيل أن تراجع بدقة وتستخرج الدروس المستفادة من كافة التطورات السابقة سواء الإنتفاضتين الفلسطينيتين عامي 1987 وعام 2000 ثم الحروب الأربعة على قطاع غزة أعوام 2008 و2012 و2014 و2021 وطبيعة النتائج التي ترتبت على كافة هذه الأحداث وما أدت إليه من تأثيرات ليست فقط على مستوى الخسائر المادية والبشرية ولكن أيضاً تعميق مبادئ الكراهية والثأر والإنتقام بين الشعبين الإسرائيلى والفلسطينى تلك المبادئ السلبية التى تتعمق بمرور الوقت ولن يتم إنهاؤها إلا من خلال إقرار السلام العادل .
ومن الضرورى أن تعلم القيادة الإسرائيلية أن الإستقرار الكامل والأمن الشامل الذى تأمله لن يتحقق مطلقاً بدون أن توافق عن طواعية وعن قناعة على منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلة ، كما يجب عليها أن تعلم أن كافة معاهدات السلام التى أبرمتها مع العديد من الدول العربية حتى وإن منحتها بعض المزايا الإقتصادية والسياسية وغيرها من المزايا إلا أنها لن تمنحها الأمن الحقيقى الذى تنشده ، وأعتقد أن العمليات الأخيرة التى تمت داخل إسرائيل أو فى الضفة الغربية خير دليل على أن مثل هذه المعاهدات والإتفاقات سوف تظل قاصرة عن تحقيق أمن إسرائيل .
وفى نفس الوقت لابد أن تعى القيادة الإسرائيلية أن سياسة القبضة الحديدية التى تطبقها فى الضفة الغربية لم ولن تحول دون أن نرى عمليات متكررة يقوم بها شباب فلسطينى لايرى أى أمل فى المستقبل وبالتالى يعبر عن موقفه بهذه الطريقة ويشعر أنه ليس لديه ما يخسره ، ومن المؤكد أن العنف ليس أمراً مطلوباً أو مرغوباً على الإطلاق من أى جانب بل ومداناً تجاه الأبرياء ، ولكن لابد أن تقف القيادة الإسرائيلية مع نفسها مرة واحدة وتبحث بجدية وموضوعية عن الأسباب الحقيقية لهذه العمليات وهذا التصعيد الذى يتم بين فترة وأخرى ، وفى رأيى أن الموضوعية المجردة التى أطالب بها لابد أن تصل بإسرائيل إلى نتيجة واحدة مفادها أن إنسداد الأفق السياسى أمام الفلسطينيين يمثل السبب الوحيد لهذه العمليات التى يمكن أن تتطور فى مرحلة لاحقة إلى مالايحمد عقباه .
وفى رأيى أن المطلوب من القيادة الإسرائيلية – الآن وليس غداً – أن تتوقف عن كافة السياسات المتشدة التى تنتهجها تجاه الفلسطينيين وخاصة فى مجال الإستيطان وضم الأراضى وإقتحام المسجد الأقصى ، وأن تبدأ التفكير العملى الجاد نحو بدء عملية سياسية وإستئناف التفاوض مع الجانب الفلسطينى وطرح كافة قضايا الوضع النهائى على مائدة المفاوضات ، ومن المؤكد أنه فى هذه الحالة سوف تنفرج الأفق المسدودة ويبدأ الفلسطينيون يستشعرون أن هناك أملاً فى المستقبل وسوف يكونوا أكثر حرصاً على توفير المناخ الملائم لإنجاح هذه المفاوضات مادامت سوف تمهد لإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة التى لن تشكل تهديداً لأحد بل سوف تكون أحد ركائز الإستقرار والأمن فى المنطقة ، مع الأخذ فى الإعتبار أن الجانب الفلسطينى أبدى مراراً إستعداده لمنح إسرائيل الضمانات الأمنية المعقولة التى تطلبها بالتوافق وبشرط ألا يؤثر ذلك على سيادة وتواصل الدولة الفلسطينية .
وفى رأيى أن إستئناف المفاوضات الجادة التى تستند على أسس ومرجعيات مقبولة سوف تحقق أمن ومصالح الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى وسوف تتوصل إلى النتائج المرضية لكلا الطرفين مهما كانت صعوبتها المتوقعة ، وهو أمر ممكناً وليس مستحيلاً فى حالة إذا ما توصلت القيادة الإسرائيلية إلى قناعة بأن الحفاظ على أمن إسرائيل القومى يتطلب إقامة دولة فلسطينية وليس العكس .
ومن المؤكد أنه بدون هذا الحل السياسى فإن الفلسطينيين لن يكون أمامهم سوى إنتهاج كافة الوسائل سواء المشروعة أو غير المشروعة للتعبير عن مواقفهم وجذب المجتمع الدولى من أجل أن يعلم أنه لايزال هناك شعباً محتلاً كل أمله أن يحيا فى دولة مستقلة مثله مثل أية دولة أخرى فى هذا العالم .
وفى النهاية فإنى أود أن أؤكد أن الإنتفاضة الفلسطينية الثالثة إذا إنطلقت فإن الخسائر الجسيمة سوف تطال الجميع بلا إستثناء وأولهم بالقطع إسرائيل، وهو الأمر الذي يفرض على القيادة الإسرائيلية الإسراع بتقديم المرونة المطلوبة تجاه الفلسطينيين الذين لازالت أياديهم ممتدة نحو السلام ، حيث أنه لا أمل لإسرائيل فى سلام وتطبيع حقيقى دائم مع الدول العربية والإسلامية – مهما تعددت إتفاقات التطبيع – دون المرور من بوابة واحدة إسمها الدولة الفلسطينية المستقلة .
.
رابط المصدر: