شيماء فؤاد- باحثة اقتصاديّة
عمّار ياسين- باحث في دراسات السّلام والصّراع
في ظل تردّي أوضاع منطقة القرن الإفريقي واستمرار أنماط متباينة من الحالات الصّراعية الداخليّة (Intra-national Conflict) مثل “اشتباكات لاس عنود” الدامية في أرض الصّومال (Somalia-land) في فبراير من العام الجاري؛ ما دفع ما يزيد عن 185 ألف شخصاً إلى النزوح إلى بقاع أُخرى داخل الصّومال أو اللّجوء خارجها إلى إثيوبيا ودول مجاورة، بحسب تقدير المفوضيّة السامية للأُمم المتحدة لشؤون اللاجئين[1]. فضلاً عن الاقتتال الأهلي الدائر منذ مُنتصف أبريل من العام الجاري بين الجيش الوطني السّوداني وقوات الدعم السّريع، واحتياج ما لا يقل عن 18 مليون شخصاً بالسّودان لمُساعدات عاجلة، الأمر الذي يحتاج ما لا يقل عن 3 مليارات دولار للاستجابة الفعّالة لهذه الأزمة المُفاقمة، بحسب تقدير مكتب الأُمم المُتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (UNOCHA)[2] وتأثير كل ذلك على تنامي أزمات الأمن الغذائي (Food Security) في المنطقة[3] وصولاً لمستوى انعدام الأمن الغذائي (Food insecurity) في العديد من الدول الأعضاء بإيجاد، مع احتماليّة تعرض بعض المناطق في الصّومال والسّودان وجنوب السّودان لخطر المجاعة؛ تأتِ أهمية التعرف على ماهية الهيئة الحكوميّة الدوليّة المعنيّة بالتنمية “إيجاد” وكذلك حدود الدور الذي تلعبه تجاه قضيّة الأمن الغذائي في المنطقة.
إيجاد.. ظروف النشأة والمسار:
“إيجاد” هيئة إقليميّة تُنسّق جهود التنمية في دولها الثمانية الأعضاء، نشأت في شكلها الأول في ثمانينيات القرن العشرين بهدف مُكافحة الجفاف والتصحُّر في منطقة القرن الإفريقي؛ لما له من تأثير سلبي مُستمر على اقتصاديات هذه المنطقة وأمنها الغذائي. كان دافع القادة المؤسّسين لإيجاد في شكلها الأول، وحتى بعد التطوير، هو تحقيق غاية مفادها تطوير هُويّة إقليميّة للمنطقة والعيش بسلام والتمتع ببيئة آمنة تُخفّف من حدة الفقر من خلال برامج التنمية المُستدامة المُناسبة، حيث تمّ النّص على ما يلي:
الرؤية: خلق منطقة مرنة وسلميّة ومُزدهرة ومُتكاملة، يتمتّع مواطنيها بجودة حياة عالية.
الرسالة: تعزيز التّعاون والتّكامل الإقليميَّين لإضافة قيمة لجهود الدول الأعضاء في تحقيق السّلم والأمن والازدهار.
الهدف الأساسي: التحوُّل نحو التنمية المُستدامة والصُّمود أمام التحديات وتحقيق الاستقرار في منطقة إيجاد.
السّمة الأساسيّة: القُدرات الإقليميّة التّحويليّة من أجل تحقيق التنمية المُستدامة.[4]
يُلاحظ من رؤية ورسالة إيجاد، فضلاً عن هدفها وسمتها الأساسيّة؛ توجّهها في السّعي من أجل مساعدة الدول الأعضاء على الصّمود أمام التحديات الاقتصادية والسياسيّة والأمنية والعسكريّة التي تُعاني منها، ويأتِ على رأس ذلك قضية الأمن الغذائي بطبيعة الحال.
إيجاد.. الغايات والأهداف[5]:
نصّت المادة السّابعة من اتفاقية إنشاء إيجاد على بعض غايات وأهداف تُمثّل تطلُّعات تسعى إلى تحقيقها على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وهي على النّحو التّالي:
- تعزيز استراتيجيّات التنمية المُشتركة بين الدول الأعضاء، والمواءمة المبنية على التدرُّج في السياسات وبرامج الاقتصاد الكلّي (Macro) في المجالات الاجتماعية والتكنولوجيّة والعلميّة على حد سواء.
- مُواءمة السياسات فيما يتعلّق بالتجارة والتعريفات الجمركيّة ونقل البضائع وانتقال الأشخاص والاتصالات والزراعة والمواد الطبيعيّة والبيئة، وتعزيز حُرية حركة السّلع والخدمات بالمنطقة والأشخاص من وإلى الدول الأعضاء.
- تهيئة بيئة مُواتية للتجارة والاستثمار الأجنبي وكذلك عبر الحدود وداخل الدول الأعضاء.
- بدء وتعزيز برامج ومشروعات تُحقّق الأمن الغذائي الإقليمي والتنمية المُستدامة للموارد الطبيعية وحماية البيئة، وتشجيع ومُساعدة جُهود الدول الأعضاء في مُكافحة الجفاف وغيره من الكوارث الطبيعيّة وكذلك الكوارث التي هي من صُنع الإنسان، وإدارة عواقبها بصورة بنّاءة.
- تطوير وتحسين بِنية تحتيّة جيدة ومُتكاملة في مجالات النقل والاتصالات السلكيّة واللاسلكيّة والطّاقة في المنطقة.
- تعزيز السّلم والاستقرار في المنطقة وإنشاء آليات داخل المنطقة لمنع/درء/الوقاية من النزاعات والصّراعات بشقّيها الدولي (Inter-national) والداخلي (Intra-national) وإدارة ما ينشب منها ويطفو على السّطح من خلال الحوار والأدوات السلميّة لتسوية النّزاعات والصّراعات.
- تعبئة الموارد من أجل تنفيذ برامج للطوارئ قصيرة ومتوسّطة وطويلة الأجل في إطار التعاون الإقليمي بين الدول الأعضاء.
- تيسير وتعزيز وتقوية أواصر التّعاون في تطوير البحوث وتطبيقها في مجال العلوم والتكنولوجيا.
- العناية ببناء القدرات والتدريب على المُستويين الإقليمي والوطني بالدول الأعضاء.
- الحرص على إنتاج ونشر المعلومات التنموية في المنطقة لتعميم الفائدة.
وبالنّظر في الأهداف المُشار إليها، نستطيع مُلاحظة اعتناء إيجاد بالأهداف الاقتصاديّة المتمثّلة في تعزيز استراتيجيّات التنمية وبرامج الاقتصاد الكُلّي فضلاً عن تهيئة بيئة مواتية للتجارة والاستثمار، وتطوير وتحسين البنى التحتية.. إلخ، أكثر من اعتناءها بالأهداف الاجتماعية أو السياسيّة، وهذا أمر بدهيّ بالنظر لكونها تجمّع اقتصادي بالأساس، وبالنظر لكون السّمة الغالبة في دولها الأعضاء هي المُشكلات الاقتصاديّة والتي تأتِ أولاً ويأتِ تبعاً لها مُشكلات أُخرى اجتماعية وسياسيّة. ويُلاحظ كذلك أنه وعلى الرغم من إشارة إيجاد لهدف سياسي واحد ضمن أهدافها إلا إنه هدف جامع لمرحلتي ما قبل وأثناء الصّراعات؛ قبل اندلاع الصّراع بضرورة وجود آليات وأُطُر من شأنها أن تمنع أو تدرأ الصّراعات بالمنطقة، وأثناء الصّراعات من خلال مساعدة الأطراف على إدارة الصّراع على نحو بنّاء، ويعوزها فقط في هذا الجانب الإشارة لمرحلة ما بعد الصّراع “بناء السّلام” لكي تضمن استدامة للأمن والسّلم في المنطقة.
أمّا الجانب الذي هو بحاجة جادة للنّص عليه أولاً ضمن أهداف إيجاد، ومن ثم وضع مبادئ وآليات تنفيذية لضمان تحققه على النحو الأمثل هو الجانب المتعلّق بمسألة الصُّمود أمام التحديات التي تواجه دول المنطقة، وبالتحديد فيما يتعلّق بالأمن الغذائي الذي يُمثّل الخطر الأكبر لدول المنطقة، حيث لا تكفي الإشارة الواردة في الهدف الرابع بشأن بدء وتعزيز برامج ومشروعات تُحقّق الأمن الغذائي، في ظل تراجع معدلات العديد من بلدان المنطقة لمستويات قياسيّة تجعل مسألة الصُّمود أمام مخاطر انعدام الأمن الغذائي سواءً ما تعلّق منها بأسباب طبيعيّة مثل التغيُّرات المُناخيّة أو سياسيّة بسبب انعكاسات الحرب الروسيّة-الأوكرانية؛ ما يجعلها على رأس أولويات ما ينبغي أن يشغل إيجاد في المرحلة الحالية والقادمة.
ماذا عن البِنية التنظيميّة لإيجاد؟
تتألّف البنية التنظيمية لإيجاد من أربعة أجهزة سياسات هرميّة على النّحو التّالي:
- مجلس رؤساء الدول والحكومات: وهو الجهاز الأعلى لصنع السياسات ولتكوين الجهاز التنظيمي للهيئة، حيث يُحدّد الأهداف والمبادئ التوجيهيّة فضلاً عن البرامج المتبعة والسياسات المعنيّة بالتنمية في الدول الأعضاء، وينعقد مرة سنوياً ويتم انتخاب الرئيس بالتناوب من الدول الأعضاء بإيجاد.
- مجلس الوُزراء: وهو ثاني أعلى جهاز بالهيئة، يتكوّن من وزراء الخارجيّة في الدول الأعضاء جنباً إلى جنب مع وزير آخر للتنسيق تُعيّنه كل دولة عضو، ويقوم المجلس بصياغة السياسات كذلك والموافقة على برنامج العمل والميزانية السنوية للأمانة العامة خلال دوراته نصف السنوية.
- لجنة السُّفراء: وتتكوّن من سُفراء الدول الأعضاء بإيجاد أو المفوّضين المُعتمدين في بلد المقر، جيبوتي، وتجتمع اللجنة كلما دعت الحاجة لذلك من أجل تقديم المشورة وتوجيه الأمين التنفيذي للهيئة.
- الأمانة العامة: وهي جهاز تنفيذي يرأسه أمين تنفيذي يعيّنه مؤتمر رؤساء الدول والحكومات لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط، وتساعد الأمانة الدول الأعضاء في صياغة المشروعات الإقليمية في المجالات ذات الأولوية، وتيسير تنسيق السياسات الإنمانية وتكييفها على واقع البلدان، فضلاً عن تعبئة الموارد اللازمة لتنفيذ المشروعات والبرامج التي يوافق عليها المجلس، وتُعزّز كذلك البنى التحتيّة الوطنية، واللازمة لتنفيذ المشروعات والسياسات الإقليميّة ذات الصّلة. [6]
جديرٌ بالذكر، أنّ الأمانة العامة لإيجاد يرأسها حالياً السيّد الدكتور وُركنيه جيبيهيو، إثيوبي الجنسية، وهو سادس أمين تنفيذي من حيث الترتيب خلفاً للسيّد محبوب مُعلّم، صُومالي الجنسيّة. وأنّ الدورة الرابعة عشرة لمجلس رؤساء الدول والحكومات بإيجاد قد عُقدت منتصف يونية الماضي، وسيجري تحليل لأبرز النقاط التي أولتها اهتماماً.
مُعضلة الأمن الغذائي في منطقة القرن الإفريقي:
شهدت منطقة القرن الإفريقي طوال 30 عاماً تقريباً منذ 1970 وحتّى 2000 ثلاث مجاعات على الأقل بسبب التغيُّرات المُناخيّة والمُعدلات المرتفعة وغير المُخطَّط لها لنموّ السُّكان. أزمات الأمن الغذائي ليست قديمة فحسب في المنطقة، فقد واجهته القارة الإفريقية بصفة عامة أزمة حقيقيّة منذ اندلاع الحرب الروسيّة-الأُوكرانية مع بداية عام 2022، والتي لم تكُن قد تعافت بعد من آثار جائحة كورونا. ثم أتت الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة لتتزامن مع موجة جفاف هي الأسوأ في منطقة القرن الإفريقي منذ ما يقرب من 40 عاماً، فضلاً عن فشل ثلاثة مواسم مُتتالية للأمطار ممّا أدّى لنزوح العديد من السكان بحثاً عن الطعام والماء الصّالحين للاستخدام البشري.[7]
نظرة عن قُرب على أحوال دول القرن الإفريقي قبل وأثناء وبعد جائحة كورونا
زادت جائحة كورونا جنباً إلى جنب مع الصراعات وانعدام الأمن وهشاشة دول القرن الإفريقي في تعاملها مع الصدمات الاقتصادية الخارجيّة بسبب التغيّرات المناخية الشديدة التي أدت إلى تأزم أوضاع الأمن الغذائي خلال عام 2020. فقد واجه حوالي 31.4 مليون شخصاً في سبع دول من بين ثمانية دول أعضاء في إيجاد (باستثناء إريتريا) أزمة انعدام أمن غذائي حاد من المرحلة الثالثة عام 2020، وهذا العدد يُمثّل 20% من إجمالي 155 مليون شخصاً واجهوا مستويات عالية من أزمات الانعدام الحاد للأمن الغذائي عالمياً في نفس العام.
وظهرت ثلاثة بلدان من دول إيجاد في قائمة أسوأ 10 بلدان عانوا من أزمات غذائية عالمية حادة من المرحلة الثالثة في نفس العام وهم: السودان وجنوب السودان وإثيوبيا، حوالي 24 مليون شخصاً، وتمثّل هذه البلدان الثلاثة ما نسبته 79% من سُكان منطقة إيجاد بالكُلية. وفي ستّة بلدان داخل نطاق إيجاد، كان 6.8 مليون شخصاً يعانون من نقص غذاء حاد من المرحلة الرابعة أو مرحلة الطوارئ، وكانوا أيضاً في البلدان الثلاثة ذاتها: السودان وجنوب السودان وإثيوبيا. كما أنّه في ديسمبر من نفس العام، استضافت منطقة إيجاد حوالي 4.2 مليون لاجئاً وطالب لجوء، بالإضافة إلى 9.5 مليون نازحاً داخلياً عانى معظمهم من مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد وسوء التغذية بسبب محدوديّة اختياراتهم وظروفهم الاقتصادية وسوء أحوال الدول المضيفة. وفي البلدان الثلاثة المذكورة، تعرَّض ما قُدّر بـ3.5 مليون طفلاً دون سن الخامسة للهزال وأمراض سوء التغذية، منهم 90 ألفاً عانوا من الهزال الشديد ونقص الوزن.[8]
وفي التقرير الإقليمي قبل الأخير الصادر عن إيجاد والمُخصَّص لسبل التعامل مع أزمات الغذاء، دقَّ ناقوس الخطر بشأن تصاعد وتيرة انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية في المنطقة، توقّع التقرير أن يُواجه أكثر من 50 مليون شخصاً مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد (مرحلة ثالثة أو أعلى من ذلك) وذلك في كل دول إيجاد عدا إريتريا، حيث تُواجه إثيوبيا وكينيا والصّومال والسودان وجنوب السّودان أكبر أزمات الغذاء في المنطقة. وقد توقّع التقرير أن يواجه حوالي 30 ألف شخصاً كارثة إنسانية في الصّومال عام 2022 بسبب خطر المجاعة المتوقع في ثماني مناطق صومالية (من المرحلة الخامسة) في حال استمرار فشل إنتاج المحاصيل والإنتاج الحيواني على نطاق واسع، بالإضافة لزيادة تكاليف الغذاء وغياب المساعدات الإنسانية الموسّعة.
وفي ذات الإطار، توقّع التقرير بأن سيواجه حوالي 50 مليون شخصاً أزمة غذاء من المرحلة الثالثة في التصنيف الدولي الموحّد للأغذية أو ما فوقها، بنسبة زيادة كبيرة عن 2021؛ عندما عانى 42 مليون شخصاً من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في نفس العام؛ وحينها استحوذت منطقة إيجاد على ما يقرب من 22% من النسبة العالمية للأشخاص الذين يُعانون من أزمة غذاء من المرحلة الثالثة أو أعلى من ذلك؛ كان جلياً في مُعاناة ما يُقدّر بنحو 10 مليون طفلاً دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ 24% من المُشرَّدين داخلياً في العالم والبالغ عددهم 51 مليون شخصاً موجودون أيضاً في منطقة إيجاد؛ لاسيّما إثيوبيا والصّومال والسّودان وجنوب السّودان.
وصنّف التقرير نسب تردّي الأوضاع في الدول المأزومة في منطقة إيجاد، بأنّ 40% من السُّكان في إثيوبيا (16.8 مليون شخصاً تقريباً) عانوا من مرحلة ما من مراحل تردّي الغذاء، و23% في السّودان (9.8 مليون شخصاً تقريباً) و17% في جنوب السّودان (7.2 مليون شخصاً تقريباً)، فضلاً عن وجود مُستوى أكثر حدة وخطورة هو حد الكارثة بالنسبة لحوالي نصف مليون شخصاً في إثيوبيا وجنوب السّودان على وجه التحديد، حيث استحوذا على ما يقرب من 90% من إجمالي النسبة في هذا المستوى بالذات معظمهم في إقليم تيجراي. ويُشير التقرير كذلك أنه يوجد حوالي 10 مليون شخصاً في حالة طوارئ (مرحلة رابعة من تردّي الوضع الغذائي) في منطقة إيجاد وحدها عام 2021، يتركّز 90% منهم في ثلاث بلدان تُعاني مُباشرةً من أزمات غذائية مُفاقمة: إثيوبيا، السّودان وجنوب السّودان.[9]
بصورة عامّة، زادت جائحة كورونا من تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي والتغذية القائمة بالفعل في منطقة القرن الإفريقي، وقد أدى ذلك إلى قيام الحكومات بفرض بعض التدابير الضروريّة التي يمكن أن تُعرّض بدورها الأمن الغذائي والتغذية للخطر. ذلك لأنّ تدابير مثل قيود الحركة وإغلاق الحدود تُعطّل بالفعل الخدمات اللوجيستيّة الغذائيّة وسلاسل التوريد، ممّا يؤثّر في النهاية على توافر الغذاء في بعض أجزاء المنطقة.[10] ثم جاءت تداعيات الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة لتزيد الأوضاع سُوءً في الدول الأعضاء بإيجاد، ممّا دفعها لإطلاق أكثر من استراتيجيّة والتخطيط لاستراتيجيّة جديدة في العام الجاري في ظل شراكة مع مُنظّمة الصحّة العالمية.
التّخطيط للاستراتيجيّة الجديدة جاء على إثر انطلاق اجتماعات موسّعة في إطار مُبادرة مُشتركة مع منظمة الصحّة العالمية على مدار 3 أيام في العاصمة الكينيّة نيروبي، من أجل التأهُّب لإطلاق استراتيجيّة جديدة من شأنها الاستجابة لمخاطر الصحّة والأمن الغذائي، ومنها الحد من مُعدلات الاعتلال والوفيات وتحسين وتبادل المعلومات والتعاون والتكامل البيني بين الدول الأعضاء، والتنسيق فيما يتعلق بجمع وتحليل البيانات ووضع خُطط استجابة مُرتّبة من ذي قبل لتوفير قدر أوفر من الدعم الخارجي وتوسيع نطاق الدعم الفنّي والتشغيلي للبلدان من أجل تحقيق استجابة أكثر فعالية تجاه المخاطر الصحية المُتزايدة في أعقاب أزمات انعدام الأمن الغذائي الحالية والمُتتالية في منطقة القرن الإفريقي العظيم “The Greater Horn of Africa”.[11]
هل قضية الأمن الغذائي على رأس أولويّات إيجاد؟
يمكن استكشاف ذلك من خلال بيان نشرته إيجاد عبر موقعها الرسمي في مُنتصف يونية الماضي، تحدّث فيه الأمين العام التنفيذي للهيئة، السيّد وركنيه جيبيهو، على هامش الدورة الرابعة عشرة لرؤساء دول وحكومات إيجاد؛ دارت كلمته حول النقاط التالية:
بدأ كلمته بتقدير مشاركة الدول الأعضاء جميعها بما فيها السُّودان رغم الصّراع الدائر، عن طريق نائب رئيس مجلس السيادة السّوداني مالك عقّار، وأردف أنّ استجابة قادة دول إيجاد يؤكّد على السّعي قدماً نحو التكامل الإقليمي والسّلام والأمن. أشار بعدها لجهود إيجاد في تهدئة التوترات بين الجانبين السّوداني والإثيوبي في منطقة حدوديّة مشتركة، على الرغم من أنّ مكاسب هذا التدخّل الناجح من إيجاد باتت تتآكل بسبب الصّراع الدائر حالياً في السُّودان، على حد قوله.
انتقل جيبيهو بعدها لعرض مساعي إيجاد في حلحلة الأوضاع في السّودان من أجل تعليق الأعمال العدائية من خلال هدنة مؤقتة، ومحاولة التوسُّط بين طرفي الصّراع. وأوضح أنّ الإشكاليّة الكُبرى في السُّودان تكمن في ظاهرة باتت على الأبواب وهي “النزوح المزدوج” أو تكرار عملية النزوح مرتان على الأقل، بسبب أنّ السّودان كان بالفعل من أكبر البلدان المُضيفة للّاجئين في إفريقيا والعالم؛ وهو ما جعل قرابة 1.4 مليون نازح يضطّرون للانتقال إلى بقاع أُخرى داخل السّودان بعيداً عن مرمى النيران، وهو ما سيكون له أثر غير عادي على قضية الأمن الغذائي وصولاً لانعدام الأمن الغذائي في بقاع عديدة داخل السّودان. وختم بأنّ إيجاد ودولها الأعضاء لديهم التزام أخلاقي وتاريخي بوقف الصّراع بل وبتحويل مساره (Conflict Transformation).
ومن السّودان، انتقل جيبيهو للحديث عن الأوضاع في الصّومال وأوغندا وتثمين اتفاق تسوية الصّراع في تيجراي، وأخيراً شجّع كل من جيبوتي وكينيا وأوغندا على استتباب الأوضاع في كل منهم وحرصهم على إجراء انتخابات سلميّة؛ رفعت من مُعدّل المصداقيّة لمنطقة القرن الإفريقي.[12]
ويتّضح من خلال الإشارات السّريعة من كلمة الأمين العام التنفيذي لإيجاد في آخر دورة انعقاد للهيئة، أنّها تتعامل مع قضيّة الأمن الغذائي باعتبارها إحدى القضايا الهامة التي هي في أجندة أعمالها، غير أنّه يمكن ملاحظة أنها تعتني أكثر بمسائل استتباب الأوضاع سياسياً وتحقيق السّلم والأمن. يأتِ ذلك على الرغم من أنّ مساعيها السياسيّة في محاولات التوسُّط بين الفرقاء في السّودان على سبيل المثال لاتزال متعثرة، وأنّ مدخلها في ذات الصّراع من بوابة استتباب الأوضاع وتحقيق السّلم والأمن الإقليميَّين ليس هو الخَيار الأنسب من أجل ضمان استجابة فعّالة من طرفي الصّراع، وإنما كان الأجدى هو التركيز على مسألة انعدام الأمن الغذائي وصولاً بخطر وقوع مجاعات في السّودان نتيجة استمرار الحالة الصّراعية هناك.
وبالتالي، يقع على عاتق إيجاد أن تُعيد ترتيب أولوياتها بحيث تضع قضية الأمن الغذائي هي الأولوية المُطلقة في مجمل ما تقوم به، فلن يكون للتكامل معنىً طالما أنّ الإنسان مُهدَّد في بقاع عديدة من منطقتها، إمّا بالجوع وعدم القدرة على تحصيل الطعام والشراب اللازمَين، والصِّحيَّين، والكافيَين لمعيشته الآدمية التي تتوفر فيها الحد الأدنى من الكرامة، وإمّا بتضافر عوامل بيئيّة مردّها التغيُّرات المُناخيّة فتزيد معها الصّراعات المتعلّقة بالبيئة، والتي تقع بصفة أساسيّة بين المُزارعين والرُّعاة وتوقع المزيد من القتلى والمُشرّدين.
[1] The UN Refugee Agency, “Tens of thousands arrive in Ethiopia, fleeing recent clashes in Somalia”, (UNHCR: February 17, 2023) https://www.unhcr.org/news/briefing/2023/2/63ef3fcc4/tens-thousands-arrive-ethiopia-fleeing-recent-clashes-somalia.html
[2] UN, “Sudan crisis: UN launches record country appeal for 18 million in need”, (UN: May 17, 2023) https://news.un.org/en/story/2023/05/1136737
[3] مُلاحظة: تقدير مكتب الأُمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية حوالي 3 مليارات دولار لأيّ استجابة فعّالة من شأنها حلحلة الأوضاع الإنسانية بالغة الخطورة في السّودان نتيجة الصّراع الدائر، هو رقم كبير يصعب عملاً توفيره، بالنّظر لكون بلدان مجاورة مثل إريتريا مثلاً وفق إحصاء عام 2022، يبلغ حجم ناتجها المحلّي الإجمالي 2.4 مليارات دولار، وكل من ليسوتو وإفريقيا الوسطى 2.5 مليارات دولار لكل منهما، وبوروندي وجيبوتي 3.7 مليارات دولار لكل منهما، أيّ أنّ إجمالي المطلوب فقط للاستجابة الفعّالة لتداعيات الصّراع السّوداني تفوق بالفعل حجم إجمالي الناتج المحلّي (GDP) لكل من ليسوتو أو إفريقيا الوسطى، ويُقارب حجم إجمالي الناتج المحلّي لجيبوتي أو بوروندي، وهو ما يُظهر الفجوة الهائلة بين ما تُخلّفه الحالات الصّراعية في القرن الإفريقي وبين مُتطلّبات تحقيق الأمن الغذائي وتفويت الفرصة أمام المزيد من الأوضاع الإنسانية المُضطّربة.
[4] IGAD Official Website, “Who we are: The History” https://igad.int/about/?tab=the-history
[5] Ibid, “about IGAD, aims and objectives” https://igad.int/about/?tab=aims-and-objectives#
[6] Ibid, “About IGAD, IGAD Structure” https://igad.int/about/?tab=igad-structure
[7] عمّار ياسين وشيماء فؤاد، “انعكاسات الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة على الأمن الغذائي في منطقة القرن الإفريقي”، (قراءات إفريقية: 5 مايو 2023) https://qiraatafrican.com/11190/انعكاسات-الحرب-الرُّوسيّة-الأُوكران-2/
[8] IGAD Climate Prediction and Applications Centre, 2021 report. https://www.icpac.net/fsnwg/2021-igad-regional-report-on-food-crises/
[9] Global Report on Food Crises 2022 (IGAD 2022) at: https://resilience.igad.int/resource/global-report-on-food-crises-2022/
[10] IGAD Food Security and Nutrition Response Strategy, 2020-2022. https://www.icpac.net/documents/297/IGAD_Food_Security_and_Nutrition_Response_Strategy_Web_-_05.09.2020.pdf
[11] IGAD, “IGAD and WHO Strategise to Prepare for Health and Food Security Risks”, (IGAD: February 15, 2023) https://igad.int/igad-and-who-strategise-to-prepare-for-health-and-food-security-risks/
[12] IGAD, “Official Statement of the IGAD Executive Secretary H.E. Workneh Gebeyehu (PhD) on the 14th Ordinary Assembly of the IGAD Heads of State and Government”, (IGAD: June 12, 2023) https://igad.int/official-statement-of-the-igad-executive-secretary-h-e-workneh-gebeyehu-phd-on-the-14th-ordinary-assembly-of-the-igad-heads-of-state-and-government/#
.
رابط المصدر:
