فارس خشان
بين زيارة الرئيس الفرنسي للبنان، في السادس من آب (أغسطس) الأخير، وزيارته الثانية التي انتهت، أمس تلقى معاونو ايمانويل ماكرون انتقادات كثيرة، للقرار القاضي بالإنفتاح العلني على “حزب الله”.
ولم تخرج كلمة دفاعية واحدة من قصر الإليزيه، إمّا لأنّ المستمعين كانوا يكتفون بالإستماع، وإمّا لانّ الزوّار كانوا يلوذون بالصمت.
ولكن، هذه الوضعية اختلفت، عشية زيارة ماكرون الثانية، إذ إن شخصية لبنانية خرجت من لقائها مع مسؤول في الرئاسة الفرنسية “مضطربة”. لقد سمعت ما لم تكن تتوقعه.
المسؤول الفرنسي عقّب على انتقادات الشخصية اللبنانية، بصرامة، قائلاً إنّ فرنسا اليوم أمام خيارين، إمّا أن تترك لبنان ينتهي ويكون ساحة للعواصف الإقليمية، وهذا يتناقض ومصالحنا الإستراتيجية، ورؤيتنا للبنان ودوره في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، كما لوجوب رسوخ اللبنانيين في أرضهم، وإمّا نتدخل ونحاول أن نصلح ما أفسده السياسيون اللبنانيون الذين كنّا ندعمهم ونستمع إليهم.
وسألت الشخصية اللبنانية مضيفها الفرنسي:
– وماذا فعل هؤلاء السياسيون، حتى تبرّروا انفتاحكم على “حزب الله” في وقت يضيّق عليه العالم؟
رسم ابتسامة صفراء على شفتيه وأجابه:
– لقد سلّموا لبنان الى “حزب الله” كلّياً، بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. الرئيس ماكرون، في مساعيه الحالية لإنقاذ لبنان، لا خيار أمامه إلّا أن يحاول تصحيح المسار الذي رسموه هم. هو يتطلّع الى أن يحقق للبنانيين ما وعدوهم به سياسيوهم، حين كانوا يطلبون دعمنا ودعم المجتمع الدولي لانتخاب عون رئيساً للجمهورية. كانوا يزعمون أنّ الأمر الواقع يفترض أن يتعاون الجميع من أجل إخراج لبنان من الكارثة التي تلوح في الأفق، وأنّ عون سيكون عونهم لإقناع “حزب الله” بانتهاج سياسة بنّاءة. فشلوا هم في كل ما وعدونا ووعدوا أنفسهم وشعبكم به. الآن، نسعى نحن إلى تحقيق ما عجزوا عنه هم، بالمعادلات نفسها التي أرسوها ورسّخوها.
وعندما اعترضت الشخصية اللبنانية على هذا الكلام، إنطلاقاً من أنّ من كان قد أوهم السياسيين اللبنانيين، بهذا الحل، يوهم الآن الرئيس الفرنسي به، أجابه المسؤول الفرنسي: ” الفارق أنّنا لسنا أغبياء، ونملك ما يكفي من أوراق قوة، حتى نعرف أن نوفّق بين تطلعاتنا وبين قدراتنا”.
هذه الواقعة التي روتها الشخصية اللبنانية، وأكد عليها، حيثيات أو مواقف، أكثر من مصدر فرنسي، تثبت أن باريس تريد تثمير التسوية الرئاسية الشهيرة التي انتُخب، بموجبها العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
والتثمير، وفق مصدر فرنسي، لا يعني “الإحياء”، أي أنّ على اللاعبين، بدل أن يتقاسموا الحصص ويتنازعوا عليها، المسارعة الى التوافق، ولو من باب المنافسة السياسية، على إدارة إنقاذية للدولة، على حساب مصالحهم، مما يقتضي أن يتنازل الجميع عن مكتسباتهم السلطوية وتطلعاتهم العقائدية.
وهل يندرج، في هذا السياق، فرض السفير مصطفى أديب، رئيساً للحكومة اللبنانية؟
باريس، تنكر أن يكون لها أي علاقة بتسمية أديب. وهذا ما كرره شخصياً ماكرون، في أكثر من حديث صحافي، واكب زيارته لبيروت، إذ جزم بعدم معرفته المسبقة به.
معارف أديب يؤكدون صحة كلام ماكرون، فرئيس الحكومة المكلّف لم تكن له أي علاقات بالإدارات الفرنسية وبالسياسيين الفرنسيين على اختلافهم.
ويشير هؤلاء الى أن علاقات أديب ممتازة مع إدارة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، وفي حال لم تكن تسميته نابعة كلياً من “نادي رؤساء الحكومة السابقين”، حيث تربطه علاقات مميّزة للغاية مع الرئيس نجيب ميقاتي وعلاقات احترام مع الرئيس سعد الحريري، وكانت ثمة تزكية خارجية، فتكون عبر القنوات الألمانية-الفرنسية.
المصادر الفرنسية تجدّد عدم علاقتها بالتسمية. هي تلقت من الرئيس الحريري اسمه واطلعت على مواصفاته السياسية والشخصية والعلمية والقيادية، واعتبرت أنّه يصلح أن يكون رئيساً لـ”حكومة مهمة”، وباركت الخطوة لأنّها تتناسب مع مبدأ الحصول على دعم داخلي كبير.
وباريس التي وعدها السياسيون اللبنانيون بتشكيل حكومة في مدة أقصاها اسبوعان، تتطلع الى أن تشكل الحكومة من شخصيات تشبه رئيسها، أي كفوءة ومستقيمة ومستقلة.
صفقة مع “حزب الله”!
ولكن، ماذا عن صفقة يحكى عنها بين فرنسا من جهة وبين “حزب الله” من جهة أخرى كترجمة لصفقة أكبر مع إيران؟
في باريس، لا يوجد أي حديث عن صفقة من أي نوع كانت، فماكرون يريد أن يكون، كما أطلق هو على نفسه “وسيطاً نزيهاً”.
و”الوسيط النزيه” يتحدّث مع جميع اللاعبين، من دون استثناء، ويضع على الطاولة ما يمكن أن يفيد الجميع، ولا يعقد أي صفقات من تحت الطاولة.
وبهذا المعنى، فإن الرئيس الفرنسي يتعاطى مع “حزب الله” على قاعدة إنجاز مشروع، وليس على قاعدة عقد صفقة.
ومشروع ماكرون واضح: على “حزب الله” أن يكون لاعباً لبنانياً لما فيه إنقاذ لبنان مما يتخبط به، وليس لاعباً إقليمياً في خدمة أجندات من شأنها أن تزيد توريط لبنان.
وعلى هذا الأساس، وفقط على هذا الأساس، يمكن أن تتحسّن العلاقات الفرنسية بالجناح السياسي للحزب الذي تفصله، حتى إشعار آخر، عن الجناح العسكري، حتى ولو كان واضحاً لديها أن القوة السياسية للحزب تتأتى من القوة العسكرية، وتالياً فالجناحان يخدمان الطائر نفسه.
وهذا ليس جديدا على فرنسا، فهي لم تقاطع “حزب الله” يوماً. صحيح أن العلاقات السياسية بين الطرفين “خافتة جداً” ولكنها قائمة، وأهمها يتمحور حول العلاقة الميدانية في جنوب لبنان، حيث تشغل فرنسا دوراً رائداً في ال”يونيفيل”.
ولم يخف يوماً السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه، يوماً نظرته الى وجوب التفاعل مع “حزب الله”، على اعتبار أن قوته كاسحة في النظام اللبناني.
وطالما أخذ عليه معارضو “حزب الله” هذا الموقف، وكان البعض يذهب الى حدود وصفه بأنّه سفير إيران في لبنان، وليس سفير فرنسا.
ولكنّ مقاربات ماكرون لـ”حزب الله” وقوته السياسية في لبنان، بيّنت أن فوشيه كان سفيراً أميناً على النظرة الحقيقية لباريس الى الوقائع اللبنانية.
وكما هي طبيعة العلاقة الفرنسية مع “حزب الله”، فإنّها كذلك مع إيران. العلاقة كما يشرحها الفرنسيون لا تقوم على صفقة بل على معادلة حيوية، فوقوف باريس في وجه إطلاق واشنطن آلية “سناب باك” في الاتفاق النووي، لم يكن مجانياً، بل أعاد الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشيها الى حيث كانت ترفض طهران بعناد.
ولكن سياسة ماكرون هذه لا تلاقي اعتراضات لبنانية وعربية فحسب، بل هي بدأت تلاقي اعتراضات فرنسية.
وفي هذا الإطار، وقعت سبع وعشرون شخصية فرنسية بارزة بينها رئيس حكومة سابق (ايمانويل فالس) ووزراء سابقون بينهم من يعرف لبنان جيدا (فيليب دوست بلازي) ونواب حاليون ونواب سابقون وناشطون في المجتمع السياسي والحزبي والحقوقي والقانوني والأكاديمي، عريضة طالبت بوضع “حزب الله” على لوائح التنظيمات الإرهابية في فرنسا كما في الاتحاد الأوروبي.
موقعو العريضة رأوا أن مساعي ماكرون، في ظل استمرار “حزب الله” المسلح والذي ينفّذ الأجندة الإيرانية، ستذهب سدى.
ويدرك ماكرون حجم الإعتراض على استراتيجية ” الوسيط المحايد”، وهو أعلنها بالفم الملآن، في مؤتمره الصحافي الذي اختتم به فاعليات زيارته الثانية لبيروت، إذ أشار الى أنّه كان يمكنه أن يطالب بنزع سلاح “حزب الله” ويعود الى باريس حيث يتم التصفيق له، ولكنه-أضاف-لو فعل ذلك لما كان بإمكانه تحقيق أي شيء.
ولكن على ماذا يركن ماكرون ليقود سياسة محفوفة بمخاطر الفشل؟
إنه يريد فصل الملف المالي والاقتصادي عن الملف السياسي-السيادي، وهو واثق من قدرته على ذلك، لأنّ لديه خيارات “عقابية”، فإدراج “حزب الله” على لوائح التنظيمات الإرهابية “مرجأ”، وملاحقة السياسيين اللبنانيين الذين سيتورطون بالفساد، في هذه المرحلة، ستكون “قيد المتابعة”، وفضح الجهات التي عرقلت خطته وحرمت لبنان من المساعدات الأممية الإنقاذية، سيكون بتصرف الرأي العام اللبناني.
هل يكفي ذلك؟
بالنسبة له هذا واعد. بالنسبة للمراقبين هذا وهم، لأنّ “غيره كان أشطر”، إذ إنّه، في كل مرة جرى فصل الملف الاقتصادي-المالي عن الملف السياسي-السيادي كان لبنان يتدحرج أكثر من ذي قبل، الى درك جديد في الهاوية.
هذه نظرية سار بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حتى العام 2004، ومن ثم سارت فيها قوى 14 آذار، في انتخابات العام 2005 وجددتها في العام 2008، ورسّختها، في التسوية التي أوصلت العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
كانت هذه النظرية، تضخ بعض الأوكسيجين في الاقتصاد اللبناني، ولكن سرعان ما يعود الى اختناقه، ولكن بعوارض أكثر حدة، إلى أن وصل لبنان الى ما هي عليه الحال، راهناً.
ولكن ماكرون يصدّق أحلامه. هذا ما علّمته إياه تجربته الشخصية. حلم الرئاسة كان مستحيلاً، بالنسبة لكثيرين، فحقّقه. حلم الحصول على الأغلبية النيابية، كان مستبعداً، فأُنجزه.
إنّ أكثر ما أحب ماكرون في الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز، كما قال في تعليقه على زيارتها، أنها غنّت للبنان الحلم الذي لم يتحقق يوماً. هو يريد تحقيق هذا الحلم.
والجنرال هنري غورو، حين أعلن دولة لبنان الكبير، قال كلاماً مهماً عن تخلي الأطراف السياسية عن أطماعها الفردية لمصلحة بناء الوطن. لم يصب غورو في ما قاله. ماكرون يريد أن يصحّح مجرى التاريخ، ويُضفي على كلمة ممثل فرنسا حينها، الصدقية، ولو بعد مائة سنة.
ولكن ألا يحتاج ذلك الى “مفوّض سام”؟
الطبقة السياسية اللبنانية المتهالكة التي كانت تفتش عن “حبل خلاص”، أشعرت ماكرون أنّه ليس مفوّضاً سامياً، بل أكثر من ذلك بكثير: إنه رئيس…سام!
رابط المصدر: