في مسعى لإزالة الأخطار كلياً، أو تقليصها، على حدودها الشمالية، حاولت إسرائيل عبر التحركات الديبلوماسية، وتحاول اليوم عبر الوسائل العسكرية، منع أي وجود مسلح معادٍ لها على عمق يتراوح بين عشرة وعشرين كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية، وتعمل على تهجير السكان واعتماد سياسة “الأرض المحروقة”. وفي آخر تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال إنه لن يوافق على تسوية سياسية من دون انسحاب “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني.
قبل عملية تفجير أجهزة الـ”بيجر” وأجهزة اللاسلكي المحمول التي يحملها آلاف العناصر والمسؤولين الكبار في “حزب الله”، صدرت تقارير عدة عن تلاعب إسرائيل بإشارات نظام تحديد المواقع العالمي “جي. بي. إس.” (GPS) والتشويش عليها. ويسمى هذا الانتحال “جي. بي. إس. سبوفينغ” (GPS spoofing)، وهو لا يحجب إشارة نظام تحديد المواقع العالمي، بل يربكها.
وقد صُممت هذه التقنية لخداع الصواريخ والقذائف المعادية التي تعتمد على تقنية نظام تحديد المواقع العالمي لتوجيهها نحو هدفها. وعلى الرغم من أنها ربما ساعدت في صد بعض الهجمات الجوية، إلا أنها تسببت بإرباك للأشخاص العاديين الذين يستخدمونها في سياراتهم للتوجيه وخدمات التوصيل. كما عطّلت البنية التحتية المدنية المهمة، وعرّضت حركة ملاحة الطائرات التجارية للأخطار، وأربكت العديد من التطبيقات التي تعتمد على نظام تحديد المواقع.
مخاوف شديدة من أن تعمد إسرائيل إلى قطع تواصل لبنان مع العالم عبر قصف الكابل البحري الذي يمدّ لبنان بالإنترنت ويصله بالخارج
وقد نفت إسرائيل مسؤوليتها عن التلاعب، لأنه يُعتبر عملاً خطيراً، لكنها اعترفت لاحقاً بحدوثه، ووصفته بأنه “انقطاع لنظام تحديد المواقع العالمي”. وكان لبنان تقدم في يوليو/تموز الماضي، بشكوى إلى الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) في شأن التلاعب بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، الذي يؤثر أيضاً على الطائرات التي تمر عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط.
80 ألف محاولة اتصال إسرائيلية
ووسط التهويل باندلاع الحرب الشاملة حاليا، هناك مخاوف شديدة من أن تعمد إسرائيل إلى قطع تواصل لبنان مع العالم عبر قصف الكابل البحري الذي يمدّ لبنان بالإنترنت ويصله بالخارج.
لكن المسألة لا تقتصر على ضرب كابل الإنترنت البحري، بل يجب تأمين التوزيع الداخلي أيضاً عبر إبقاء السنترالات قيد التشغيل، وهذا يتطلب تزويدها المازوت، وتمكين فرق “أوجيرو”، الهيئة التنفيذية لوزارة الاتصالات في لبنان، من عمليات الصيانة. والجميع يذكر ما حصل في حرب يوليو/تموز 2006، حينما حاصرت إسرائيل لبنان برّاً وبحراً وجوّاً، مما أدى إلى انقطاع المشتقات النفطية عن البلاد.
وكانت وكالة “رويترز” نقلت عن المدير العام لهيئة “أوجيرو”، عماد كريدية، أن لبنان تلقى الإثنين (23 سبتمبر/ أيلول 2024)، أكثر من 80 ألف محاولة اتصال يشتبه في أنها إسرائيلية. كما تلقى سكان في جنوب لبنان ومناطق أخرى، رسائل تهديد نصية واتصالات ورسائل صوتية، لإخلاء منازلهم عقب العدوان الذي شنته إسرائيل على مناطق واسعة في جنوب لبنان وشرقه. كما تلقى أهالي بلدة الغازية قرب مدينة صيدا إتصالات عبر الهواتف الثابتة مصدرها إسرائيل يُطلب فيها إخلاء منازلهم فوراً.
رسائل وتهديدات لمكاتب وزراء
ولم تقتصر التهديدات الإسرائيلية في رسائلها النصية والهاتفية (تسجيل آلي) على مناطق الجنوب والبقاع، فقد تلقى عدد من اللبنانيين في بيروت والضاحية الجنوبية رسائل عبر الهواتف الخليوية الخاصة بهم، وعبر الخطوط الهاتفية الثابتة، تفيد بضرورة الابتعاد فوراً عن أي مواقع لـ”حزب الله” حتى إشعار آخر، وكل من ينوجد إلى جانب منشآت الحزب وأسلحته يُعرض حياته للخطر.
يمثل قطاع التكنولوجيا في إسرائيل 20 % من الناتج المحلي و53 % من الصادرات الإجمالية، مما يُتيح لإسرائيل هيمنة تقنية تستخدمها ضمن ترسانة أسلحتها
في هذا الإطار أيضاً، تلقى مكتب وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري اتصالاً، دعا خلاله المجيب الآلي إلى إخلاء المبنى. وفي السياق نفسه، قال مكتب وزير الثقافة محمد وسام المرتضى، إنه “تلقى اتصالاً تحذيرياً من شخص يتكلم العربية الفصحى بلكنة غريبة، بوجوب مغادرة المكتب فوراً لأنه مستهدف”. وأفاد مكتب وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام أن رسالة مشبوهة وغير معروفة المصدر وصلت إلى مكتب الوزير، وتم التواصل مع الجهات الأمنية المختصة للتحقق من محتوى الرسالة ومصدرها. وزيادة في الطين بلّة، انتشرت الشائعات وتلفيق الروايات، وفبركة الاتصالات المشبوهة.
إقرأ أيضا: بعد تفجيرات “البيجر”… تاريخ الأدوات اليومية القاتلة
للتذكير، يُمثّل قطاع التكنولوجيا في إسرائيل 20 في المئة من الناتج المحلي و53 في المئة من الصادرات الإجمالية، وفقاً لهيئة الابتكار الإسرائيلية (Israel Innovation Authority)، وهناك قرابة 9200 شركة تكنولوجيا يعمل فيها 400 ألف موظف، وفقاً لـ”رويترز”، مما يُتيح لإسرائيل هيمنة تقنية تستخدمها ضمن ترسانة أسلحتها.
شبكة الاتصالات الرسمية مخترقة … أم غير مخترقة؟
وقد أكد المكتب الاعلامي لوزير الاتصالات جوني القرم “أن لا خرق لشبكة الاتصالات الرسمية من قبل الجانب الإسرائيلي، وأن الرسائل التي تلقّاها لبنانيون في مناطق عدة ما هي إلا عمليات تمويه واحتيال تتم عبر تطبيقات إلكترونية ولا تحتاج لتقنيات عالية لاختراق الشبكة”. وأشار إلى أن “وزارة الاتصالات تعمل على معالجة الأمر وذلك من خلال الانتقال من استخدام نظام الـ”IP IMS” الذي يُعمل به حالياً الى نظام الـ”TDM”، ويُعتبر هذا النظام أقل عرضة للخرق ويمكن ضبطه بطريقة أفضل”.
أبراج اتصالات رئيسة في منطقة ترشيش في لبنان، 13 نوفمبر 2021.
كما أكد “أن الوزارة قامت بضبط الشبكة الثابتة، علماً أن نظام الاتصالات في لبنان يمنع أصلاً تلقي أي اتصالات مصدرها إسرائيل، والرمز الإسرائيلي ممنوع على الشبكة اللبنانية”.
في المقابل، يتساءل الدكتور عبد المنعم يوسف، المدير العام السابق لوزارة الاتصالات والمدير العام لهيئة “أوجيرو” سابقاً، عن دقة إشارة مكتب الوزير إلى معالجة الأمر عبر الانتقال إلى نظام “TDM”، وهو بكل بساطة إحدى تقنيات الرقمنة (الترميز) وتحميل النقل للصوت، يُقصد بها (Time Division Multiplexers) ، ما يعني “تقنية معددات تقسيم الوقت” لنقل الصوت. فما دخل ذلك بضبط الشبكات والحماية ضد الإختراقات الإسرائيلية؟!
ويُتابع، “إذا كانت عمليات التمويه والاحتيال من قبل التطبيقات الإلكترونية التي أشار إليها مكتب وزير الاتصالات، لا تٌعدّ خرقا فماذا تكون”؟
الخرق الحالي هو نتيجة تراكم الأخطاء الإدارية، وإدخال شركات خاصة أجنبية ومحلية إلى قطاع الاتصالات، ومنها “أكوتيك” الأميركية-الإسرائيلية التي حصلت على جميع كلمات السر والمرور، ودخلت إلى كل البرمجيات، وحصلت على كل المستندات
الدكتور عبد المنعم يوسف، المدير العام السابق لوزارة الاتصالات والمدير العام لهيئة “أوجيرو” سابقاً
بدوره، نفى كريدية ما جرى تداوله عن اختراق اسرائيلي لشبكة الإتصالات الأرضية التابعة لـ”أوجيرو” في الجنوب، موضحاً أن “السيستم لدينا لا يستقبل اتصالات من “الكود” الاسرائيلي، وتاليا اذا قام العدو بالاتصال عبر كود أجنبي رديف فهذا لا يعتبر خرقاً للسيستم بل تحايلاً على نظام الإنترناشونال كود”.
لكن الدكتور يوسف أكد لـ”المجلة” من جهته حصول الخرق، والدليل وصول رسائل على أجهزة اللبنانيين الخليوية في شبكتي شركتي “ألفا” و”تاتش” اللتين لا يُمكن الوصول إليهما دون اختراق الشبكة الأم العائدة لوزارة الاتصالات. كما ينفي حصول أي تحايل على الرمز الدولي لأن الرسائل تمر تقنياً وحصرياً عبر رمز لبنان.
وأضاف: “الخرق الحالي هو نتيجة تراكم الأخطاء الإدارية في قطاع الاتصالات، وإدخال شركات خاصة أجنبية ومحلية إلى هذا القطاع، وتركيب أجهزة ومعدات دون اتخاذ التدابير الاحترازية والأمنية منذ بداية عام 2017. ومن هذه الشركات “أكوتيك” الأميركية-الإسرائيلية التي حصلت على جميع كلمات السر والمرور، ودخلت إلى كل البرمجيات، وحصلت على كل المستندات”.
إقرأ أيضا: “مايكروسوفت” تحت المجهر… ثغرات أمنية تهدد أميركا
وسأل يوسف: “أين ذهبت كل الأموال التي صرفت في أوجيرو منذ عام 2017 لغاية اليوم، والتي فاقت أكثر من 400 مليون دولار، بحجة شراء السنترالات الذكية “Smart Switshes” و”IM Switshes” المتطورة والحديثة جداً، ومراكز التحكم “NCCC” المتطورة وشبكات “MPLS” وشبكات “NGN” وشبكات “FTTX” وشبكات “LTE” وغيرها الكثير من المزاعم التي أطلقت مرفقة بوعود برّاقة عملاقة، في مؤتمرات صحافية متعددة في حضور وزراء ونواب ورؤساء حكومة ومديرين عامين، وشركات متخصصة من القطاع الخاص، ومرجعيات ومنظمات عالمية متخصصة محلية إقليمية ودولية… كي ننتهي الى الافتخار أنه “الحمد لله سنترالاتنا قديمة”!
عامل يقوم بتركيب أسلاك كهربائية واتصالات في حي برج حمود في بيروت
هل يعزل لبنان عن العالم؟
ماذا يعني انقطاع بنية الإتصالات والانترنت خصوصاً عن لبنان أو تدميرها في حال قررت إسرائيل ذلك؟ وما تداعيات حرب الاتصالات على لبنان المُفلس، وهل يتحمل لبنان واللبنانيون، والمؤسسات العامة والخاصة، والمصارف والموظفون العاملون عبر الأونلاين، والمغتربون، خطر انقطاع لبنان عن العالم؟
الشبكة قديمة لم تحدّث منذ عام 2019، والاتصالات في لبنان مخترقة منذ فترة طويلة، ولعلنا نذكر فرار أنيكي بوتر المديرة التنفيذية لشركة الاتصالات “ألفا” الى هولندا عام 2008 وحقيقة الدور الذي لعبته
واضح أن الشبكة قديمة لم تحدّث منذ عام 2019، وأن قطاع الاتصالات في لبنان مخترق منذ فترة طويلة، ولعلنا نذكر فرار أنيكي بوتر (Ineke Botter) المديرة التنفيذية لشركة الاتصالات الخليوية ألفا alfa إلى بلدها هولندا عام 2008، وحقيقة الدور الذي لعبته!
هل يعني هذا أنه إذا وقعت الحرب الشاملة على لبنان، فسنتجه إلى الشلل شبه الكامل داخلياً، والعزلة عن العالم الخارجي؟ وهل يوجد لدى لبنان خطة بديلة في حال انقطعت خدمة الاتصالات وتوقف الإنترنت؟
سؤال طرحته “المجلة” على الدكتور يوسف فأجاب: “لا نملك أية معلومات دقيقة في هذا الشأن، غير أنني أكيد من أمر ثابت وهو أن مختلف البنى التحتية اللبنانية للاتصالات سواء الشبكة النحاسية الثابتة، أو شبكات التوزيع النهائية، أو منظومة علب المشتركين في المباني، أو الشبكتين الخلوية أو شبكات الداتا أو شبكات الانترنت أو محطات المنصات الفضائية للأقمار الصناعية، كلها صارت في حالة قديمة وخارج نظم التطوير والتحديث”.
أبراج اتصالات تابعة لشبكات الخليوي اللبنانية في منطقة ترشيش، لبنان، 13 نوفمبر 2021.
ولفت الى أن “هذا ما يشكل خطراً على مشهد الاتصالات في لبنان، وقصورا حقيقيا. فللعلم، لغاية اليوم لا تتخطى طاقة شبكة الألياف الضوئية الممتدة إلى المباني والمكاتب والمنازل عدد 35 ألف مشترك، في حين أنه كان من المفترض أن تكون بطاقة 800 ألف مشترك. وطاقة المقاسم الذكية “Smart switches” العاملة على أنظمة بروتوكولات الإنترنت “IMS” التي نفذت لغاية اليوم لا تتعدى 80 ألف مشترك في حين أن رئيس الحكومة في حينه سعد الحريري ووزير الاتصالات وقتها جمال الجراح كانا قد أعلنا خطة تركيب سنترالات ذكية بطاقة 1,5 مليون خط مع نهاية عام 2020″.
إقرأ أيضا: قصة الكهرباء “الممانِعة” في لبنان… أصل الانهيار
أما في مجال الخليوي فإن الشبكات الحالية لا تزال تعمل وفق أنظمة الجيل الثالث “3G” والجيل الرابع “4G” ولا توجد أية خدمات من أنظمة الجيل الخامس “5G” التي دخلت إلى الأسواق التجارية في معظم دول العالم منذ عام 2021. ولا شك أن لبنان يفتقر إلى رؤية حديثة ومسؤولة لتطوير خدمات الإتصالات وإلى استراتيجيا طموحة للإتصالات على مختلف الصعد التقنية والخدماتية والاستثمارية والتشاركية والتنظيمية.
خدمة “ستارلينك” غير سالكة… وخوف من العزلة
يراهن البعض على خدمة “ستارلينك”، لكن هناك تسريب من بعض المصادر يفيد أن المباحثات بين وزارة الاتصالات و”ستارلينك” اتجهت إلى طريق مسدود منذ فترة طويلة، حيث أن “ستارلينك” تريد دخول السوق اللبنانية من دون قيود، وفي المقابل تعرض وزارة الاتصالات الترخيص لعدد محدّد من الأجهزة على عدد من المحظيين.
في ظل فراغ رئاسي وحكومي، ووضع أمني مخيف، وأزمة اقتصادية طاحنة، وإفلاس المصارف، وانتشار البطالة، والتضخم وغلاء المعيشة، كل الخوف أن تضاف مشكلة الاتصالات والانترنت إلى مصائب لبنان واللبنانيين، مع استمرار الغارات الاسرائيلية على لبنان.
إقرأ أيضا: “لعبة الحرب” في اقتصاد لبنان: هل يأبه “حزب الله”؟
ألا يكفي اللبنانيين أنهم يحظون بأسوأ خدمة للإنترنت وأغلاها في العالم، وأن معلوماتهم وبياناتهم عرضة دائمة للاختراق، وأن خدمة الإنترنت قد تنقطع عنهم في حال ضرب الجيش الإسرائيلي الشبكة، وأن لا خطة بديلة لتأمين الانترنت، ونظام “ستارلينك” ليس حلاً؟ فها هم يرون أن خطة الطوارئ الوحيدة التي حضّرتها الدولة لمواجهة انقطاع الإنترنت تتضمن إبقاء الاتصال بين مرافق الدولة الأساسية من الوزارات، والجيش، والمستشفيات مع الخارج، فضلاً عن وسائل الإعلام، وأن الخطة الموعودة تقوم على الربط بالإنترنت بحدّه الأدنى، وهي لا تعني إعادة ربط الشعب اللبناني كلّه بالشبكة!