أحمد عبدالحميد
في كتابها الذي حمل عنوان “إمبراطور الغاز” تحدثت الصحافية الروسية “ناتاليا غريب” عن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حوَّل قطاع الطاقة في بلاده لمحور مركزي في إدارة الشأن الخارجي لروسيا، حيث استخدم الغاز الطبيعي كأداة ضغط لفرض شروط سياسية على الاتحاد الأوروبي، وتقويض تحرك جيرانه من الدول السوفييته السابقة، ويبدو أن جوهر التجربة هذه مع أوروبا دفعت بوتين للتحرك لمنطقة أبعد، إلى الشرق الأوسط كي يضمن إبقاء هذا الضغط موصولاً بالتحكم في نقاط استراتيجية في طرق نقل وتزويد الغاز إلى أوروبا.
بعد اندلاع الثورة السورية في 2011 اتخذت روسيا موقفًا واضحًا بدعم بشار الأسد، ثم مع تأزم موقف الأخير خلال الفترة التي تلت اشتداد المواجهات مع فصائل المعارضة المسلحة في العام 2015، اضطرت موسكو لنجدة حليفها عسكريّا لعدة دوافع؛ من بينها خوف موسكو من أن تفقد الحليف الاستراتيجي الأهم لديها في المنطقة، وبالتالي فقدانها لموطئ القدم الوحيد لها على البحر المتوسط، وهي المنطقة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة من حيث النفوذ والتواجد العسكري حيث يتمركز أسطولها السادس في محيطه.
بدا هذا السبب هو الدافع الأكبر أثناء المواجهات التي استمرت لفترة طويلة في سوريا قبل أن تستقر الأوضاع لصالح بشار الأسد بدعم كبير من روسيا وإيران وحزب الله، ومع الانتصار بدأت دوافع أخرى تظهر في الصورة والتي كان أهمها الحصول على عقود إعادة إعمار البنية التحتية، ووضع ثقل الاستثمارات الروسية في قطاعات حيويَّة سورية أبرزها قطاع النفط والغاز الطبيعي، وتوسيع النفوذ الروسي العسكري في حوض شرق المتوسط، بتواجد دائم في منطقة الشرق الأوسط عبر الحصول على حق استغلال ميناء طرطوس السوريِّ لمدة نصف قرن تقريبًا، وإقامة قاعدة عسكرية جوية في منطقة “حميميم” باللاذقية.
لن يمر الغاز عبر المنطقة إلا بموافقة روسية
لم تكن الاحتياطات السورية من النفط والغاز الطبيعي هي الأهم لروسيا، حيث لا يُعد الوزن النوعي فيما يخص إنتاج الغاز الطبيعي والاحتياطات النفطية في سوريا كبيرًا بالمقارنة بدول أخرى ، فقبل العام 2010 كان أغلب الإنتاج السوري من النفط والغاز الطبيعي يذهب للاستهلاك المحلي، وقد قُدِّرت الاحتياطات النفطية السورية وقتها بحسب مؤسسة بريتش بتروليوم بنحو 2.5 مليار برميل، أي 0.2% فقط من الحصة العالمية، في حين أنتجت سوريا في 2010 حوالي 8.4 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، الجزء الأكبر منه كذلك كان يذهب لمحطات توليد الكهرباء.[1] لكن الأمر يتجاوز لأبعاد أخرى كلها تصب في فكرة توسيع النفوذ السياسي والعسكريّ، والسيطرة على جزء من سوق الطاقة العالمي بوضع اليد على مناطق التزويد بالنفط والغاز الطبيعي، حيث يربط موقع سوريا الاستراتيجي بين دول التصدير في العراق وإيران ودول الخليج، وبين دول الاستيراد في الاتحاد الأوروبي.
في العام 2010 دخلت شركات التنقيب الروسية السوق السوري من خلال مشروع تطوير في حقل قيشام الجنوبي قرب دير الزور، الذي يُعتقد أنه يحوي 4.9 ملايين طن من النفط. وفي عام 2013، مع دخول الحرب مرحلتها الأكثر دموية، فازت شركة “سيوز نفط غاز” الروسية بمناقصة حصرية للتنقيب عن احتياطيات الغاز البحرية السورية وتطويرها ما زاد أصول الشركة المتواضعة قرب الحدود السورية مع تركيا. كانت شركات النفط الروسية، مدركةً قيمة سوريا كمركز لنقل النفط والغاز أكثر منه دولة مزودة، من ثم سعت للاضطلاع بدور فعال في إعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها. ومن خلال هذه الجهود الحثيثة تأمل شركات الطاقة الروسية بالتحكم في جزء كبير من خطوط الأنابيب ومنشآت التسييل والمصافي والموانئ، وبالتالي يضمن قطاع النفط والغاز الروسي أن أي بلد يدرس احتمال شحن منتجاته النفطية عبر مرافئ وخطوط أنابيب سوريا سيرغم على التماس رضا روسيا، إن لم يضطر إلى التفاوض معها مباشرة.[2]
حقول الغاز تحت سيطرة الأكراد
يتركز أغلب الإنتاج النفطي السوريّ بشكل أساسيّ في منطقتين، هما شمال شرق محافظة الحسكة، ومنطقة دور الزور، وبالتالي فقد كانتا نقطة اشتعال بشكل دائم أثناء المواجهات بين بشار الأسد وخصومه، قبل أن يستولي عليها لاحقا تنظيم “داعش”، ثم “قوات سوريا الديمقراطية” (المكونة من ميلشيات كردية بالأساس).
حاليا تقع أبرز حقول النفط تحت سيطرة الأكراد، في حين تخضع حقول الغاز لسيطرة الحكومة السورية، فـ”قوات سوريا الديمقراطية” تسيطر على حقول العمر (وهى الأكبر في سوريا)، فضلاً عن حقلين في منطقة دير الزور شرق البلاد، علاوة على حقل للنفط في الحسكة شمال شرقى البلاد، وحقول أصغر في الرقة بعد السيطرة عليها من تنظيم “داعش”، وتسيطر كذلك على حقلى غاز، واحد في دير الزور والآخر في الحسكة. في حين تسيطر قوات الجيش السوري بشكل رئيسي على أربعة حقول في دير الزور، وحقل في الرقة، فضلاً عن سيطرتها على حقل الشاعر (أكبر حقول الغاز)، وحقول أخرى في حمص.[3]
وكان إنتاج العام من النفط والغاز الطبيعي قد قلّ لمستويات منخفضة للغاية أثناء اندلاع الحرب، وتوقفت أعمال التنقيب والتشغيل، لكن مع استقرار الأمور في سوريا عادت شركات الطاقة الروسية لاستئناف عملها، وتنفيذ العقود المبرمة التي حازتها.
قطع الطريق على الاتحاد الأوروبي
لا يمكن فهم محاولات روسيا للهمينة على سوق الطاقة في سوريا سوى بتحليل العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي فيما يخص قطاع الطاقة، تحديدا الغاز الطبيعي الذي تعتبر روسيا المورد الأساسي له لدول أوروبا.
طوال الوقت كان يُنظر لإمدادات النفط والغاز الطبيعي الروسية ( وقبلها السوفييتة) لأوروبا باعتبارها أحد العوامل التي قد تضعف بشكل كبير وحدة التحالف الأوروبي، وتضعف أيضًا من استقلالية القرار السياسي في بعض الدول الأوروبية، بالخصوص الشرقية، فأوروبا تستورد تقريبا ثلثيّ الغاز الطبيعي الذي تستهلكه، و40% تقريبا من هذا الاستيراد من روسيا، وتعد ألمانيا وإيطاليا أكبر المستوردين الأوروبيين للغاز الطبيعي الروسي.[4]
وبالتالي فإن حدوث أي أزمة سياسية كبرى بين روسيا والاتحاد الأوروبي تقرر فيها الأولى بشكل مفاجئ تعطيل خط الإمداد عن دول بعينها في أوروبا معناه خسائر اقتصادية وحيوية فادحة، على الأقل حتى تستطيع هذه الدول توفير إمدادات من دول أخرى، أو الاستعاضة عن الغاز الطبيعي ببدائل طاقوية أخرى، وهي أمور يصعب تبنيها بين يوم وليلة.
كانت أوروبا قد جرَّبت التهديدات الروسية بقطع الغاز الطبيعي عنها في الأزمة الأوكرانية-الروسية، حيث رفضت كلاً من أوروبا وأمريكا الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وقامت بفرض عقوبات على روسيا، لتتخذ الأخيرة موقفا مضادا بتهديد أوروبا بقطع الغاز الطبيعي عنها، وهو ما أحدث توترا كبيرا في العلاقة الأوروبية-الروسية حينها.
لذا كان التوجه الاستراتيجي لدول الاتحاد الأوروبي هو تنويع مصادر توريد الغاز الطبيعي، بتأسيس خطوط للغاز تأتي مباشرة من دول آسيا الوسطى، أو من الحقول القريبة في حوض شرق البحر المتوسط، حتى تزداد حرية التصرف لدول الاتحاد الأوروبي الذي يضع إصبع احتياجاته من الغاز الطبيعي بشكل أساسي تحت ضرس الإنتاج الروسي.
في هذا الإطار يمكن فهم الموقف العدائي الروسي لمشروعات خطوط أنابيب تنقل الغاز الطبيعي لأوروبا، مثل مشروع نابوكو، وهو المشروع الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الطبيعي من منطقة آسيا الوسطى مرورا بتركيا إلى النمسا وبلغاريا ورومانيا والمجر وبقية دول أوروبا، ويعد أكبر خط مقترح من بين ثلاثة خطوط من المفترض أن يتم الاعتماد عليها لتصدير الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى والقوقاز إلى الأسواق الأوروبية.[5]
بالإضافة لذلك، كان لروسيا دور في الضغط على الأسد لرفض مشروع تقدمت به الدوحة إلى بشار الأسد في العام 2009 يسمح لقطر التي تمتلك احتياطًا ضخمًا من الغاز الطبيعي بتصدير غازها الطبيعي إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا، لكن المشروع أُجهض بسبب العلاقات الوطيدة التي تربط الأسد بروسيا وإيران.
بالعودة إلى القارة العجوز، نجد أن الاتحاد الأوروبي مستفيد بشكل ما بالاكتشافات الضخمة في حوض شرق المتوسط، كأحد الحلول على المدى الطويل في تنويع مصادر الغاز الطبيعي، ومن هنا يمكن تفسير التدخل الأوروبي في المفاوضات التي جرت بين دول حوض شرق المتوسط بسبب النزاع على مناطق الحدود البحرية المحتوية على مكامن الغاز الطبيعي، لتقليل التوتر بين الدول التي تحوي مناطقها البحري احتياطات الغاز، والوصول لصيغة تعاون تسمح بتمرير الغاز الطبيعي إلى أوروبا في أقرب وقت، فضلاً عن أن وجود الأوروبيين في هذه المفاوضات يسمح لهم بالشراكة أكبر في مشروعات التنقيب، أو التفاوض لاحقا على أسعار الغاز الطبيعي الموردة لهم من هذه الدول، وبالتالي التحرر التدريجي من قيد الغاز الروسي.
كيف تحاول الولايات المتحدة كسر الجموح الروسي؟
تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية موقفا راديكاليًّا أكبر حتى من أوروبا نفسها في الحرص على أن تقوم دول الاتحاد الأوروبي بالتعاون لتنويع مصادر الغاز الطبيعي بعيدًا عن روسيا، لأن واشنطن ترى أن موسكو تقوم بلي ذراع الأوروبيين في الخلافات السياسية بسبب الغاز الطبيعي، للدرجة التي جعلت الولايات المتحدة تتوجه بانتقادات كبيرة لألمانيا إثر انخراطها في اتفاقيات مع موسكو على تشغيل المسار الثاني لخط التيار الشمالي “نورد ستريم”.
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية كبح جماح النفوذ الروسي عن طريق دعمها لتأسيس خطوط نقل بعيدا عن السيطرة الروسية، كذلك محاولات واشنطن الدؤوبة لتقليل حركة التوسعات الروسية التي تضر بشكل مباشرة المصالح الأمريكية، بفرض عقوبات على شركات النفط والغاز الدولية المتعاونة مع شركات الغاز الروسية، كالقرار الذي اتخذه ترامب في نهاية 2019 بفرض عقوبات على الشركات المساهمة في بناء خط أنبوب الغاز الروسي (نورد ستريم 2)، الذي يمر تحت بحر البلطيق، ويفترض أن يسمح بمضاعفة الشحنات المباشرة من الغاز الطبيعي الروسي باتجاه أوروبا الغربية، عن طريق ألمانيا، المستفيد الأكبر من المشروع.[6] كان هذا الخط قد تسبب في زيادة التوتر بين أوروبا وواشنطن، حيث تعتبر الأخيرة أن مشروع (نورد ستريم 2) سيُرهن مسار الطاقة لأوروبا-الحليف الاستراتيجي والأهم للولايات المتحدة- للتحكم الروسي.
وفي مناورة لعدم ترك الساحة في سوريا خالية للروس، وبالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت عن سحب قواتها من شمال سوريا، إلا أنها تركت قوة تُقدَّر بـــــــ 500 جندي لحماية منشآت نفطية، جنبا إلى جنب مع قوات ذات قيادة كردية، والتي تُعتبر هي المستفيد الرئيسي من الإنتاج النفطي هناك، وفي تصريح لا يخلوا من الصراحة المعهودة على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن بأنه يتوقع أن تجني بلاده ملايين الدولارات شهريًّا من عائدات النفط في سوريا طالما بقيت القوات الأمريكية في شمال سوريا.[7]
المراجع
[1] David Butter, Syria desperately seeks fuel. Petroleum Economist, 28 March 2019 : https://www.petroleum-economist.com/articles/politics-economics/middle-east/2019/syria-desperately-seeks-fuel
[2] نيكيتا سوغولوف، الأهداف الطاقوية لروسيا في سوريا، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 30 أغسطس 2017: https://www.washingtoninstitute.org/ar/fikraforum/view/russias-energy-goals-in-syria.
[3] كيف يعكس النفط والغاز تفاعلات الشرق الأوسط في عام 2019؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 2 سبتمبر 2019 : https://cutt.us/rpm9n
[4] Jorome D.Davis, Natural Gas and Eu Energy Security in Finn Laursen (ed), The EU in the Global Political Economy, EU Centre of Excellence and Dalosuie University, Brussels, 2009, P.177. Also you can check : أندرو رادين (مؤلف وآخرون)، روسيا والغرب بعد الأزمة الأوكرانية: أوجه الضعف الأوروبية جراء الضغوط الروسية، مؤسسة راند للأبحاث، كاليفورنيا، 2017، ص ص: 30-36
[5] زيد الخفاجي، وآسيا السلطاني، الأهمية الجيوسياسية لموقع أوكرانيا الجغرافي في الصراع الروسي الأمريكي وأثره على أنابيب النفط والغاز، مجلة العلوم الإنسانية، كلية التربية للعلوم الإنسانية، المجلد 26، العدد الثالث، بغداد، سبتمبر، 2019، ص ص: 23-24.
[6] ترامب يوقع قانون فرض عقوبات على أنبوب الغاز “نورد ستريم”، فرانس 24، 12 ديسمبر 2019 : https://cutt.us/bpdEe
[7] Syria war: Who benefits from its oil production?, BBC, 21 November 2019: https://www.bbc.com/news/50464561
.
رابط المصدر: