د. عماد عبد اللطيف سالم
عندما أرادَ الانجليزُ أن يجعلوا من العراق “الحديث” دولة، اختلفَ العراقيّونَ على رئاستها، كانَ الاختلافُ مُرّاً ومُخجِلاً في تفاصيلهِ الخاصّةِ والعامّةِ، الى درجة أنّ “المِسْ” غيرترود بيل (مستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق، السير بيرسي كوكس) كانتْ قد كتبتْ في حينه: لقد تعبتُ من صُنعِ الملوك، ومن شدّة التعب، استوردَ لنا الانجليزُ ملِكاً من الحُجاز، اسمهُ فيصل بن الحُسين، وجعلوا منهُ أوّلَ “رئيسٍ” لنا، وأجلسوهُ على عرش المملكةِ الفتيّةِ السعيدةِ، بهذه الطريقة تم اخمادُ اختلافنا على من يحكمنا آنذاك، عندها شعر جميع “العراقيين” المتصارعين على السلطةِ في حينه بالراحةِ والرضا، لأنَّ “عراقيّاً” من بينهِم، لم يكن هو الحاكمُ بأمرهِ، وأمرِنا، في نهاية المطاف.
وبعد 14 تموز 1958 اختلفَ قادةُ العسكَرِ على من يحكمنا من بينهم. وهكذا “تآمرَ” نصفُ “الضبّاط الأحرار” على نصفهم الآخر، وقامَ كلّ نصفٍ منهم، بإعدامِ النصفِ الآخرِ رمياً بالرصاص.
وفي عام 1979 اختلفَ “الرفاقُ” على رئاسة السلطة، فقامَ “الرئيسُ” باعدامِ نصفِ “الرفاق”، ولولا الطبيعةً “الدكتاتوريّةُ ” لأنظمة الحكم المُتعاقِبة (على اختلاف درجاتها)، لما تمكنّ “عراقيٌّ” من حُكمِ هذا البلد خلال المدّة 2003-1958.
في عام 2003 قرّر الأمريكانُ ازاحة صدام حسين عن السلطة. وهُنا أختلفَ العراقيّونَ مُجدّداً على من يحكمهم من بعده في العراق “الجديد”.
كان الخلافُ مُرّاً ومُخجِلاً الى درجةٍ شعرَ معها السيد زلماي خليل زاد (المندوب السامي الأمريكي في العراق) بالتعب الشديد من عملية صُنْع الملوك “الجُدُدْ” في العراق، وهكذا جاء بول بريمر ( من ولاية كونيتيكت)، وأصبحً “ملِكاً” على العراق.
وفي ظلِّ “جلالة المَلِكِ” بريمر هذا، لم نتّفِق على رئيسٍ عراقيّ لنا. فاخترع الأمريكانُ لنا مجلس الحُكم. وجميعكم تتذكّرونَ كيف كان لنا.. في كُلِّ شهرٍ ” رئيس”، بعدها، سيّداتي و سادتي، تعرفون ما الذي حصلَ لنا، و بالتفصيلِ المًمّل.
ولكنّ الخلاصة الرئيسة والمُرّةَ، من كلّ هذا، ستبقى كما هي : أنّنا لا نتّفِقُ على “رئيس”، ولا نرضى برئيس، ونتمنى لو تمّ قتلُ هذا الرئيس، و “سحلهِ”، و سلخِهِ، وحرقِهِ، بعد مدّةٍ قصيرةٍ من تولّيه الرئاسة.
نحنُ في حقيقة الأمر لا نُريدُ رئيساً. واذا أردناه، فإنّنا لا نريدهُ أن يكون رئيساً لدولة، وعندما يتم اجبارنا على قبول رئيسٍ ما، فإنّنا سرعان ما نبدأ بكيل التُهمِ له، والتشهير به، والحطِّ من شأنهِ بين الناس (في الداخل)، و بين الدول الأخرى (في الخارج)، نحنُ لا نُريدُ رئيساً. نحنُ نريدُ، كلّنا، أن نكون رؤساء و حُكّاماً وملوكَ وقادة، ولو على مزبلة المحلّة.
وجاء الفشل الذريع والمُريعُ والمُشينُ لـ “الحُكّام” و “القادة” و “الزعماء” في إدارة الحكومات المتعاقبة لـ “عراق” مابعد 2003، ليُكرِّسَ هذا النمط “الشخصي” من التفكير السُلطوي، ويُعزّزهُ، ويجعلهُ مُستداماً، ونابتاً في العَظم.
ولو سألْتَ أيّ مواطنٍ “عراقيٍّ” بسيطٍ تصادفهُ في الشارع: هل تعتقدُ أنّكَ تصلحُ لأن تكونَ رئيساً لهذا البلد، لأجابكَ على الفور و دون تردّد : نعم. إنّ بإمكاني ذلك. وليس هذا فقط، بل أنّ بإمكاني أن أجِدَ حلاًّ لكلّ مشاكلِ العراق خلال اسبوعٍ واحدٍ فقط، بدلاً من هؤلاء “الذين لا نعرفُ من أين جاءوا”!.
لقد جاءوا من العراق يا عزيزي “العراقيّ”. جاءوا من العراق.. من العراق.. فهل تريدُ استيرادَ ” طبقةٍ حاكمةٍ” لهذا العراق من بلدان اخرى.. مرّةً أخرى ؟، حسنٌ.. ها أنتَ قد استوردتهًم.. فماذا تريدُ الآن ؟.
انّ كلّ وزيرٍ يتم ترشيحهُ من قبلِ “الرئيس” ( ضمن “الحُزمة”، أو ” الكابينة”، ويتمُّ وضعهُ في “الظَرْفِ المُغلقِ” أو المظروف المفتوح، أو من خلال بوّابة الكترونية عبر الأنترنت) هو بالنسبةِ لكَ وزيرٌ “عراقيٌّ” سيّءٌ سَلَفاً، وفاشلٌ مُقدّماً، و طائفيٌّ بالفطرة، وفاسدٌ بالضرورة.. وأنتَ ( طبعاً) أفضلُ منهُ، وأدرى، وأقدَر.. فمن أين سيأتي لكَ رئيس الوزراء، بعد كلّ هذا، بوزيرٍ.. سيرضى اللهُ عنهُ، ويُرضيهُ، و يُرضيكَ أنتَ أيضاً ؟.
انّ كلّ رئيس وزراءٍ يتم ترشيحهُ من قبلِ “الرئيس”، أو من قبل “الكتلة الأكبر”، أو من قبل الكتلة “الفائزة”، أو من قبل ساحات الإعتصام، أو من قبل الأمم المُتّحدة، أو بترشيحهِ هو لنفسهِ، أو بترشيح “بيارق الخير” لهُ، أو بترشيح 170 نائبٍ له، يُغرّدون وحدهم خارجَ السِرب “الكُتْلَوي”.. هو بالنسبةِ لكَ، ولنا، ولهم، رئيسُ وزراءٍ سيّءٌ سَلَفاً، وفاشلٌ مُقدّماً، و طائفيٌّ بالفطرة، وفاسدٌ بالضرورة، ومُتحزّب، ووزير سابق، ونائب سابق، ومُزدَوَج الجنسيّة، ومن “أزلام” النظام.. وأنتَ (طبعاً) أفضلُ منهُ، وأدرى، وأقدَر.. فمن أينَ سيأتي لكَ العراقُ بعد كلّ هذا، برئيسِ وزراءٍ.. سيرضى اللهُ عنهُ، ويُرضيهُ، ويُرضي العراقَ، و يُرضيكَ أنتَ أيضاً ؟.
ماذا سنفعلُ ياسيدي، وجميعُ الذينَ تناوَبوا على حُكمِنا، والتَحَكّمِ فينا، يقولون لنا نحنُ “الضروراتُ” الدائماتُ، وليس لكم غيرنا، ولا “بدائلَ” إلاّ من بيننا، وخلافَ ذلكَ إذهَبوا.. وأحصُدوا “الفوضى” والخراب ؟
سنستوردهُم يا سيّدي. سنستوردُهُم.. ونرتاح، فما نحنُ إلاّ عراقيّونَ “أقحاح”، سبقَ لنصفنا وإنْ قام باستيرادِ النصف الآخر من الهند.. ومن آسيا الوسطى.. ومن جزيرة العرب، تُرى كيف يُتاحُ لكَ أن تنسى ذلك ؟ كيف يُتاحُ لك أن تنسى أنّكَ لم تكن عراقيّاً في يومٍ ما.. ولن تكون ؟.
سنستوردهُم يا سيّدي. سنستوردُهُم.
لأنّنا كـ “عراقيّين” غيرُ قادرينً أبداً على أنْ نصدّرَ الى الخارجِ شيئاً غير خيباتنا المستدامة.
سنستوردُ يا سيدي “العراقيّ”، و مرّةً بعد أخرى، “أولي الأمْرِ” فينا من الخارج.. وسينتهي الأمرُ بنا الى ما انتهى اليهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.. واللهُ المُستعان.
رابط المصدر: