يُعد تنظيم داعش من أكثر الجماعات الإرهابية استغلالًا لتكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام المختلفة، وقد استطاع التنظيم تطوير استراتيجية إعلامية من خلال تكنولوجيا الاتصال، واستخدم كل الوسائل في عالم التكنولوجيا والمعلومات، لينفذ دعاية له على هذه المواقع التي نجحت في نشر أفكاره، ومكنته من تجنيد أعضاء جدد، والحصول على الدعم المادي والمعنوي من مؤيدي هذه الجماعات. ولذلك، تظهر الأهمية لدراسة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، لتحديد مضامين هذا الخطاب في فترة تمدد التنظيم ثم مدى الاختلاف والتغير في هذا الخطاب بعد انحسار التنظيم وفقدانه مناطق سيطرته، من خلال تحليل الاستراتيجية الإعلامية للتنظيم.
أولًا: العلاقة بين الإعلام والإرهاب
يرتبط الإرهاب ارتباطًا وثيقًا بالإعلام، فمن البداية قد جمع الإرهاب ما بين العاملين الاتصالي والعامل النفسي. ويُعد الهدف الأول والاستراتيجي لأي عملية إرهابية هو الحصول على تغطية إعلامية تتميز بالتهويل والتضخيم والترهيب، بهدف الوصول لأكبر عدد من الجماهير المتابعة؛ للتأثير في الرأي العام، ومن ثم التأثير على صنع القرار.
وتنحدر كلمة “الإرهاب” من الكلمة اللاتينية (terror)، التي تعني “إثارة الرعب أو الفزع”. وكان أول استخدام لكلمة الإرهاب في العصر الحديث استخدامًا واسع النطاق خلال المرحلة الشعبية من الثورة الفرنسية، في الفترة بداية من يونيو 1793 إلى يوليو 1794، والتي تعرف في فرنسا باسم عهد الإرهاب، والتي أدت للاضطرابات التي أعقبت الإطاحة بالملكية وإغراق الأمة في حالة من الفوضى. وحكمت المحكمة الثورية على آلاف المقاتلين بالإعدام بقطع الرأس وأن يكون التنفيذ بشكل علني، وقد نفذت عمليات الإعدام أمام جمهور كبير وكانت ترافقه الدعاية المثيرة، وبالتالي المقصود هو نشر الخوف لإيقاف الفوضى.
وفي الوقت الراهن، أصبح للإرهابيين فرص جديدة لممارسة أهدافهم المتمثلة في نشر الخوف والفزع، وذلك من خلال تقدم تكنولوجيات الاتصال. فحلت وسائل الإعلام والتكنولوجيا محل الجمهور في عمليات الإعدام في الساحات. ومنذ أن أدركت الجماعات الإرهابية أهمية وسائل الإعلام في الوصول إلى الجماهير العالمية، لم تتأخر عن القيام بالاستغلال الأمثل لوسائل الإعلام لتحقيق أهدافها بنشر رسائلها؛ فقد غزت التنظيمات الإرهابية وسائل الإعلام وخاصة الإعلام الجديد، وأصبح لديها الآلاف من المواقع الإلكترونية التي تستغلها لأغراض الدعاية ونشر المعلومات وتجنيد الشباب وجمع الأموال والاتصال والتنسيق مع أتباعها. فقد صُنِّف الإعلام كأداة حيوية لنجاح التنظيمات الإرهابية.
ويُعد تنظيم داعش من أكثر التنظيمات الإرهابية استغلالًا لكافة وسائل الإعلام، وبالرغم من أن داعش لم يكن أول التنظيمات الإرهابية استخدامًا لوسائل الإعلام، لكنه استخدمها بشكل فعال جدًا؛ حيث استخدم التنظيم مواقع الإنترنت، والمجلات الإلكترونية، والمواقع الاجتماعية المختلفة، وتقنيات الاتصالات الجديدة. واعتمد على استراتيجيته الإعلامية كأداة للاستخبارات لتحقيق أهدافه. ولم تكن هذه الاستراتيجية صدفة أو وليدة اللحظة، وإنما سياسة إعلامية مركبة ويخطط لها جهاز إعلامي مؤسس على نظام فعال يتبع استراتيجيات معينة هدفها تثبيت خلافة التنظيم كقيادة للعالم الإسلامي.
ثانيًا: الاستراتيجية الإعلامية لتنظيم داعش
امتلك التنظيم في الفترة منذ الإعلان عنه عام 2014 وحتى انحسار سيطرته على الأرض في سوريا والعراق عام 2016، استراتيجية إعلامية متكاملة وأدوات إعلامية، مكنته من تشكيل خطاب إعلامي متكامل، ساعد التنظيم على نشر رسائله وتحقيق أهدافه.
أدوات التنظيم في نشر رسائله
امتلك “داعش” هيكلًا تنظيميًا رسميًا للإعلام (وزارة إعلام)، ولكنّه كيان افتراضي، حيث رفض قيادات “داعش” فكرة تأسيس الوزارة على أرض الواقع، خوفًا من استهدافها من قبل الغارات الأمريكية أو الجيش العراقي، في ذلك الوقت. وقد خصص أبو بكر البغدادي (زعيم التنظيم في ذلك الوقت) ما يقارب المليون دولار كميزانية مبدئية لتأسيس تلك الوزارة الافتراضية، التي أدارت أدوات أبواق التنظيم الإعلامية من قنوات راديو وتلفزيون.
واعتمد داعش على استراتيجية إعلامية تقوم على دمج وسائل الإعلام التقليدي والجديد، فامتلك التنظيم شبكة من مختلف الأدوات الإعلامية من قنوات تلفزيونية أو محطات إذاعية أو المجلات الإلكترونية المتوفرة في مختلف مواقع الويب المجانية، وتم إصدارها بلغات متعددة لجذب جمهور واسع، خصوصًا المقاتلين الشباب من الدول الغربية. وفيما يلي أبرز الأدوات التي اعتمد عليها التنظيم في استراتيجيته الإعلامية:
القنوات الإعلامية
تظهر احترافية الاستراتيجية الإعلامية لداعش من خلال قدرة التنظيم على توظيف الإعلام المرئي والمسموع لخدمة أهدافه الترويجية، فعمل على إنشاء أذرع إعلامية له.
فقد قام بإنشاء محطة راديو تُسمى “البيان” ومحطة تلفزيون “مركز الحياة الإعلامي”، بالإضافة إلى الخدمة الإخبارية عبر الإنترنت شبكة “عمق الإخبارية”، وامتلكت داعش أيضًا مؤسسة “الفرقان” وهي الجناح الإعلامي الرسمي للمجموعة، ومؤسسة “الاعتصام” التي اختصت ببث المعارك في سوريا والعراق من خلال عدد من المراسلين، وأيضًا أكثر من 100 مادة إعلامية عن التنظيم بعدة لغات مختلفة، بالإضافة إلى مؤسسة “أجناد” حيث يتم فيها تسجيل الأناشيد الدينية والجهادية، المصاحبة لمقاطع الفيديو المصورة لعمليات التنظيم، ومؤسسة “البتار” ومؤسسة “الخلافة”، وقناة “الحياة”، المتخصصة في إجراء الحوارات التليفزيونية مع قيادات التنظيم، وعمل مونتاج للفيديوهات التي تصور عمليات قتل المختطفين التي يقوم بها التنظيم، وأيضًا كان لكل ولاية من ولايات الدولة الإسلامية منفذها الإعلامي الخاص الذي يركز على أخبار المناطق المحلية تحت سيطرتها.
الاتصالات المشفرة
قام التنظيم بتطبيق تقنيات الكمبيوتر المتقدمة مثل أدوات القرصنة، وبرامج التشفير، والتي سهّلت إخفاء الهوية والمحادثات، من أجل نشر برامجها حول العالم. كما شجع داعش أتباعه على البدء في استخدام التقنيات الجديدة، مثل تطبيق “تليجرام” لتجنب المراقبة. حيث إن التطبيق أعلن عن نفسه، في هذا الوقت، كنظام المراسلة الفورية فائقة الأمان؛ لأن جميع البيانات مشفرة من البداية إلى النهاية، كما تميز بخاصية المحادثة السرية وخاصية التدمير الذاتي للرسائل، بالإضافة إلى إمكانية إنشاء العديد من القنوات على المستويات الخاصة والعامة بلغات متعددة، وبالتالي توليد شبكات مخصصة لضمان أهداف تشغيل المعلومات الخاصة بها، مثل قنوات “أخبار الخلافة”، “أخبار الجهاد”، “إصدارات الخلافة”، “نقطة إعلام الدولة الإسلامية” و”شجرة الخلافة”. وبالتالي، مَثّل هذا التطبيق المحور الرئيسي لاتصالات داعش.
الفيديوهات عالية الجودة
اتجه تنظيم داعش إلى إنتاج فيديوهات عالية الجودة والإنتاج عادلت في جودتها وحرفيتها أفلام هوليود، واستخدمت هذه الفيديوهات كأداة إعلامية استهدفت فئة الشباب لتجنيدهم في صفوف التنظيم. وقد اتسمت هذه الفيديوهات بالمثالية في الإنتاج والتقنية، إلا أن المحتوى اختلف وفقًا للظروف، وعادةً ما ركزت أفلام الفيديو الدعائية على ثلاث روايات رئيسية هي: الاضطهاد، والطوباوية، والوحشية، وفي الغالب تضمنت مقاطع الفيديو الدعائية كل الروايات الثلاث.
وتضمنت بعض الفيديوهات تمجيدًا للمجاهدين، وتصويرهم كأبطال أسطوريين بحيث يبدو المقاتلون وكأنّهم فرسان خرجوا من الكتب أو من أحاديث التراث بما لديهم من صفات لا يمكن أن تجتمع إلّا في قلّة من الناس، وأيضًا تضمنت هذه الفيديوهات دعوة لشباب المسلمين للجهاد وترغيبهم فيه.
ألعاب الفيديو
استخدم تنظيم داعش ألعاب الفيديو في استهداف فئة الشباب؛ لأنه بإمكانها التأثير فيها وتغيير توجهاتها بسهولة؛ لذا قام التنظيم بتصميم ألعاب إلكترونية، وقام بتحميلها على المتاجر الإلكترونية، والمنتديات الجهادية بهدف توفيرها لمناصري التنظيم واستغلالها كأداة في عمليات التواصل بينهم، وتحقيق أهدافها من تحقيق الدعاية والانتشار، واستقطاب الشباب للتجنيد عبر التواصل معهم من خلال هذه الألعاب وغرف الدردشة الخاصة بها، كما حاول داعش استغلال هذه الألعاب لتحقيق المحاكاة للعمل الميداني على أرض الواقع من خلال التواصل بين أعضائها، وممارسة التخطيط والتواصل عبر خوض المعارك الافتراضية فيما بينها في هذه الألعاب.
واستخدم داعش أنماطًا رئيسية في تصميم ألعاب الفيديو، مثل تصميم ألعاب جديدة (في هذا الوقت) مثل لعبتها الأشهر “صليل الصوارم”، أو تعمل على إعادة تصميم ألعاب أخرى مثل “أرما3” وهي من الألعاب الحربية القتالية الأكثر شهرة على مستوى العالم، فتقوم بإعادة تصميم أجزائها، وإضافة تعديلات برمجية لإضافة الصور والأصوات التي تروّج لداعش وتمرر أجنداتها، وتنشر الأناشيد الداعشية التي تدعو للعنف والإرهاب، أو تصميم ألعاب على جوجل بلاي، وتصميم ألعاب فلاش.
منتديات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي
يُعتبر تنظيم “داعش” من أكثر التنظيمات الإرهابية استخدامًا لمواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث وفّرت شبكات التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وفيسبوك وتطبيقات المحمول ومنتديات الدردشة وما إلى ذلك، مجموعة واسعة من التسهيلات إلى داعش للتواصل مع مناصريه وداعميه وخاصة الشباب، ويمكن القول إن شبكات التواصل الاجتماعي خدمت أهداف تنظيم داعش بشكل لم يسبق له مثيلٌ لأي تنظيم إرهابي.
وبسبب الاستخدام الكبير من التنظيمات الإرهابية، اتخذت الشبكات الاجتماعية تدابير ضد صفحات هذه التنظيمات على مواقعها، وحددت قواعد الاستخدام التي تحظر استخدام خدماتها لتعزيز الأنشطة الإرهابية. فعلى سبيل المثال، اتخذت إدارة تويتر في يونيو 2014 إجراءات صارمة للحد من استخدام التنظيم للموقع، فتم إغلاق الحسابات الرسمية والعامة لتنظيم داعش علي تويتر في محاولة منه للحد من نفوذ داعش وقدرتها على بث رسالتها، وحظر تويتر نشر تهديدات مباشرة بالعنف ضد الآخرين واستخدام خدماته لأية أغراض غير قانونية، أو استخدامها من أجل دعم أنشطة غير مشروعة، وفي حالة مخالفة هذه الشروط يحتفظ تويتر بالحق باستخدام الإجراءات القانونية ضد من يقوم بذلك. وبالرغم من هذه الإجراءات استطاع التنظيم إيجاد العديد من الطرق للتحايل على عملية إغلاق حساباتهم على هذه المواقع.
مجلة دابق
أصبحت مجلة دابق إحدى المنصات الأساسية للاستراتيجية الإعلامية، ودابق هي مجلة دورية أطلقها “مركز الحياة الإعلامي” الذراع الإعلامي للدولة الإسلامية الاسم يشير إلى منطقة في شمال سوريا باسم دابق، وهي المنطقة التي حدثت فيها معركة مرج دابق التاريخية قرب حلب في سوريا في 1516 بين المماليك والعثمانيين، والتي انتهت بانتصار الجيش العثماني، واحتلاله لمعظم الشرق الأوسط شملت المنطقة بأسرها في سوريا وبنيت الإمبراطورية، و”دابق” هي بلدة سورية صغيرة بالقرب من الحدود التركية، وقد تم اختيار هذا الاسم للمجلة لما يحمله من بعد ديني حيث ذكر في الإسلام أنه ستحدث معركة فاصلة في آخر الزمان بين المسلمين وأعدائهم. وقد اقتبست المجلة مقولة للأب الروحي للتنظيم “أبو مصعب الزرقاوي” عن معركة آخر الزمان “الملحمة الكبرى” في دابق وقد بدأت الأعداد الخمسة عشر بهذه المقولة:
“The spark has been lit here in Iraq, and its heat will continue to intensify – by Allah’s permission – until it burns the crusader armies in Dabiq”
“قد أضيئت الشارة هنا في العراق وسوف تستمر حرارتها في الاشتعال -بإذن الله- حتى تحرق جيوش الصليبيين في دابق”، في إشارة إلى الملحمة الكبرى الفاصلة بين المسلمين والصليبيين في دابق.
وتعتبر دابق مجلة دورية بدأت كمجلة شهرية أطلقت في 5 يوليو 2014، ولكن سرعان ما أصبحت تصدر كل شهرين في عام 2015، وفصليًا في 2016. وركزت المجلة على قضايا التوحيد والهجرة والجهاد والجماعة، وكيفية تعزيز داعش لسلطتها، وتبرير أفعالها، وتنظيم استراتيجيتها العسكرية، وحربها ضد أعدائها، وأيضًا احتوت على خطب القادة.
وقد أطلقت باللغة الإنجليزية لاستهداف أكبر عدد من المشاهدين لتحقيق أهدافها من الدعاية والتجنيد. وأطلقت داعش 15 عددًا من المجلة باحترافية وجودة عالية، قد تصل عدد صفحات الأعداد لحوالي 100 صفحة، واحتوت هذه الأعداد على التقارير والمقالات والرسائل المستندة إلى الرسومات الإيحائية والصور الاستفزازية.
وتوقفت مجلة دابق بشكل مفاجئ في 31 يوليو 2016، وذلك بعد شعور التنظيم بقرب فقد السيطرة على مدينة دابق، وقد سارع التنظيم لإطلاق مجلة جديدة تحت اسم “رومية” في 5 سبتمبر 2016 قبل أسابيع من سقوط دابق من سيطرة التنظيم. ويشير توقيت هذا التغيير إلى معرفة مسبقة بتغيير وضع التنظيم وضعفه، وهذا التحضير المسبق لاستيعاب وضع التنظيم الجديد، وتضمنت هذه المجلة موضوعات عن التحريض على العنف المنفرد وتراجع التعبيرات عن الخلافة والدولة وذلك بسبب الهزائم المتكررة للتنظيم وفقدانه لمناطق سيطرته في العراق والشام.
واستطاعت الأدوات السابقة نشر الخطاب الإعلامي للتنظيم في فترة قوته وفي فترة انحساره وفقدانه مناطق سيطرته في العراق والشام، وفيما يلي سيتم استعراض مضامين الخطاب الإعلامي في الفترة بعد إعلان الخلافة في عام 2014، وفي الفترة التي انهار فيها التنظيم، وفقدان معاقله في سوريا والعراق بعد عام 2019.
ثالثًا: محتوى مضمون الخطاب الإعلامي لداعش في الفترة (2014-2019)
عودة الخلافة الإسلامية
ركز التنظيم في فترة قوته على إبراز انتصاراته الميدانية وتمدد سيطرته على الأراضي في سوريا والعراق، كما ركز على أن التنظيم يجسد مفهوم الإسلامية القائمة على منهاج النبوة، ودعا إلى هجرة المسلمين إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم؛ باعتبار أن الهجرة أصبحت إلزامًا على كل المسلمين، فقد دعا داعش المسلمين من جميع بقاع الأرض ومن مختلف الوظائف إلى الهجرة لأرض الخلافة “دار الإسلام” وترك “دار الكفر”، وكان هذا هو الخطاب المركزي لداعش في مختلف منصاتها الإعلامية وعلى رأسها مجلة “دابق”.
الدولة القوية
سعى التنظيم في هذه الفترة إلى تأطير نفسه في شكل الدولة القوية الفاعلة التي لديها إقليم وجيش كبير ويسيطر على عدد كبير من السكان، وتقوم الدولة الإسلامية ببناء المؤسسات والبنية التحتية للدولة جنبًا إلى جنب مع التوسعات العسكرية، ولها تقسيمات إدارية ومؤسسات قوية وتوفر الخدمات العامة والرعاية الصحية وتوفر المؤسسات التعليمية لتوفير احتياجات الدولة من الوظائف فتنشر مشاهد لتعليم الأطفال تلاوة وحفظ القرآن.
الوحشية والعنف
عمل التنظيم على إبراز العنف والوحشية المفرطة كوسيلة لخلق دعاية كبيرة؛ وبالفعل نجح التنظيم في إثارة الرأي العام العالمي، من خلال رفع مقاطع الهجمات العنيفة والوحشية على الإنترنت والسعي لترجمتها إلى لغات مختلفة. وأصبح الأسلوب الوحشي شكلًا من أشكال التسويق؛ حيث هدف التنظيم منه إلى إدخال صور العنف والوحشية في حياتنا اليومية، محاولين في ذلك بث الرعب في أنفس الجميع، في هذا الوقت، وخلق صدمة لدى العامة ولخلق شعبية له في الوقت ذاته.
التركيز على القضايا الدينية
أحد أهم محاور الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش التركيز على القضايا الدينية من أجل إضفاء الشرعية على ما تقوم به من أفعال من خلال الاستشهاد بالدين والنصوص الدينية، واستدعاء مفاهيم محددة من مفاهيم الأصولية الإسلامية الراسخة في علمي أصول الدين وأصول الفقه، وكذلك الراسخة في أفكار ابن تيمية وابن القيم، وأهمها مفاهيم الردة، والجهاد، والتكفير.
ومن أبرز القضايا الدينية في دعاية داعش هي “الجهاد” الذي اعتبره التنظيم هو الواجب الديني لجميع المسلمين. الجهاد هو ما يجب على المسلمين المشاركة فيه للحفاظ على عقيدتهم وضرورة للدفاع عن “الإسلام الحقيقي”.
التبريرات الدينية والاقتباسات للنصوص الدينية
اعتمد التنظيم على التبريرات الدينية والاقتباسات من القرآن والأحاديث الشريفة للرسول لإعطاء التنظيم شرعية دينية، وجذب الشباب من خلال التأكيد على أنه ينفذ الشريعة مستندا إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تم اختيارها وتوظيفها وتأويلها أو تفسيرها بشكل يخدم ويبرر أهداف وأفعال التنظيم. وأيضًا تم الاستناد إلى تفسيرات ومقولات لصحابة الرسول، ولعلماء الدين وخاصة “ابن تيمية” و”ابن القيم” التي تم اختيار بعضًا من تفسيراتهم وآرائهم الدينية وتأويلها كمحاولة لتبرير أفعالهم وآرائهم المتطرفة عن الأعداء.
خطاب الضحية
سيطر على خطاب داعش الظهور كضحية حيث تم تصوير المسلمين كضحايا؛ رغبةً في جذب المقاتلين الأجانب على اعتبار وجود صراع دائم في بلادهم بين المسلمين وغير المسلمين. ويعد الدفاع عن هؤلاء الضحايا، أحد الأسباب التي قد تدفع الناس للانضمام إلى الخلافة. وخطاب داعش عن الضحية لا يصوّر فقط مظالم المسلمين الذين يعيشون في مناطق حرب، مثل سوريا والعراق، لكنه أيضًا تأطير المظالم السياسية من المسلمين الذين يعيشون في البلدان الغربية. فالمسلمون في البلدان الغربية يعانون التمييز والإذلال، ولا يجوز لهم أن يعيشوا حياتهم بشكل كامل على أساس قواعد الشريعة والتقاليد الإسلامية. عدم القدرة على حضور الاحتفالات في المسجد وعدم القدرة على العثور على وظيفة هي جوانب من حياة المسلمين في الغرب تستخدم للتوضيح مظالم الناس. في دعاية الدولة الإسلامية، ترتبط هذه المظالم بنضال أوسع ضد المسلمين السنة في جميع أنحاء العالم.
رابعًا: محتوى مضمون الخطاب الإعلامي لداعش بعد عام 2019
في 23 مارس 2019، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية “القضاء التام” على “خلافة” تنظيم داعش، وكان لتراجع الخلافة المادية في العراق وسوريا تأثير مباشر على الإنتاج الإعلامي لداعش. فبدأ التنظيم في تطبيق استراتيجية إعلامية للتكيف مع خسائره الإقليمية.
إنتاج إعلامي أقل:
على الرغم من إدراك تنظيم داعش لأهمية الإعلام في توصيل رسائله وتحقيق أهدافه، إلا أن خسائر التنظيم أثرت بشكل كبير على إنتاجه الإعلامي، فقد أصبح الخطاب الإعلامي الحالي للتنظيم ضعيفًا وقليلًا جدًا من حيث الشكل والمضمون، إذا ما تمت مقارنته بخطابه السابق أثناء قوة التنظيم؛ حيث تحول التنظيم إلى اللا مركزية في الإنتاج الإعلامي، وفقدَ التنظيم غزارة الإنتاج والنشر مع توقف نشاط العديد من أذرعه الإعلامية السابقة، كما غابت المشاهد “الهوليوودية” التي تم إخراجها بدقة وعناية فائقة في السابق عن إصداراته ومقاطعه المرئية الحالية. وأصبح ينتج الآن مجموعة واسعة من محتوى الوسائط لتناسب المنصات المختلفة والجماهير المستهدفة، وتحول من نقل لقطات ساحة المعركة إلى نشر دروس تعليمية حول تصنيع الأسلحة.
وجاءت أبرز مضامين الخطاب الإعلامي لداعش كالآتي:
التحول إلى فكرة الخلافة الافتراضية:
بسبب فقدان “داعش” سيطرته على الأقاليم وهزيمته تحوّلت فكرة الخلافة من أمر على أرض الواقع إلى الخلافة الافتراضية والحفاظ على وجود افتراضي من خلال الاستفادة من التكنولوجيا والمنصات عبر الإنترنت، ففي مجلة “رومية”، التي جاءت كبديلة لمجلة دابق، غابت موضوعات كالبيعة للتنظيم، وغابت الموضوعات الخاصة بالهجرة إلى الخلافة وحلت بدلًا منها الموضوعات الخاصة بتنفيذ عمليات جهادية لأعضاء التنظيم في مناطق تواجدهم حول العالم.
التحريض على العنف وهجمات “الذئاب المنفردة”:
كان على التنظيم تكييف رسالته لتعكس التحول من السيطرة على الأراضي المادية وحكمها إلى إلهام الأفراد وتوجيههم لتنفيذ هجمات على مستوى العالم. وتحول الخطاب من خطاب القوة والسلطة إلى خطاب تحذيري عن القعود عن الجهاد، وأصبح الخطاب أيضًا تحريضيًا ضد الحكومات والأعداء والتشجيع على القيام بالعمليات الانتحارية أو الهجمات المعروفة باسم (الذئاب المنفردة) ضد الأعداء حول العالم وتشجيع النساء على القيام بمثل هذه الهجمات الإرهابية، وهذا يوضح تراجع عن الموقف السابق للمرأة بأن جهادها يقتصر على انتظار زوجها وعلي تربية أبنائها كما جاء في فترة قوة التنظيم؛ ولكن تم تأطير الرؤية لها في المجاهدة ضد الأعداء وأيضًا تم دعوة النساء إلى التبرع بالثروة والذهب للخلافة، هذا الاهتمام بدور النساء في الجهاد ترافق مع خسائر التنظيم ميدانيا وفقده لمناطق سيطرته.
التركيز على نشاط التنظيم في “ولايتي وسط وغرب إفريقيا:
ركز التنظيم في خطابه الإعلامي منذ عام 2019 على ولايات التنظيم بالأخص في القارة الأفريقية، التي أصبحت تشكل حيز كبيرًا من الخطاب الإعلامي للتنظيم، بالأخص انتصاراته في غرب ووسط إفريقيا، وهو ما يتسق مع اتجاه التنسيق لتثبيت تموضعه في إفريقيا، خاصة في إقليم الساحل والصحراء.
ختامًا،،
بمتابعة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش يمكن استخلاص عدة نتائج، أبرزها:
- ركز الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش على قضايا الجهاد والتوسع والانتشار والتمدد؛ في الفترة التي ترافقت مع تنامي قوة التنظيم العسكرية والميدانية وشهدت انتصاراته وتوسع مناطق سيطرتها في العراق والشام.
- شهد هذا الخطاب تغيرًا مع ضعف وانهيار التنظيم؛ حيث شهد غياب مواضيع كالخلافة وتحول التنظيم من فكرة الهجوم إلى الدفاع وتحول الخطاب من خطاب القوة والسلطة إلى خطاب تحذيري عن القعود عن الجهاد، وأصبح الخطاب أيضًا تحريضي ضد الحكومات والأعداء والتشجيع على القيام بالعمليات الانتحارية أو الهجمات المعروفة باسم (الذئاب المنفردة) ضد الأعداء حول العالم.
- تشجيع النساء على القيام بدور أكبر لدعم التنظيم تمويليًا أو بقيامهن بهجمات إرهابية أيضًا؛ هذا يوضح تراجع التنظيم عن موقفه السابق من المرأة -أثناء تمدده وقوته عن الموقف السابق- بأن جهادها يقتصر على انتظار زوجها وعلى تربية أبنائها. هذا الاهتمام بدور النساء في الجهاد ترافق مع خسائر التنظيم ميدانيا وفقده لمناطق سيطرته، ومحاولة لتشجيع الرجال على القيام بدورهم في الجهاد.
- بالنظر إلى الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش بصفة عامة، يظهر قدرة التنظيم على التكيف بسهولة مع الظروف المتغيرة. فالتغييرات في القضايا المطروحة يتوافق دائمًا مع المتغيرات العالمية حول التنظيم.
- على الرغم من أن داعش عانى من خسائر وهزائم إقليمية، إلا أن استراتيجيته الإعلامية لا تزال تشكل جانبًا مقلقًا من عملياته. ومع طبيعة وقدرة التنظيم في التكيف على أي متغيرات إقليمية ودولية، ومع قدرته على الاستغلال الأمثل للتكنولوجيا ووسائل الاتصالات المتطورة؛ من المرجح أن يعود التنظيم باستراتيجية إعلامية قائمة على أدوات تكنولوجية متطورة من الذكاء الاصطناعي التي قد تتيح لها نشر المعلومات المضللة واختراق المجتمعات الآمنة.
.
رابط المصدر: