فردوس عبد الباقي
في خبر صادم للمجتمع الياباني والعالم يوم 8 يوليو 2022، اغتيل رئيس الوزراء الياباني السابق “شينزو آبي” خلال خطاب له ضمن حملته الانتخابية التابعة للحزب الحاكم في منطقة “نارا” غرب اليابان للمشاركة في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ التي أجريت في 10 يوليو وحقق فيها الحزب فوزًا قويًا.
ساعدت شهرة “آبي” السياسية شخصيته الكاريزمية التي لم يحظ بها رئيس وزراء في اليابان، ما جعله صاحب أطول فترة في رئاسة الوزراء، إلى حد ظهور مخاوف بعد استقالته لظروف صحية من عودة اليابان إلى أحد أكثر الفترات ترددًا بين القيادات بعد استقالة رئيس الوزراء الأسبق “يوشيهيدا سوجا” بعد عام من توليه منصبه.
ثغرات أمنية أم انتقام سياسي؟
ثارت احتمالات بشأن وجود ثغرات أمنية في المكان المحيط بـ”آبي”، فقد أشار بعض حراسه إلى أن اقتراب شخص مشبوه بهذه المسافة من “آبي” يبدو غريبًا، وتشير دقة تصويب القاتل إلى خلفيته بقضاء ثلاثة أعوام خدمة في قوات الدفاع اليابانية. وبالفعل، صرح قائد شرطة منطقة “نارا” التي شهدت حادث الاغتيال بوجود ثغرات لا يمكن إنكارها في الإجراءات الأمنية التي تمت خلال التجمع الانتخابي.
ومن ناحية أخرى، كانت هناك اعتقادات بوجود نية لانتقام سياسي من “آبي”، لكن تشير اتجاهات إلى أنه لم تكن هناك أسباب سياسية وراء قيام القاتل بإطلاق النار على “آبي”، إنما كان سببه هو ظهور “دين جديد” يدعمه “آبي” دفع القاتل إلى صنع سلاح محلي من خلال أدوات قام بشرائها من خلال الإنترنت. وأشير إلى أن القاتل قام بعملية الاغتيال انتقامًا لوالدته التي تعرضت لعملية احتيال مالية من جانب “زعماء دينيين” تابعين لكنيسة التوحيد.
يفتح هذا الأمر المجال أمام احتمالية وجود علاقة بين الدين والسياسة وراء حادث الاغتيال، لكن ذكرت كنيسة التوحيد، وهي إحدى الحركات الدينية التي تأسست في كوريا في خمسينيات القرن العشرين، أن والدة القاتل عضوة في هذه الحركة لكن لم يكن “آبي” عضوًا فيها سيرًا على خطى أبيه وجده، إذ كانت هناك بعض العلاقات التاريخية بين الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم وكنيسة التوحيد.
البعض يرى أن ما تعرض له القاتل من عزلة اجتماعية وضغوط حياتية جراء الأزمات الاقتصادية هو السبب في قيامه بالجريمة، وهو ما يمكن الإشارة من خلاله إلى تزايد معدل حالات العنف في عام 2008 إثر الأزمة المالية العالمية. لكن في بعض الأحيان يكون بديل العزلة لبعض الأشخاص هو الانخراط العنيف في المجتمع عبر القتل، فقد أُطلق البعض على هذه الفترة “العصر الجليدي للتوظيف”.
ندرة حالات العنف في المجتمع الياباني
رغم أن اليابان دولة يتعارف أنها ذات مستويات منخفضة من العنف، لكن كان هناك عدد من حوادث العنف الفردية تم فيها استهداف أشخاص بشكل عشوائي. يشترك الجناة في تلك الحوادث في أنهم شباب تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عامًا، وأغلبهم كان عاطلًا عن العمل، أو يكنّ أحدهم الاستياء تجاه المجتمع.
من أشهر تلك الحوادث، كان حادث دهس شاحنة في يونيو عام 2008، أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة اثنين. وفي ذات العام، كان هناك حادث طعن لـ12 شخصًا وقُتل فيه أربعة أفراد. أطلق على هذا الحادث وقتها اسم مذبحة “أكيهابارا”. بالإضافة إلى حادث حرق لأحد مباني الرسوم المتحركة في يوليو عام 2009، أسفر عن مقتل 36 شخصًا وإصابة 24 فردًا.
ومن أقوى حالات العنف التي شهدتها اليابان بعد الحرب، كانت هجمات طوكيو بغاز السارين في مايو عام 1995 على أيدي طائفة دينية؛ إذ تم استهداف محطات مترو الأنفاق التي تخدم المراكز السياسية في طوكيو، مما أدى إلى مقتل 14 شخصًا وإصابة أكثر من 1000 شخص. وخلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كانت هناك حالات خطف للطائرات والهجوم على السفارات والشركات التي قام بها الجيش الأحمر الياباني وهي إحدى الجماعات الثورية.
وبخصوص الاغتيالات السياسية، كانت الاغتيالات السياسة لوزراء ورؤساء وزراء أحد السمات الأساسية في اليابان في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، في عهد ما قبل الديمقراطية اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن سرعان ما عادت إلى لأذهان هذه الحالة بعد اغتيال “آبي”.
وخلال فترة حكم “آبي” ذاتها، كانت هناك حالات عنف، فبالإضافة إلى ما ذُكر في الفقرة السابقة، كانت هناك حالتان لحرق الذات اعتراضًا على مبادرة “آبي” لممارسة اليابان لحقها في الدفاع عن نفسها. وفي الفترة الأولى لتولي “آبي” منصبه، تم إطلاق النار على عمدة ناجازاكي من أحد أعضاء أكبر نقابة للجريمة المنظمة في اليابان، وتعرض سلفه أيضًا لمحاولة اغتيال من قبل متطرف يميني. وفي عام 2006، تعرض منزل سياسي بارز في الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى حريق من قبل يميني.
بصمات آبي في السياسة اليابانية
تعد خلفية “شينزو آبي” السياسية إحدى دعائمه كي يكون صاحب أطول فترة لرئاسة الوزراء في تاريخ اليابان، حتى استقالته في عام 2020 لظروف صحية. فقد كان والده وزيرًا للخارجية وجدّه رئيسًا للوزراء في الفترة بين 1957 و1960 إلى أن استقال بسبب الغضب الشعبي من اتفاقية أمنية أعيد التفاوض فيها بين الولايات المتحدة واليابان.
خلال فترة الأزمة المالية العالمية، كان لـ”آبي” بصمة قوية في الإصلاحات الاقتصادية في اليابان، كان منها طرح سياسة “آبينوميكس” التي جمع فيها بين زيادة الميزانيات والمرونة النقدية والإصلاحات الهيكلية عبر ثلاث مراحل لمواجهة الانكماش الاقتصادي وإنعاش النمو عن طريق تيسير السياسة النقدية، بجانب الإنفاق المالي والتعامل مع تقلص عدد السكان وزيادة عدد كبار السن، وطرح كذلك سياسات تهتم بالمرأة وتشجيعها على مواصلة العمل بعد الزواج بما يناسب احتياجاتها الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، كان له هدف لتعديل الدستور الذي سارت عليه اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصةً في الجانب الدفاعي في المادة التاسعة –التي تحظر استخدام القوة في تسوية النزاعات الدولية- حيث عمل “آبي” على تعزيز الإنفاق الدفاعي، وضغط لإقرار قوانين تسمح لليابان بممارسة حق “الدفاع الجماعي عن النفس”، أو تقديم الدعم العسكري لحليف يتعرض للهجوم. لكن تعرضت هذه الرغبة لاحتجاجات من المواطنين بالإضافة إلى أحزاب المعارضة. وقد سبق في عام 2015 أن قاد “آبي” جهودًا لتمرير مشروع قانون يسمح للجيش الياباني بالمشاركة في حرب في الخارج.
وتضمنت اقتراحاته كذلك تعديل الدستور خلال فترة جائحة كورونا، طالبًا إضافة حالة الطوارئ في الدستور للمساعدة في التغلب على الأزمات الوطنية، لكن تضمن الاقتراح فقرة تسمح للحكومة بتقييد حقوق المواطنين مؤقتًا للتعامل مع حالات الطوارئ مثل الحرب والكوارث واسعة النطاق، وهو ما شهد بعض المعارضة.
كذلك، كانت له سياسات تهتم بمواجهة تنامي النفوذ الصيني، فكانت اليابان أحد الدول المتأثرة سلبًا بالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، فقد كان على سبيل المثال أول من أطلق مصطلح “المحيطين الهندي والهادئ” بما يمكنه من عودة بلاده على الساحة العالمية من جديد. واشترك مع الولايات المتحدة في الحوار الأمني الرباعي الذي تم فيه ضم كل من أستراليا والهند. وكان على رأس الداعمين لمبدأ حرية الملاحة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لا يزال “آبي” يحمل شعبية في المجتمع الياباني حتى لحظة اغتياله رغم ما واجهه في نهايات فترة حكمه من فضائح محلية وضغوط اقتصادية فرضتها جائحة كورونا على البلاد، إلى الحد الذي جعل هناك معارضة له بسبب الفشل في إدارة الأزمة في ظل زياة عدد الإصابات وتراجع المعدلات الاقتصادية، وقراره باستضافة أولمبياد طوكيو لعام 2020 رغم الجائحة.
ماذا بعد؟
يطرح حادث الاغتيال تساؤلًا عن مستقبل حوادث العنف في المجتمع الياباني، وعن كيفية تعامل حكومة رئيس الوزراء الحالي “فوميو كيشيدا” مع الأمر؛ إذ تواجه الشرطة اليابانية حاليًا أزمة في التعامل مع مسألة حمل الأشخاص للسلاح. هنا يجدر بالذكر أن اليابان بها أحد أكثر القوانين صرامة بخصوص الأسلحة، وهذا ما لم يجعل هناك توقع بإطلاق نار.
وعلى الجانب الحزبي، ترك اغتيال “آبي” فراغًا في قيادة الحزب الديمقراطي الليبرالي، فقد كان هو قائد أكبر فصيل داخل الحزب، إذ يتألف من 94 عضوًا –بات 93 بعد الاغتيال-، يليه الفصيل الذي يقوده “كيشيدا” ويضم 44 عضوًا. وهو ما يجعل هناك احتمالية لحدوث تفكك داخل فصيل “آبي” لصالح الفصيل الذي يقوده “كيشيدا”. وتثار احتمالات بشأن إجراء تغيير وزراي قد يشمل وزير الدفاع “كيشي نوبو” الأخ الأصغر لـ”آبي” قبل مراجعة السياسة الدفاعية والسياسة الأمنية اليابانية مع نهاية هذا العام. وقد يواجه مسؤول السياسات في الحزب “تاكايشي ساني” المساعد الأقرب لآبي تغييرًا في التعيينات التنفيذية للحزب.
وفيما يخص الدستور، قد يصبح حلم “آبي” في تغيير الدستور واقعًا بعد سيطرة التحالف الحاكم بقيادة “كيشيدا” على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان، وقد يرغب الأعضاء في تحقيق التغيير تخليدًا لذكرى “آبي”. وكذلك قد تشهد السنوات الثلاث المقبلة تغييرات جوهرية؛ إذ يُطلق على تلك السنوات “سنوات ذهبية” تستطيع الأحزاب الحاكمة أن تفعل ما تريد.
.
رابط المصدر: