تستضيف مصر، خلال الفترة من ٢٩ نوفمبر الحالى إلى ٦ ديسمبر، المحادثات الأمريكية- الروسية- حول مستقبل معاهدة ستارت -٣ أو ستارت الجديدة، وهى واحدة من أهم المعاهدات الدولية المسئولة عن حماية الأمن العالمي, فهى المعاهدة الوحيدة المتبقية لضبط ومراقبة السلاح النووى بين البلدين، من خلال وضع سقف محدد لعدد الرءوس النووية التى يمتلكها كل طرف، وتبادل البيانات حول هذه الأسلحة، ووضع آلية للرقابة المتبادلة بشأنها. وقد دخلت المعاهدة حيز النفاذ فى فبراير ٢٠١١، وجرى تجديدها لمدة خمس سنوات أخرى فى فبراير ٢٠٢١، لكنها باتت تواجه مشكلة كبيرة على خلفية الحرب الروسية- الأوكرانية. ومن ثم، فإن انهيار هذه المعاهدة سيفتح المجال أمام سباق تسلح نووى، ستزداد خطورته فى ظل الأزمة الضخمة بين الجانبين.
هل استضافة مصر لهذه المحادثات يحمل دلالات محددة؟ قد يذهب البعض إلى أن دور مصر هنا لا يتجاوز كونها مقرا للمباحثات، وتوفير الجوانب اللوجستية. لكن حتى مع الإقرار بذلك، فإن الأمر لا يخلو من دلالات مهمة تتجاوز هذا البعد اللوجستي.
أولى تلك الدلالات تأتى من الأهمية الكبيرة لهذه المعاهدة- كما سبق القول- بالنسبة للأمن العالمى، ومن ثم فإن ارتباط اسم القاهرة بتجديد العمل بالمعاهدة أو الوصول إلى معاهدة جديدة يربط اسم القاهرة بحدث أو تفاعل إيجابى فى لحظة تاريخية فى تطور النظام العالمى يغلب عليها التفاعلات الصراعية، إلى حد عودة الحديث عن استخدام السلاح النووي. وهذه ليست المرة الأولى التى يرتبط فيها اسم القاهرة بمثل هذه الأحداث المفصلية فى تطور العلاقات الدولية، إذ مازال يُشار إلى إعلان القاهرة الصادر فى الأول من ديسمبر ١٩٤٣، باعتباره إحدى المحطات الرئيسية على طريق إنهاء الحرب العالمية الثانية، وإعادة الأمور فى شرق آسيا إلى ما قبل بدء التوسع العسكرى اليابانى خلال الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومازال هذا الإعلان جزءا من خطاب القوى الدولية فى هذا الشأن.
من ناحية ثانية، إن توافق طرفى المعاهدة على عقد هذه المحادثات فى القاهرة يحمل إقرارا من جانبهما بتوازن السياسة الخارجية المصرية تجاه الولايات المتحدة وروسيا، وتجاه الحرب الروسية- الأوكرانية التى تمثل حاليا القضية المركزية فى علاقات البلدين. ينسحب هذا التوازن على غيرها من القضايا، بما فى ذلك العلاقات الأمريكية- الصينية، وقضايا السلم والأمن الدوليين. إن قضية التوازن تلك أصبحت أحد أهم المعايير الحاكمة فى قرارات هاتين القوتين فى المرحلة الراهنة.
من ناحية ثالثة، فإن اختيار القاهرة مقرا لهذه المباحثات يضفى مصداقية كبيرة على خطاب مصر بشأن قضايا السلم والأمن الدوليين، وهو خطاب تاريخى يجد تفسيره فى الواقع الجغرافى والجيوسياسى للدولة المصرية، لكنه برز خلال الفترة الأخيرة على خلفية غلبة التفاعلات الصراعية داخل النظام العالمى، ووجود مخاطر حقيقية للانزلاق إلى حرب عالمية مدمرة. فى هذا السياق، يمكن فهم الدعوات المتكررة التى وجهها الرئيس عبدالفتاح السيسى لإنهاء الحرب فى أوكرانيا، كان آخرها من على منبر مؤتمر المناخ COP27. فى السياق نفسه نفهم أيضا إعلان مصر دعمها مبدأ صين واحدة باعتباره ركيزة أساسية لاستقرار النظام العالمي. لقد بات لدى مصر فى المرحلة الراهنة خطاب عالمى يتجاوز قضايا السلم والأمن الدوليين، ليشمل التفاعل المصرى مع القسم الأكبر من الأجندة الرئيسية للنظام العالمى، خاصة قضايا الطاقة وتغير المناخ ومصالح الدول النامية داخل هذا النظام.. إلخ. هذا النمط من الاشتباك المصرى مع القضايا العالمية اكتسب مصداقية كبيرة بسبب امتلاك مصر خبرات وتجارب خاصة فى هذه المجالات.
من ناحية رابعة، لاشك أن عقد هذه المحادثات فى القاهرة يمنح الدبلوماسية المصرية ثقلا إضافيا. هذا الثقل ليس جديدا، فقد تراكم عبر عقود متتالية من العمل الإقليمى والدولى، لكنه اكتسب بعدا جديدا عقب نجاح مصر فى استضافة الدورة السابعة والعشرين من مؤتمر المناخ، ليس فقط من حيث التنظيم والجوانب اللوجستية، لكن من حيث المضمون أيضا، خاصة مع نجاح الدبلوماسية المصرية فى تسهيل الشروط اللازمة لتحقيق المؤتمر اختراقا تاريخيا بالاتفاق على إنشاء صندوق خاص لتمويل الخسائر والأضرار الناتجة عن ظاهرة تغير المناخ، وفى ظل حالة استقطاب كبيرة بين الدول المتقدمة والنامية حول هذه المسألة. لقد باتت مسألة استضافة المؤتمرات والفعاليات الدولية موضوعا للمنافسات الدولية، وكاشفة فى الوقت نفسه عن تباين توزيع القدرات الدولية، وذلك لارتباطها بمعايير عدة، بدءا من مدى توافر البنية التحتية الملائمة، وانتهاء بالقدرات الدبلوماسية، ومرورا بتوافر القدرات والمهارات التنظيمية بأبعادها المادية والبشرية.
استضافة القاهرة هذه المحادثات هو أمر كاشف عن المكانة التى باتت تحظى بها الدولة المصرية داخل النظام العالمى، وهى فى الوقت نفسه ستكرس هذه المكانة على نحو يؤكد مكانتها كقوة وسطى داخل هذا النظام.
نقلا عن جريدة الاهرام الأربعاء 23 نوفمبر 2022
.
رابط المصدر: