في العمل الجماعي السريع الإيقاع والممتد عبر التخصصات وعبر الحدود ليس من السهل على الأفراد أن يشاركوا أفكارهم وخبراتهم بسرعة؛ فبعض الأشخاص يشعرون بالقلق إزاء نظرة الآخرين لهم، ويخشى بعضهم أن يُنتَقَص من قيمتهم إذا ما أفصحوا عمَّا يعرفونه، ويأبى آخَرون الاستعراضَ؛ وحتى تقبُّلُ أفكار الآخَرين يمكِن…
إن ضغط الوقت الذي نشعر به جميعًا اليومَ يعني أن المنهجيةَ البالغة التنظيم -التي يخطِّط فيها المديرون كلَّ جانب من مشروع ابتكاري ضخم، بحيث يقسمونه إلى مهامَّ متخصصة تُنفَّذ بنحوٍ منفصل على مراحل- غيرُ واقعية، بل يصبح هذا التخطيط أقلَّ واقعيةً حين «تُلقَى» المهامُّ المُنجَزة عبر الحدود إلى وظائف أو تخصصات أخرى؛ ذلك أن هؤلاء الذين يوجدون على الجانب الآخر من الحدود -على الأرجح- لا يفهمون تمامًا ما الذي يتلقَّوْنه. بدلًا من ذلك، يتعيَّن هدْمُ تلك الجدران الموجودة بين التخصصات، ويجب تنسيق العمل المتزامن على المهام المرتبطة والتشاور بشأنها خلال رحلة العمل الجماعي الديناميكية.
يضرب مركز الألعاب المائية المبتكَر إلى حدٍّ مدهش (على المستويين المرئي والوظيفي)، الذي بُنِي من أجل أولمبياد بكين عام ٢٠٠٨ وسُمِّي ﺑ «مكعب المياه»؛ مثالًا جيدًا -بدرجة استثنائية- على الابتكار الذي يمكن أن ينتج عن العمل الجماعي الذي يتجاوز حدودَ التخصصات؛ حين يكون ناجحًا.
في البداية، كان الهدف واضحًا ومحفِّزًا على حد سواء، ممثِّلًا مبدأ «تطلَّع إلى هدف طموح»، أَلَا وهو: تشييد مبنًى بارز ومميز للسباحة والغطس، من شأنه أن يعكس الثقافة الصينية، ويتكامل مع الموقع الموجود فيه، ويقلِّل استهلاك الطاقة إلى الحد الأدنى. كان يتعيَّن أن يكون المبنى مذهلًا من الناحية الجمالية، «صديقًا للبيئة»، وغير مسبوق، وأن يُنجَز في الوقت المحدد، كما كان يجب أن يضمَّ تقاليدَ صينية وغربية؛ لكي يروق للجنة الاختيار ولملايين المتفرجين. ولتحويل مكعب المياه من كونه فكرةً إلى مبنًى مكتمل في وقت قياسي، تمَّ الاعتماد على العمل الجماعي المتجاوز للتخصصات والقارات والمؤسسات. تضمَّنَ العمل الجماعي بقيادة تريسترم كارفري – كبير المهندسين الإنشائيين في شركة أروب في سيدني بأستراليا – أكثر من ٨٠ فردًا من أربع مؤسسات (هي: أروب، وبي تي دبليو آركيتيكتس، والشركة الصينية الحكومية للإنشاء والهندسة، والشركة الصينية الدولية لتصميم الإنشاءات)، وكانت تخصُّصات الفريق تبلغ ٢٠ تخصُّصًا من أربع دول.
أثناء تنفيذ العملية، اجتمع خبراء مختلفون معًا في مراحل متعددة لمناقشة الأفكار التصميمية، ولِقَدْح زِناد أفكارهم بشأن الاحتمالات بدلًا من الاندفاع إلى العمل على تصميم واحد. وخلال هذه الحوارات، تعمَّقوا بوضوح في مسألة الكيفية التي قد تختلف بها المعاني الثقافية لعناصر التصميم عبر الأمم. وقد كان التفاعُلُ عبر ثقافات مختلفة يمثِّل تحديًا ضخمًا، وتمثَّل أحدُ الأساليب التي آتَتْ ثمارها، في تبادُل المتخصصين المطَّلِعين على الثقافتين بين الشركات لبعض الوقت، وهؤلاء المتخصصون الذين تجاوزوا الحدود فعليًّا ساعدوا طاقمَ المشروع على اهتمام بعضهم بلغة بعض، ومعاييرهم وممارساتهم وتوقُّعاتهم، فكانت النتيجة -كما رأينا جميعًا- مبنًى مذهلًا بمساحة ٣٤٠ ألف قدم مربعة، مؤطَّرًا بالصلب، ومُغطًّى بفقاعات زرقاء نصف شفافة صديقة للبيئة، ويسع ١٧ ألف متفرج؛ هذا إلى جانب حصاده عددًا من الجوائز المهمة في مجال الهندسة والتصميم.
في عصرنا هذا، لا يسع الأفراد -بغضِّ النظر عن مدى خبرتهم- أن يطوروا ابتكارات مهمة وحدهم، فتقل على نحوٍ متزايد احتمالاتُ أن تُجمَع أجزاء مفردة – مطوَّرة على نحو منفصل – في كلِّ واحدٍ له معنًى ويؤدِّي وظيفة محددة؛ مثل: مُنتَج جديد، أو فيلم روائي طويل، أو عملية إنقاذ، دون التواصل الكثيف عبر الحدود. لذا كيف يمكن التغلب على الحدود الموجودة بين المجموعات المختلفة؟ يمثِّل كلٌّ من الفضول والأمان النفسي ووضع توجيهات عامة للعملية، ثلاثةَ عناصر أساسية في هذا الشأن.
1- الفضول المتبادل
إن الفضول الأصيل فيما يتعلق بما يفكر فيه الآخرون، ويقلقون بشأنه، ويطمحون إلى تحقيقه؛ شيء لا يُقدَّر بقيمة في مسألة تجاوز الحدود الموجودة بين مجموعات العمل المختلفة. ومن خلال تنمية الفضول فيما يتعلق بما يحفِّز الآخرين ويجعلهم يعملون على نحو جيد، يستطيع كلٌّ منَّا الإسهامَ في خلق بيئة يكون من المقبول فيها التعبير عن الاهتمام بأفكار الآخرين ومشاعرهم. ويستخدم إد شاين؛ الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – وهو باحث بارز في مجال الثقافة المؤسسية – مصطلحَ «الجزيرة الثقافية المؤقتة» في وصفه لعملية مشاركة المعلومات المهنية والشخصية اللازمة في مجموعة عمل متعدِّدة الثقافات. (لاحِظْ أن كلمة «ثقافة» تنطبق على الأمم والشركات والمهن وغيرها من الجماعات.) تتضمَّن العمليةُ الحديثَ عن المشاعر والتجارب الفعلية، وتحفِّزها أسئلة مدروسة يطرحها القائد الذي يقوم بدور المنسِّق. يوضِّح شاين أن الافتراضات الثقافية المرتبطة بالسلطة والحميمية مسائلُ رئيسيةٌ في الفِرَق المختلفة ثقافيًّا؛ فحين ينتهك شخصٌ من ثقافةٍ بعينها قاعدةً سلطوية تُؤخَذ على نحوٍ مُسلَّم به في ثقافة أخرى – على سبيل المثال: من خلال التحدُّث بأسلوب ودود للغاية مع شخص ذي منزلة عالية – قد يشعر شخصٌ ما بأن هذا السلوك غير مقبول؛ فحين نشارك قصصًا يُكشَف فيها عن هذه الموضوعات، تبدأ الحدود في الاختفاء.
2- الأمان النفسي
لن تنجح عملية تجاوز الحدود ولا يمكن للابتكار أن يزدهر في بيئة تفتقر إلى الأمان النفسي. يصف الأمان النفسي مناخًا اجتماعيًّا يشعر فيه الأفراد بالقدرة على التعبير عن أفكارهم، وطَرْح الأسئلة، والإقرار بالأخطاء بسرعة، وإثارة المخاوف حول المشروع مبكرًا وكثيرًا؛ هذا بالإضافة إلى أنهم يشعرون بالمسئولية تجاه القيام بذلك. ولا تتمثل المسألة في أنه من السهل عليهم أن يتحمَّلوا هذه المخاطر الشخصية؛ لكنهم يدركون أن هذا متوقَّع منهم؛ إنه جزء من عملية التعاون، كذلك هم يدركون أن العمل الجماعي ضمن فريق بقدر ما هو مُجْزٍ، فإنه ينطوي على تحديات. ومن دون هذه السلوكيات – التي يمكن أن تبدو محفوفة بالمخاطر على نحوٍ استثنائي في التسلسلات الوظيفية الهرمية – يبقى الابتكار الناجح احتمالًا غير وارد. يصوِّر الجدول رقم ٢-١ الأفعالَ القيادية التي تساعد على بناء مناخ مُفعم بالأمان النفسي، الذي يُمكِن في إطاره للابتكار أن يزدهر.
في العمل الجماعي السريع الإيقاع والممتد عبر التخصصات وعبر الحدود – كما هو الحال في مشروع مكعب المياه – ليس من السهل على الأفراد أن يشاركوا أفكارهم وخبراتهم بسرعة؛ فبعض الأشخاص يشعرون بالقلق إزاء نظرة الآخرين لهم، ويخشى بعضهم أن يُنتَقَص من قيمتهم إذا ما أفصحوا عمَّا يعرفونه، ويأبى آخَرون الاستعراضَ؛ وحتى تقبُّلُ أفكار الآخَرين يمكِن أن يكون صعبًا إذا ما بَدَا كاعتراف بالضعف. ونظرًا لأن المحادثات الشخصية المهمة لا تحدث دائمًا على نحو تلقائي، فإنه يجب على القادة تيسيرها. تتمثَّل إحدى الطرق الأساسية للمساعدة في بناء الأمان النفسي، بصفتك قائدًا، في صياغة السلوكيات التي يعتمد عليها العمل الجماعي، مثل طرح أسئلة عميقة، أو الإقرار بجهلك بشأن موضوعٍ أو مجالِ خبرةٍ ما. والقادة الذي يتصرَّفون على هذا النحو، يجعلون المناخ أكثر أمانًا للآخرين ليفعلوا الأمرَ نفسه؛ وبإدراك هذا الأمر، خلَقَ قائدُ الفريق الهندسي كارفري ما أشار إليه أفرادُ فريقِ بناءِ مكعب المياه ﺑ «بيئة تصميم آمِنة».
٣- وضع توجيهات عامة للعملية
في إطار جهد العمل الجماعي المعقَّد، من المهم أن تضع توجيهات عامة للعملية يوافق كلُّ الأفراد على اتِّبَاعها. إن وجودَ استراتيجية لإدارة الحدود بين التخصصات أمرٌ جوهري، والتوجيهاتُ العامة ضروريةٌ لتحديد النقاط التي يجب أن تلتقي عندها أنشطةُ العمل الجماعي لتنسيق الموارد والقرارات؛ لذلك تبنَّى كارفري وفريقُه استراتيجيةً ﻟ «إدارة نقاط التفاعل»، التي تقسِّم المشروع إلى «أجزاء» بناءً على الحدود المادية والزمنية، وكان فريقٌ فرعي مسئولًا عن كل جزء، وكانت نقطةُ التفاعل تحدث حين يمسُّ أيُّ شيءٍ حدًّا أو يتجاوزه. وكانت اجتماعاتُ تنسيقِ نقاط التفاعل تُعقَد بانتظام لإدارة الحدود المادية والوظيفية والتعاقدية والعملية، ومن خلال التوثيق الشامل، قلَّصَ الفريقُ الأخطاءَ – التي كان من المحتمل أن تحدث لولاه – عند هذه الحدود؛ مما ساعَدَ على توفيرِ المواد والأموال، وتجنُّبِ الخلاف.
تقبُّل مخاطر العمل الجماعي
إن الابتكار يتضمن أفرادًا، والأفراد – مثلما نعرف جميعًا – كائنات معقدة.
ونظرًا لأن الابتكار يتطلب القدرةَ على حل المشكلات على مستويات عديدة، بدايةً من المهارات العملية إلى الخبرة والإبداع، فإن العمل الجماعي من أجل الابتكار غالبًا ما يتضمن قدرًا كبيرًا من التنوُّع. وفي الواقع، كلما زاد التنوع بين أفراد الفريق -في الخلفيات والمهارات والخبرة- زادت احتمالية النجاح، وزادت كذلك احتمالية حالات سوء الفهم والخلاف الإشكالي. ويمكن لممارسات العمل الجماعي الموصوفة أعلاه أن تساعد فِرَق الابتكار في التغلُّب على هذه التحديات الحقيقية التي تقف في سبيل النجاح.
لقد غطَّينا لتوِّنا بعضًا من التحديات المهمة التي تقف في سبيل العمل الجماعي من أجل الابتكار، لكن واحدًا من أكبر هذه التحديات (وهو أمر بالغ التعقيد) يلوح في الأفق؛ وهو «الإخفاق». إن الإخفاق كثيرًا وعلى نحوٍ ذكيٍّ جزءٌ أساسي من عملية الابتكار، ويتمثَّل الإخفاق على نحو ذكي في إدراك ما نعرفه وما لا نعرفه، واكتشاف ما علينا القيام به بعد ذلك.