ماذا سيفعل ماكرون بعدما أحبطته السطوة الإيرانية على لبنان؟

فارس خشان

 

 اعتذار مصطفى أديب عن عدم تشكيل الحكومة الجديدة، ليس خبراً سعيداً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولكنّه ليس خبراً مفجعاً للبنانيين الذين يعيشون، أصلاً، واحدة من أصعب تجاربهم، على الإطلاق.

هذا الاعتذار سمح لمعارضي ماكرون في فرنسا بأن يسخروا من قدرات وخطط وسلوك مَن يطلقون عليه لقب “جوبيتر”، كبير الآلهة في الميثولوجيا الرومانية، ولكنّه يؤكد للبنانيين أنفسهم أنّه، ولو شكّل مصطفى أديب الحكومة الجديدة، بالشروط التي كان يريد فرضها “حزب الله”، لما كانت المبادرة الفرنسية قد حققت لهم ما وعدهم به ماكرون، أي تدفق المساعدات والقروض الميسّرة التي يحتاجها لبنان، عاجلاً وليس آجلاً.

وبعيداً من الحسابات السياسية والمعنوية لماكرون، فإن اعتذار أديب يُشكّل صدمة، ستكون تداعياتها إيجابية على الرئيس الفرنسي، لأنّها ستضطره لأن يترك نياته الطيّبة وإيمانه الراسخ بأحلامه، ليندمج مع الواقع اللبناني، كما هو.

ومن المؤكد أنّ باريس لن تتخلّى عن لبنان، فمبادرتها في الأصل، لم تملِها العواطف الطيّبة، بل حسابات استراتيجية قديمة – جديدة.

ولأنّ فرنسا ستواصل اهتمامها بالشأن اللبناني، فإنّه من الأسلم لها أن تفعل ذلك، انطلاقاً من حقائق لا من تمنيات.

ومن شأن الصدمة التي أحدثها فشل المحاولة الفرنسية الأولى، أن تسمح بإعادة النظر في قراءة باريس للواقع اللبناني، كما هو.

يمكن لأدبيات قصر الإليزيه التي سوف يُرسّخها، مساء اليوم، “مستأجر القصر”، أن تحمّل الأطراف السياسية اللبنانية كاملة مسؤولية الفشل، ولكنّ هذه الأدبيات لن تُخفي عن دوائر القرار في الرئاسة الفرنسية الأسباب الفعلية للفشل التي هي أبعد ما تكون عن استسهال توجيه اتهامات لصغار صانعي القرار في لبنان، أي لقواه السياسية.

عندما زار ماكرون لبنان متأبّطاً مبادرته، كان يتوهّم أنّ ثمة إمكانية لفصل “حزب الله” عن إيران، أقلّه بالملف الداخلي اللبناني، فاجتمع بالنائب محمد رعد، وحدّثه عن حاجة اللبنانيين عموماً، وجمهور “حزب الله” خصوصاً، الى خطوات تمنع انزلاق لبنان الى قعر الحفرة. حدّثه عن المياه، والكهرباء، والخبز، والدواء، والقيمة الشرائية لليرة اللبنانية، والاستثمارات، والاقتصاد، والمالية العامة، والكفاءات الإدارية، والنزاهة السياسية.

وقد يكون ماكرون قد أعطى أبعاداً سياسية لـ”ابتسامة الأطفال” التي رسمها محمد رعد على محيّاه، وهو يرى نفسه يجالس رئيس دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بعد أيام قليلة على تجريم “الأخ المجاهد” سليم عيّاش، في حكم صادر المحكمة الخاصة بلبنان التي أنشأها مجلس الأمن نفسه.

أراد ماكرون أن يستثمر ابتسامة محمد رعد، في إنجاح مبادرة لم يجرؤ غيره على اتخاذها، مسبقاً، حتى لا يغرق في الرمال المتحركة اللبنانية.

ولكن، بعد عشرة أيّام على إطلاق مبادرته، اكتشف ماكرون أن ابتسامة محمد رعد في مكان، وحقيقة “حزب الله” في مكان آخر، إذ إنّه، في ضوء إنزال أول دفعة من العقوبات الأميركية على وزيرين سابقين بتهمة “التعاون الفاسد” مع “حزب الله”، وردت الأوامر الإيرانية: “عقّدوا تشكيل الحكومة”.

وليس ثمة أسهل من تعقيد السهل في لبنان، فالاجتهادات المذهبية تُسحب فوراً عن الرف وتوضع، بصخب، على الطاولة.

وطهران، بعدما أخذت من باريس وقوفها الى جانبها ضد توجّه واشنطن الرامي إلى إعادة فرض العقوبات التي كان مجلس الأمن قد رفعها بموجب الاتفاق النووي، أدركت أن فرنسا تُعطي من كيسها، ولا تستطيع أبداً أن تكون مؤثرة في السياسة الأميركية.

وطهران مشكلتها كبرى مع واشنطن، فكل العقوبات التي سبق وأنزلها بها مجلس الأمن، قبل الاتفاق النووي، لم تؤثر سلباً عليها، بالحجم والنوعية والكمية التي أثرت بها عليها العقوبات الأميركية الأحادية التي فرضها دونالد ترامب، فور سحب بلاده من الاتفاقية النووية.

وهذا يعني أن طهران، إن أعطت تريد مقابلاً مجدياً، وهذا المقابل غير متوافر سوى في واشنطن التي ليست في وارد العطاء، في هذه المرحلة التي تتّبع فيها “استراتيجية الضغط الأقصى”.

إذاً، تلمّس ماكرون أنّ أيّ محاولة جديدة سوف يُقدم عليها في لبنان مستقبلاً، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، حقيقة سبق ولفته إليها مخضرمون فرنسيون وأثبتتها النتائج الميدانية والسياسية: “حزب الله” مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران، وهو يتساهل أو يتشدد، بموجب ما تفرضه المصلحة الإيرانية، فيما إيران لا تعطي إلا طرفاً قادراً على أن يقنع واشنطن بدفع الثمن.

وأدرك ماكرون حقيقة ثانية، أن الأدوار التي يلعبها “حزب الله” في الإقليم لمصلحة إيران، أوجدت مشكلات للبنان مع الإقليم، ولا سيما مع الامتداد الإستراتيجي المالي والاقتصادي للبنان، أي مجلس التعاون الخليجي عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً.

وهذا يعني أن القدرة على إعطاء ما يرضي “حزب الله” في الداخل – وهذا لا يُزعج ماكرون كثيراً – لا يخلق مشكلة مع شرائح كبيرة ومؤثرة من اللبنانيين فحسب، بل مع الرياض و”شقيقاتها”، أيضاً.

وهذه المشكلات، حتى لو أنّها لا تحول دون تشكيل حكومة، إلّا أنّها ستوثر سلباً على توفير الأموال التي يحتاجها لبنان، سواء من وعود مؤتمر “سيدر” أو من “صندوق النقد الدولي” أو من الدول المانحة.

إذاً، ماكرون كان يُمكن، في هذه المرحلة، أن يكتفي بتشكيل حكومة تكون أفضل من سابقتها – وهذا لا يحتاج الى معجزة – لأنّه، بذلك، يُحقّق انتصاراً معنوياً، ولكن المشكلة أن لبنان لم يكن ليخرج من أزمته الصعبة، لأنّ من يُمسك بالأموال لن يُفرج عنها، لمصلحة حكومة “حفظ ماء الوجه”.

ويدرك ماكرون أن دفن الرأس في الرمال وحده يسمح لإدارته باتهام جميع اللاعبين السياسيين بعرقلة مبادرته – وهذا ما يُرجّح أنّه سيفعله – في حين أن الإمعان في القراءة يتطلب معالجة آفة أساسية كانت هي سبب وصول لبنان الى ما وصل إليه: “حزب الله” وارتباطه الوثيق بالأجندة الإيرانية.

إنّ مشكلة لبنان لا تكمن فقط في “المال المنهوب”، بل هي، وقبل أي شيء آخر، تبدأ بـ”المال المحجوب”.

وإذا كان الجميع متورطاً بـ”المال المنهوب”، فإنّ “حزب الله” هو المتورط الأساسي بـ”المال المحجوب” الذي يتمثّل بهروب الاستثمارات وإساءة علاقات لبنان مع الدول التي طالما هبّت لمساندة لبنان، عندما كان يمر بصعوبات اقتصادية ومالية.

ووفق مصادر فرنسية ولبنانية متطابقة، فإن مصطفى أديب ما كان ليقدّم اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة الجديدة، لو أنّ الرئيس الفرنسي لم يتوصّل الى هذه الخلاصات.

وهذه خلاصات كانت قد بدأت تتكوّن لدى ماكرون، قبل مدة، فشغّل طاقات فرنسا الدبلوماسية في كل اتجاه، في محاولة لتجاوزها.

وقد طلبت باريس من موسكو أن تطلب من وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف، في زيارته الأخيرة لها، تسهيل تشكيل الحكومة اللبنانية، فما كان منه إلا أن رد مستاءً من تدخل فرنسا في لبنان.

وقد تبلّغ، أمس الأول، السفير الفرنسي في موسكو هذا الجواب الإيراني الذي يستهجن دخول باريس على خط إنقاذ لبنان من أزمته المستفحلة.

وبدا واضحاً أنّ ماكرون لم يبق مكتوف اليدين، إزاء هذا السلوك الإيراني، فانضمّ الى ألمانيا وبريطانيا، في “إثارة”، بقيت بعيدة عن الصخب الإعلامي: ملف حقوق الإنسان المتدهور في إيران.

وانعقدت المجموعة الدولية لدعم لبنان، بواسطة تقنية التواصل الرقمي، وأصدرت، على مستوى وزراء الخارجية، بياناً وضع في فقرته الثامنة، القرار الدولي 1559 و”إعلان بعبدا” اللذين يمقتهما “حزب الله”، على رأس قائمة القرارات الدولية والتعهدات اللبنانية الواجب على لبنان تنفيذها أو الالتزام بها، إذا كان يريد أن ينقذ نفسه من…جهنّم.

وهذه الحقائق اللبنانية، لن تكون بلا تداعيات، فباريس قد تجد أنه لا بد من جسر الهوة التي فصلتها عن واشنطن، بسبب إيران، فتتلاقى نظرتاهما إلى لبنان.

وثمة تجربة شبيهة بتجربة ماكرون – ترامب، سبق وخاضها نظيراهما جاك شيراك وجورج دبليو بوش، إذ وجدا نفسيهما يردمان الهوة التي فصلتهما، بسبب اجتياح العراق، بفتح ملف الاحتلال السوري للبنان وسلاح “حزب الله”، فكان القرار 1559.

هل تصل الأمور الى هذا المستوى؟

البعض يخاف من أن يغامر ماكرون، مجدداً، فهو لا يحب أن يخسر رهاناً. ثمة من يهمس في أذنه أنّ النجاح، ولو أنّه سيكون مرحلياً ومتواضعاً ومأزوماً وبلا نتائج مستقبلية، يحتاج الى “حزب الله”، على أن “يحلّها الحلّال”، بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

إذا سمع ماكرون هذا الهمس، فإنّ كثيرين، يتقدمهم مخضرمون داخل الطبقة السياسية الفرنسية، سيقولون لرئيسهم: في هذه الحالة، ما حاجة اللبنانيين إليك، فهم سبّاقون في هذا المسار التنازلي الذي رمى بلادهم في الهاوية!

رابط المصدر:

https://www.annaharar.com/arabic/makalat/annahar-alarabi-authors/270920201

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M