ماكرون واليسار الجديد.. ماذا يحدث في فرنسا؟

إيهاب عمر

 

شهدت فرنسا سلسلة من الاضطرابات والاحتجاجات والمسيرات المنظمة خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2022، ما تسبب في شل حركة الشوارع الفرنسية يومي 29 سبتمبر و18 أكتوبر في أقوى وجود للمعارضة السياسية منذ بدء الموجة الجديدة من الحراك الشعبي عقب الانتخابات البرلمانية التي أجريت يومي 12 و19 يونيو 2022.

وكانت نتيجة الانتخابات قد أسفرت عن تراجع التأييد الشعبي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي فاز بالولاية الرئاسية الثانية والأخيرة هذا العام في الانتخابات الرئاسية، حيث لا يمنع الدستور الفرنسي أن يترشح الرئيس لولاية ثالثة على التوالي، وشهدت الانتخابات البرلمانية تراجعًا لحزب النهضة (حزب الجمهورية إلى الأمام سابقًا) الذي اسسه ماكرون وخاض به العمل السياسي والانتخابات البرلمانية والرئاسية عامي 2017 و2022.

وبرزت في البرلمان الفرنسي كتلتان رئيستان للمرة الأولى بهذا التضخم على حساب القوى التقليدية الفرنسية: الكتلة الأولى هي اليمين القومي برئاسة مارين لوبان التي وحدت اليمين القومي خلف شخصيتها بعد خمسة أعوام من الانشقاقات والتذمر الداخلي، والكتلة الثانية هي اليسار الجديد بقيادة جان لوك ميلونشون.

وإذا كان اليمين القومي يتألف من حزب واحد هو حزب التجمع الوطني برئاسة مارين لوبان، فإن اليسار الجديد بدأ أولًا بحزب فرنسا الأبية برئاسة جان لوك ميلونشون، ثم صاغ ائتلافًا موسعًا لانتخابات البرلمان ضم إلى جانبه كلًا من الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر، في أقوى ائتلاف يساري في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة.

عقب الانتخابات البرلمانية، شكلت إليزابيث بورن حكومة أقلية فرنسية، وكانت بورن قد تقلدت منصبها عقب انتخابات الرئاسة، وتعد ثالث من يشغل هذا المنصب في ظل حكم ماكرون، ولكن الوزارة الثالثة هي الأضعف مقارنة بوزارات إدوارد فيليب (2017 – 2020) وجان كاستيكس (2020 – 2022). وقد تعمد ماكرون أن يختار بعض العناصر اليسارية من حزبه في مواقع وزارية متقدمة من أجل جذب الأصوات اليسارية التي تصوت بكثافة لائتلاف اليسار الجديد.

وقد وفرت تداعيات الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا مناخًا سهلًا للمعارضة الفرنسية من أجل نشر واستثمار التذمر الشعبي حيال الحكومة الفرنسية، رغم أن سياسات ماكرون في الأزمة كانت مختلفة عن النهج الأوروبي أو الغربي، وصنع لبلاده موقفًا واضحًا ومستقلًا أشبه بدور “رجل الإطفاء” في كافة الأزمات التي حاول الغرب التصعيد فيها منذ توليه الحكم، سواء في الشرق الأوسط ومحاولاته الوساطة في الملف اللبناني وصولًا إلى أنه الزعيم الغربي الأكثر اتصالًا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بدء الحرب في 24 فبراير 2022.

فرنسا وأزمة الطاقة

اتخذت فرنسا بزعامة ماكرون نهجًا مختلفًا وسريعًا في ملف تعويض نقص إمدادات الطاقة سواء النفط أو الغاز، وبينما اتجهت أوروبا إلى شرق المتوسط وعقد الاتحاد الأوروبي معاهدة تاريخية مع مصر في هذا المضمار، وقام المستشار الألماني أولاف شولتس بجولة في الخليج العربي شملت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر دون أن يظفر بنتائج ترضى برلين؛ فإن فرنسا استغلت العوامل الجيوسياسية وتوجهت إلى غرب المتوسط وغرب أفريقيا، واستطاعت أن تؤمن احتياجاتها من الغاز والنفط ولو مؤقتًا مقارنة بمأزق القارة الأوروبية. بل إن فرنسا قامت بتصدير بعض شحنات الغاز إلى ألمانيا عبر الحدود، واستفادت من فارق السعر. ورغم أن كافة محطات الغاز الفرنسية عملت بشكل جيد في صيف 2022.

ولكن المعارضة اليسارية كان لها رأى آخر، فسعى ائتلاف اليسار الجديد بقيادة جان لوك ميلونشون مرارًا إلى طرح تصويت على سحب الثقة من حكومة إليزابيث بورن، في خطوة قد تمهد لتكليفه بتشكيل الوزارة الفرنسية. وفي ضوء المقاومة البرلمانية القوية لهذا المسعى اليساري، فإن اليسار الفرنسي وجد أن توظيف الأزمة الاقتصادية الدولية والحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا، إضافة إلى استمرار آثار جائحة كوفيد –19، وذلك عبر شحن الطبقة العمالية لرفع سقف المطالب وشن سلسلة من الاضطرابات تقلص شعبية الحكومة وتجبرها على الاستقالة.

وغاب عن اليسار الفرنسي أن تاريخ المعارضة الفرنسية كان وطنيًا في هذا المضمار؛ فلم تقف المعارضة الفرنسية يومًا لتوظف أزمات داخلية أو خارجية وطنية في صراع سياسي. وحينما ضرب الإرهاب فرنسا ما بين عامي 2014 و2016 بوجه الرئيس اليساري فرنسوا أولاند، تقاطر على الاليزيه زعماء اليمين الفرنسي، سواء اليمين الديجولي بقيادة نيكولا ساركوزي أو اليمين القومي بقيادة مارين لوبان، للاصطفاف مع الدولة والرئيس.

ولكن هذا الطقس البعيد عن أدبيات وقواميس المعارضة الوطنية الفرنسية يأتي متسقًا مع تطور لافت جرى منذ سنوات على يد منظري بيوت السياسة الأمريكية، حيث تتم ممارسة الانتهازية تحت عنوان البرجماتية، والابتزاز تحت عنوان المعارضة الوطنية. واتفق اليسار الجديد مع النقابات العمالية التي لها باع طويل في التعامل مع الاشتراكيين والشيوعيين في فرنسا، مثل الاتحاد العام للشغل ونقابة القوة العاملة، وانضمت إليهم لاحقًا اتحادات الطلبة وروابط التلامذة.

وكانت النتيجة هي تنفيذ إضراب ناجح لسلسلة من محطات الغاز في بلد لا يعاني من شح في الغاز! وصنع اليسار أزمة من لا شيء في هذا الملف، بينما تبدو الشوارع في دول أوروبية أخرى تعاني من شح في الغاز والنفط و14 سلعة غذائية، وعانت أكثر من فرنسا في ملف جفاف الأنهار، ومع ذلك لم يذهب عمالها وشعبها إلى الاستجابة لدعوات التظاهر والإضراب. ويعول جان لوك ميلونشون على الإرث الشعبي الفرنسي العاشق لأجواء التمرد والثورة، رغم أن الشعب الفرنسي شعر بنفس الزخم الثوري حينما أتى بإيمانويل ماكرون حاكمًا ليصبح أصغر رئيس في تاريخ الجمهوريات الفرنسية الخمس!

البرلمان الفرنسي ينتظر سابقة تاريخية

وبينما يلهث جان لوك ميلونشون من اجل الظفر بحق تشكيل الوزارة الفرنسية، وتنفيذ وعده الانتخابي بتأسيس “الجمهورية الفرنسية السادسة” واعتبار ماكرون هو آخر رؤساء الجمهورية الخامسة، في حين تنتظر لوبان خلف المشهد للانقضاض على الفرصة متى حانت؛ فإن مستشاري ماكرون ناقشوا معه بإلحاح فكرة حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والذهاب لأول انتخابات برلمانية فرنسية مبكرة منذ عام 1988.

وكانت فرنسا قد دخلت أزمة سياسية عقب الانتخابات البرلمانية التي عقدت يوم 16 مارس 1986، حيث كانت الغلبة وقتذاك للحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه رئيس الدولة فرنسوا ميتران ورئيس الوزراء لوران فابيان، ولكن الانتخابات أعطت الحق لرئيس حزب التجمع من أجل الحركة الشعبية الديجولي جاك شيراك –الرئيس الفرنسي لاحقًا– أن يشكل الحكومة ليتعايش ميتران مع رئيس حكومة لا ينتمي إلى حزبه ما بين عامي 1986 و1988، حتى حدثت خلافات في الائتلاف الحكومي، وحُل البرلمان، وأُجريت أول انتخابات مبكرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. وهكذا عقدت الانتخابات المبكرة في يونيو 1988 وخسر حزب ديجول 23 مقعدًا دفعة واحدة وخسر رئاسة الحكومة، ولم يعد الحزب الديجولي للحكم إلا يوم دخل شيراك قصر الإليزيه رئيسًا في مايو 1995.

وكان ماكرون قد رفض فكرة الحل الفوري للبرلمان عقب ظهور النتائج المتقاربة، وأن فرنسا أمام برلمان مغلق ومعلق وسوف يصنع أزمة سياسية اشد تعقيدًا من أزمة الثمانينات، واقترح مستشارو ماكرون عليه أن يحترم رأي الناخب الفرنسي لعام واحد فحسب، على أن يتم حل البرلمان في ربيع 2023 وإجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في صيف 2023، وهو رأي يلقى قبولًا مبدئيًا لدى ماكرون.

ولعل تلك النوايا هي سبب مسارعة جان لوك ميلونشون إلى التصعيد في الشارع؛ من أجل الظفر بتشكيل الحكومة استباقًا لحل البرلمان. ويمثل تصعيد جان لوك ميلونشون السبب في عدم قيام مارين لوبان بالتصعيد، حتى لا تظهر أمام الشعب الفرنسي بشكل انتهازي وأنها وظفت مشاكل دولية وإقليمية في صراع سياسي متجاوزة الأعراف الوطنية الفرنسية. ويبقى ماكرون يمثل وسطية فرنسية تبدو أقرب للانقراض في ظل انقسام شعبي ما بين اليمين القومي واليسار الجديد، ويحاول الإبحار بفرنسا إلى شاطئ النجاة، وإنهاء ولايته بنجاح يكفل استمرار الجمهورية الخامسة بعيدًا عن اليمين القومي واليسار الجديد.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73785/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M